بائعو الوهم .. هوس السحر والشعوذة والدجل
بقلم: د. حسن هاشم حمود
باحث في مركز الفيض العلمي لاستطلاع الرأي والدراسات المجتمعية
يُعَدّ السحر إحدى أقدم الظواهر الاجتماعية والفكرية التي رافقت الإنسان منذ نشأة وجوده، حيث شكّل وسيلة أولية حاول من خلالها الإنسان السيطرة على تقلبات الطبيعة وتفسير ما يحيط به من أحداث غامضة. وقد ارتبطت هذه الممارسات بطقوس جماعية وفردية هدفت إلى مواجهة المخاطر البيئية والاجتماعية والنفسية. وفي هذا السياق، برز السحر كإطار رمزي ومعرفي ساعد الإنسان الأول على التعامل مع المجهول قبل ظهور الدين والعلم، ومن أبرز من تناول هذه الظاهرة الأنثروبولوجي جيمس جورج فريزر (1854–1941) في مؤلفه الموسوعي الغصن الذهبي، حيث أظهر أن السحر لم يكن مجرد أوهام فردية، بل نظام ثقافي واجتماعي متكامل شكّل مرحلة محورية في تطور الفكر الإنساني.
ومع تطور الحضارات وظهور الديانات الوضعية والسماوية ثم تقدم المعرفة العلمية، أخذ الإنسان يتجه نحو البحث العقلي والتحليل التجريبي لفهم الظواهر الطبيعية والاجتماعية، مما أدى تدريجيًا إلى تحرر العقل من سطوة الخرافة والشعوذة، وعلى الرغم من أن السحر بات يُعد ممارسة متخلفة ومرفوضة من قبل المجتمعات الحديثة، فإن رواسبه لا تزال حاضرة في بعض البيئات، خصوصًا تلك التي تعاني من ضعف الوعي الثقافي وكثرة الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، هذه الظروف تُسهم في إعادة إنتاج أنماط التفكير السحري، حيث يلجأ الأفراد إلى المشعوذين طلبًا للحماية أو الأمل أو الخلاص من واقع مأزوم.
وانطلاقًا من ذلك، تهدف هذه الدراسة إلى تسليط الضوء على ظاهرة السحر في المجتمع العراقي المعاصر، مع تناولها من زوايا قانونية ودينية وسوسيولوجية، بغية الكشف عن أبعادها وآثارها على الفرد والمجتمع.
الرؤيه الدينية للسحر
عَدّ السحر من أقدم الممارسات التي رافقت المجتمعات الإنسانية منذ العصور الأولى، غير أنّ الأديان السماوية قد تعاملت معه باعتباره انحرافًا عن المسار القيمي والديني، وممارسة محرّمة لما ينطوي عليه من خداع وتضليل، وغالبًا ما عدّ الدارسون وجود المعتقدات السحرية وممارساتها في الحياة اليومية شكلاً من أشكال الدين الشعبي أو التقاليد الصغيرة التي تتوارثها المجتمعات، فيما اعتبره المصلحون الدينيون صورةً مشوّهة أو مفسدة للدين.
في التجربة المسيحية المبكرة، وصفت الكنيسة الأولى السحر بأنه بقايا وثنية ارتبطت بالديانات السابقة على المسيحية، وقد تعاملت السلطات الكنسية بصرامة مع هذه الظاهرة، إذ تشير التقديرات التاريخية إلى أنّ ما يزيد على نصف مليون شخص أُدينوا بممارسات مرتبطة بالسحر وأُحرقوا في أوروبا بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر، تحت تهمٍ متصلة بعبادة الشيطان أو التحالف معه، أمّا في الديانة المسيحية نفسها، فقد ورد في الكتاب المقدس ان السحر محرم تحريمًا قاطعًا على اختلاف انواعه فورد في الكتاب االمقدس ” لا تتعلم ان تفعل مثل رجس اولئك الامم لا يوجد فيك من يجيز ابنه او ابنته في النار، ولا من يعرف عرافة ولا عائف ولا متفائل ولا ساحر…الخ كل من يفعل ذلك يعد رجسًا مكروهًا عند الرب.
وفي الإسلام، نجد موقفًا مماثلًا من حيث الذم والتحريم، فقد واجه الأنبياء أقوامهم الذين اتهموهم بالسحر أو الجنون، كما في قصة النبي موسى (عليه السلام) مع سحرة فرعون، وهي القصة التي تُظهر الصراع بين المعجزة الإلهية التي تجري بإرادة الله، وبين الخداع البصري والشعوذة التي يمارسها السحرة، وقد روى القرآن هذه المواجهة في سور متعددة، منها قوله تعالى: «وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ» (يونس: 79)، وانتهت بانتصار الحق، إذ آمن السحرة برب العالمين، في مقابل إصرار فرعون على العناد والطغيان.
كما يؤكد الإسلام على مركزية العقل بوصفه مرجعًا في إدارة الحياة، فقد ورد عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) (دين المرء عقله ولا دين لمن لا عقل له)، وعن الإمام علي (عليه السلام):( العقل رسول الحق) ومن هنا اعتبر الفقهاء السحر والشعوذة من كبائر الذنوب، بل وصل بعضهم إلى مساواتها بالكفر، وقد فرّق المفسرون بين نوعين من السحر:
الخداع والشعوذة وخفة اليد، وهو لا حقيقة له سوى الإيهام.
السحر المؤثر، الذي قد يُحدث أثرًا واقعيًا مثل التفريق بين الزوجين.
ويُميز علماء المسلمين بين السحر والمعجزة، فالمعجزة تتحقق بإرادة الله وحده ومرتبطة بادعاء النبوة، بينما السحر قائم على التعلم والممارسة ولا يمتّ للنبوة بصلة.
على المستوى الاجتماعي، يرى باحثون معاصرون مثل الشيخ حسن الصفار أن انتشار الخرافات، ومن بينها السحر، يمثل تكبيلًا لدور العقل وإضعافًا لقدرته على توجيه الحياة وفق نظام عقلاني. وفي السياق ذاته، تشير دراسات ميدانية إلى الحجم الاقتصادي والاجتماعي الهائل لهذه الظاهرة: فبحسب دراسة للمركز القومي للبحوث الاجتماعية في مصر، يقدَّر عدد السحرة والمشعوذين وقرّاء الكف والفنجان في الوطن العربي بنحو 250 ألف شخص، يستهلكون من الأموال ما يزيد على خمسة مليارات دولار سنويًا، كما أحصت الدراسة أكثر من 470 خرافة يتعامل معها الناس باعتبارها مسلّمات لا سند لها عقليًا ولا دينيًا.
ولا تقتصر الظاهرة على العالم العربي والإسلامي؛ ففي فرنسا- مهد الفيلسوف ديكارت وأبو العقلانية الحديثة- تشير تقديرات رسمية إلى وجود أكثر من 50 ألف مشعوذ ومنجم يقصدهم سنويًا ما يزيد على عشرة ملايين شخص، محققين أرباحًا خيالية تصل إلى نحو 4 ملايين دولار سنويًا لكل واحد منهم.
يتضح من ذلك أن السحر، رغم رفضه الديني وذمه الأخلاقي، ما زال يشكّل بنية اجتماعية واقتصادية قائمة، تقوم على بيع الوهم وتغذية الخوف والاضطراب النفسي، في ظل ضعف الوعي العلمي وتراجع المرجعية العقلية.
السحر في القانون العراقي
هل يعاقب القانون الجنائي العراقي على أعمال السحر والشعوذة؟
لا يعاقب القانون الجنائي العراقي على أعمال او أفعال السحر والشعوذة حيث لم ينص المشرع العراقي بشكل واضح وصريح على تجريم هكذا أفعال او تصرفات ولم يتطرق لها لا من قريب ولا من بعيد، ولكن هناك بعض الحالات الاستثنائية التي يعاقب بمقتضاها هؤلاء السحرة والدجالين سوف نتطرق اليها فيما بعد، بغض النظر عن كافة المسميات أو ألقاب التي يتخذونها هؤلاء الأشخاص سواء كانت (الشيخ ابو فلان او المعالج الروحاني فلان اوالعراف فلان الفلاني… ) بنهاية تعتبر أقنعة مزيفة لكسب الزبائن أو العملاء (الضحايا) ولتحقيق منافع وغايات خاصة بهم، في هذا الصدد ننوه على مسألة جدا مهمة الا وهي هناك ما يسمى بالرقية الشرعية وهي عبارة عن آيات قرآنية وادعية يتم قراءتها من قبل الشخص المعالج على المريض على اعتقاد انه سوف يشفى من المرض وفي بعض الحالات لربما تصل إلى الضغظ والضرب على مواضع مختلفة من الجسم كما هو الحال بالنسبة للعلاج بالطب الطبيع أو الفيزيائي.
هنا يجب أن نمييز بين حالتين الحالة الأولى التي لا يعاقب عليها القانون وهي في حالة لو قام هذا الشخص المعالج أو الروحاني بقراءة الآيات أو الأدعية على المريض ولكن دون مقابل مادي ولا يهمنا سواء تحققت نتيجة الشفاء ام من عدمه هنا سوف يكون الشخص(المعالج) غير مسؤول جنائيًا على اعتبار انه لم يتوفر القصد الجنائي من فعله أو عمله، إذ انه كان حسن النية.
اما في حالة لو كان هذا الشخص المعالج يتقاضى لقاء عمله اية منافع مادية (نقود مثلًا) هنا بجميع الاحوال سوف يكون مسؤول جزائيًا عن فعله ويعاقب قانونًا سواء تحققت النتيجة ام من عدمه وهذا بكل تأكيد يرجع إلى الضحية هو من يقرر ذلك لربما فعلًا يتم شفاءوه وبالتالي لا يقيم الشكوى الجزائية بحقه اعتقاد منه هو من شافاه.
يكون التكيف القانوني لفعل هولاء السحرة والدجالين والمشعوذين وفق المادة (٤٥٦) من قانون العقوبات العراقي رقم ١١١ لسنة ١٩٦٩ المعدل، اي انها جريمة جنحة وتصل عقوبة الفاعل بمقتضاها إلى الحبس مدة لا تزيد على خمس سنوات.
شروط تتحقق جريمة الاحتيال الخاصة بالسحر
ان لهذه الجريمة ثلاثة أركان مادية ومعنوية وقانونية حيث يجب أن تكون هذه الأركان الثلاثة مجتمعة ومتساندة ومتماسكة يكمل بعضها البعض حيث لو انهار احد الأركان نكون أمام عدم مسؤولية جنائية لشخص وبالتالي لا يمكن أن نعاقبه وكما يلي :
-
الركن المادي: وهو سلوك خارجي يقوم به الشخص المتمثل باتخاذ اسم او صفة معينة مثاله (المعالج الروحاني ابو فلان) إضافة إلى ذلك يجب أن يتعزز هذا السلوك بمظاهر آخرى يستند عليها مثلا ان يكون بشكل او هئية معينة ويرتدي ملابس معينة (عباءة، وغترة لحية، محابس …. الخ) إضافة إلى ذلك أن يتخذ له مكان معين يمارس به هذه الأفعال (النصب والاحتيال على الضحايا) يضاف اليه يجب أن يستولي او يستحصل على المال من الضحية حيث تعد جريمة الاحتيال من الجرائم المركبة اي تتكون من عدة أفعال:
أ- اتخاذ وسائل احتيالية
ب- الحصول على المال بسبب هذه الوسائل الخداعية التي لجأ اليها الجاني، خلاصة القول يجب أن نكون أمام فعل او سلوك إجرامي ونتيجة إجرامية وعلاقة سببية بين الفعل والنتيجة التي تحققت، حسب نص المادة ٢٨ ق ع ع.
-
الركن المعنوي: وهو ان تتجه إرادة الجاني لتحقيق النتيجة الجرمية اي يجب أن يكون واعي ودارك ولديه ارادة حرة ويعلم انه يحتال على الناس بهذه الأفعال الوهمية والكاذبة لغرض ايهامهم وخداعهم لغرض الاستيلاء على مبالغ نقدية منهم أو اية منافع أخرى، حسب نص المادة ٣٣ ق. ع. ع
-
الركن القانوني او الشرعي: وهو النص على تجريم الفعل أو الامتناع عن أداء الفعل في نصوص قانون عقابي نافذ، وبخصوص جريمة السحر والشعوذة نستدل بها استنادًا إلى نص المادة( ٤٥٦) ق. ع. ع. حسب نص المادة( ١) ق ع ع وكذلك حسب نص المادة ١٩ /ثانيًا / من دستور جمهورية العراق لسنة ٢٠٠٥ النافذ.
السحر سوسيولوجيًا
يرى تايلور ان السحر كان موجودًأ في بادئ الأمر باعتباره تعبيرًا عن فكرة الإحيائية التي ترى ان الاشياء وكذلك البشر لها أرواح أو جوهر روحاني وكان الفكر الاحيائي والسحر سمة للشعوب التي تحتل مراتب دنيا على مقياس الإنسانية، وبعدها صك تايلور ايضًا مصطلح العلم الزائف لوصف السحر وكان يعني بهذا ان السحر على غرار العلم يفسر العلاقة السببية للاشياء ويستغلها لكنه علم فاسد لأن افتراضاته وتفسيراته البدائية حول السبب والنتيجة كانت دائمًا خاطئة، في حين عد جيمس فريزر نموذجه التطوري المكون من ثلاث مراحل لتطور البشرية او انتقالها من السحر إلى الدين إلى العلم، في حين يرى عالم الاجتماع الفرنسي اميل دوركهايم في كتابة الاشكال الاولية للحياة الدينية في ان الدين ينحصر في نطاق الالهة والكيانات الروحية فالدين نظام موحد من المعتقدات والممارسات المتعلقة بأمور مقدسة ويتسم بتحقيق الاندماج الاجتماعي وتشارك القيم والخبرات ويتهم السحر بالمعاملات بين الأفراد فهو يمثل تقديم خدمة للزبائن ولا يحقق اي وظيفة في التلاحم الاجتماعي فيقول السحر لا كنيسة له.
هناك اتفاق على ان الوهم مكون من مكونات السحر بمعناه الأوسع، وقد تحدث بذلك ابن خلدون عن سحر الحواية او الشعوذة واصفًا اياه بأنه ممارسة تأثير على قوى المخيلة، وفيه يُلقي الممارس وسط جمهور مشاهدية “انواعًا من الخيالات والتخيلات والصور … ثم ينزلها منزلة الادراك الحسي” لكن في الواقع لا وجود لشيء مما ينتجونه في العالم الظاهر، كان هناك بالطبع اوهام مادية ايضًا. وكذلك علق علماء الاجتماع على موضوعة السحر والشعوذة فيرى ماكس فيبر نظر إلى السحر باعتباره مرحلة أولية في تطور الفكر البشري، حيث يحاول الإنسان السيطرة على الطبيعة بقوى غامضة، ولكن مع التقدم العقلي والعلمي يحصل ما سماه “نزع السحر عن العالم ” (Disenchantment of the World)، أي أن العقلانية الحديثة تحل محل المعتقدات السحرية.
اما الدكتور علي الوردي يرى أن السحر يمثل مرحلة بدائية في مسيرة تطور العقل البشري، حيث لجأ الإنسان القديم إليه لتفسير الظواهر الطبيعية الغامضة قبل أن يعرف التفسير العلمي أو يعتنق الأديان السماوية. وهو يستشهد في هذا السياق بما جاء به جيمس فريزر في الغصن الذهبي، مؤكدًا ان السحر كان وسيلة للسيطرة الوهمية على الطبيعة، رغم التقدم العلمي، أشار الوردي إلى أن بقايا التفكير السحري ما زالت متجذرة في المجتمعات، لاسيما تلك التي تعاني من الأزمات والاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية، ويُرجع ذلك إلى حاجة الناس النفسية للهروب من الواقع المأزوم، مما يجعلهم عرضة لتأثير المشعوذين، ويربط الوردي انتشار السحر والشعوذة في العراق بظاهرة “ازدواج الشخصية”، إذ يعيش الفرد بين قيم حديثة مستمدة من العلم والدين الرسمي، وقيم تقليدية موروثة من العادات والخرافات، وهذه الازدواجية تجعله من جهة يرفض السحر علنًا بوصفه خرافة، ومن جهة أخرى يلجأ سرًّا إلى السحرة طلبًا للحل أو النجاة، وبذلك عد الوردي السحر والشعوذة ظاهرة اجتماعية مرتبطة بالبنية الاقتصادية والثقافية فكلما زاد الفقر والاضطراب قل وعي الناس وزادت قابلياتهم لتصديق الخرافة.
حالات الدراسة
الحالة الاولى (ك، م)
في أحد أزقة الكرخ ببغداد، يعيش شاب في الأربعين من عمره. للوهلة الأولى قد يبدو شخصًا عاديًا، موظفًا للحياة اليومية مثل غيره، لكن وراء ستارٍ خفي يختبئ عالم آخر، عالم الشعوذة الذي وجد فيه سبيلًا للربح السريع.
كان يتردد إلى منطقة الدورة حيث يقيم صديق له، وهناك حوّل غرفة صغيرة في منزله إلى مسرح لأعمال السحر، الأعشاب اليابسة، قطع الخرز الملون، الشموع المتناثرة، وأوراق تحمل طلاسم غامضة، كلها أدواته في إقناع زبائنه بقدرته على التحكم بالمصائر، كانت الطلبات متشابهة: “عمل للمحبة”، أو “طلسم لعقد اللسان”، أو “حجاب للحسد”.
اللافت أن هذا الرجل لم يكن يؤمن حقًا بما يقوم به، بل كان يقول لنفسه إن هذه مجرد خزعبلات، لكنه في الوقت ذاته يعترف أن بعض الحالات النادرة كانت تعطي انطباعًا بجدوى ما صنع، فيستغلها لرفع أسعاره، هنا يظهر تناقضه الداخلي: يدرك أنه يمارس الخداع، لكنه يجد فيه طريقًا مضمونًا للعيش.
الأرباح كانت مغرية، قطعة خرز أو شمعة لا تكلفه أكثر من ألف دينار، لكنه يبيعها بعشرة آلاف، ومع كل جلسة، يمكن أن يخرج بخمسين ألف دينار أو أكثر، لم يكن بحاجة إلى إعلان أو لافتة، زبائنه جاؤوا إليه عبر النساء اللواتي جرّبن “أعماله” وروين حكاياتهن لأخريات، وهكذا، تحولت النساء من ضحايا إلى وسطاء يجلبن له المزيد من الضحايا، تحت وطأة الحاجة والخوف من الفشل أو المشاكل الزوجية.
في أعماقه، كان يعرف أن ما يفعله ليس سوى وهم، لكنه كان وهمًا مربحًا، يتغذى على هشاشة الناس، على جهل بعضهن، وعلى قلق نساء يبحثن عن خلاص بأي ثمن، وبين قناعته الباطنية بعدم جدوى ما يقوم به، وبين الأموال التي تجري إلى جيبه، وجد نفسه عالقًا في لعبة شعوذة تفضح ضعف المجتمع أكثر مما تفضح دهاءه.
الحالة الثانية (أ.ح): السحر بين الوهم والاستغلال
ولد (أ.ح) عام 1985، وهو رجل متزوج يعمل في بيع مواد البناء، منذ شبابه، راودته رغبة غامضة في تعلم السحر، كأنها محاولة للهروب من واقع مأزوم أو بحثًا عن قوة مختلفة تمنحه السيطرة على ظروفه.
في أحد الأيام، وخلال زيارته لمرقد الشيخ عبد القادر الكيلاني، التقى بشخص غامض بدا متحفظًا وكثير الصمت. أثارت هيئته رهبة في نفس (أ.ح)، فبدأ يتقرب منه شيئًا فشيئًا، حتى تمكن من فتح حوار معه. وعندما طلب منه أن يعلمه السحر، أجابه الرجل بعبارة مثقلة بالريبة “هذا الطريق صعب… أو ربما أرسلك أحد عليّ؟”، لكنه مع مرور الأيام وافق أخيرًا على تعليمه.
أول ما تلقاه (أ.ح) كان نظامًا من الأحرف والأرقام: كل حرف يقابله رقم، وهذه الأرقام تُضرب أو تُطرح بأعداد رمزية مثل عدد أسماء الله الحسنى (99) أو عمر الرسول (65). وبعد فترة، زوده معلمه بأوراق مليئة بالدوائر والطلاسم.
بدأ (أ.ح) بتجربة هذه الأوراق على نفسه، فقد كان يعاني من الأرق المزمن. وللمرة الأولى استطاع أن ينام خمسة أيام متواصلة، لكنه سرعان ما عاد إلى حالته السابقة، بل وبدأ يعاني من أعراض مرضية مختلفة، الأمر الذي دفعه إلى التوقف، غير أن فضوله دفعه بعد فترة للعودة من جديد، فتعلم المزيد من العمليات العددية والرمزية.
ومع مرور الوقت، تحولت التجربة من بحث شخصي عن الخلاص إلى وسيلة للاحتيال والسيطرة، فقد استغل (أ.ح) النساء تحديدًا، ممن يعانين من أزمات زوجية أو مشكلات حياتية، إحدى ضحاياه كانت من شمال العراق، غير قادرة على السفر إلى بغداد، فأقنعها بأن العلاج يقتضي كتابة الطلاسم على جسدها وتوثيق ذلك عبر الكاميرا، وهكذا بدأ يطلب من النساء فتح الكاميرا، ثم يملي عليهن كتابة رموز معينة على أماكن محددة من أجسادهن، بينما يحتفظ هو بالصور ليضمن استمرار الخضوع.
أجور هذه الممارسات تراوحت بين (150,000 – 500,000) دينار عراقي، وفي بعض الحالات وصلت طلباته إلى (600,000 – 800,000)، بل وحتى ما يعادل (12 – 20) ورقة نقدية من فئة المئة دولار. وقد مارس نشاطه هذا لمدة سنتين، بمعدل متذبذب، أحيانًا مرتين في الأسبوع، وأحيانًا مرة في الشهر، وأحيانًا ينقطع لأسابيع أو أشهر، عدد الضحايا الموثقين بلغ 15 امرأة، لكن العدد الحقيقي يُرجَّح أنه أكبر.
المفارقة الكبرى أن (أ.ح) كان مقتنعًا في داخله أن هذه الأعمال مجرد وهم وخداع، لا قيمة لها ولا حقيقة وراءها، ومع ذلك، واصل استغلالها كأداة للسيطرة والابتزاز، جامعًا المال ومحققًا رغباته عبر وهم كان يؤمن هو نفسه بزيفه.
الحالة الثالثة (ح. ي)
من مواليد عام 1976، متزوج وأب لأطفال ويقيم في بغداد حيث يعمل موظفًا في إحدى الشركات، تمثل نموذجًا سوسيولوجيًا لظاهرة التحول من الممارسات الدينية البسيطة إلى مجال الشعوذة والسحر بهدف الكسب المادي.
بدأ مشواره بما يُعرف بالاستخارة، الأمر الذي أكسبه سمعة أولية بين الناس وجعل البعض يقصده لطلب المشورة الروحية، غير أن الدافع المادي سرعان ما دفعه إلى توسيع نشاطه، لينتقل تدريجيًا إلى ممارسة السحر والشعوذة، في هذا التحول، يظهر كيف يمكن أن تتحول الرمزية الدينية إلى أداة استغلال اجتماعي، خاصة عندما يقترن ذلك بضعف الوعي وانتشار الأزمات الأسرية.
أغلب الحالات التي قصدته كانت من النساء اللواتي يعانين من خلافات زوجية ويرغبن في استعادة أزواجهن وإخضاعهم لإرادتهن، وقد استغل (ح. ي) هذه الهشاشة العاطفية والاجتماعية ليُقنع ضحاياه بقدرته على التحكم في مصائر الأزواج عبر طقوس سحرية مزعومة، من أبرزها دفن أعمال سحرية في المقابر، مما منح تلك الممارسات هالة من الرهبة والخوف.
ورغم أن (ح. ي) كان يدرك تمامًا أنه يمارس الخداع والنصب، إلا أن تواطؤ ضحاياه النفسي ورغبتهم في تصديق الوهم جعلا من نشاطه موردًا ماليًا مربحًا، وهنا تبرز البنية السوسيولوجية لهذه الحالة: فالشعوذة لا تقوم فقط على “المشعوذ” بل تتغذى على حاجات اجتماعية غير مشبعة، وأزمات أسرية، وضعف في الثقافة العلمية والدينية، ما يفتح الباب أمام تحويل الخرافة إلى تجارة قائمة على الاستغلال.
الحالة الرابعة
في أطراف بغداد، يظهر رجل في الخمسين من عمره، متزوج مرتين وفاشل في حياته الأسرية، لكنه استطاع أن ينسج لنفسه عالمًا موازيًا من الشعوذة والادعاءات الروحانية، مسيرته لم تبدأ في العراق، بل في لبنان، حيث اختلط بلبنانيين وتوانسة ومغاربة، وتعلم على أيديهم أساليب السحر بالحجارة والأحجار الكريمة المزعومة، ومنذ أكثر من تسع سنوات جعل من هذه الممارسة موردًا ثابتًا للمال، رغم إدراكه التام بأنها لا تتعدى حدود الخرافة والوهم.
كان “الحجر” هو الركيزة الأساسية لعمله: الحجر السلطاني، العظم المنسوب إلى الهدهد، الأحجار السليمانية، وأخرى يصفها بـ”أحجار العظمة”، لكل حجر قصة ولكل قصة ثمن، بعض الأحجار يبيعها على أنها للحماية من “التابعة” أو الحسد، وبعضها لجلب الحبيب أو فتح النصيب أو الرزق، بينما يخصص أنواعًا أخرى لقضايا عشائرية معقدة، وكانت الأسعار باهظة: حجر يُباع بـ 300 ألف دينار، وآخر بـ 250 ألف، تُسلم المبالغ نقدًا من يد الزبون إلى يده.
المثير أن معظم زبائنه لم يكونوا من النساء كما قد يتبادر للذهن، بل من الرجال بنسبة تقارب 88%، يبحثون عن وسيلة لاستعادة الحظ، أو لإيقاع امرأة في شباكهم، أو حتى لتثبيت مكانتهم الاجتماعية. بهذا المعنى، لم يكن الرجل مجرد مشعوذ تقليدي، بل عرف كيف يقرأ احتياجات شريحة واسعة من الرجال الذين يعانون من القلق الاجتماعي والاقتصادي والعاطفي.
لتوسيع نشاطه، لم يكتفِ بالعلاقات المباشرة أو الوسطاء، بل استثمر الفضاء الرقمي، أنشأ خمس صفحات على “فيسبوك”، جعلها واجهة للترويج لـ”قدراته الروحانية”، الصور المموهة للأحجار، العبارات المليئة بالرموز الدينية والروحانية، وشهادات مزعومة لزبائن “سابقين”، كلها أدوات جذب لضحايا جدد.
لكن خلف هذه الواجهة البراقة، كان الرجل متهمًا بقضايا خطيرة وصلت إلى حد اتهامه باغتصاب أطفال. هنا تتجلى المفارقة الاجتماعية: مشعوذ يصف نفسه بـ”المختص في الروحانيات”، بينما يمارس في الواقع أبشع صور الاستغلال، وبينما يردد أنه لا يؤمن حقيقة بما يقوم به، فإن الإيمان الحقيقي الذي يحركه هو إيمان بالربح، حتى لو كان الثمن تدمير ثقة الناس واستغلال حاجاتهم ومخاوفهم.
إن دراسة هذه الحالة تكشف كيف يمكن للشعوذة أن تتحول إلى اقتصادٍ موازٍ، يُغذَّى بالأساطير الشعبية، والجهل، والهشاشة النفسية والاجتماعية، لتنتج مشهدًا مركبًا يجمع بين المال، الجنس، والديناميات القبلية، وكلها تحت ستار “الحجر” الذي لا يملك سوى قيمة مادية وهمية.
التعليق على حالات الدراسة
-
البُعد الاقتصادي: جميع الحالات الأربع تكشف أن السحر والشعوذة لم تعد مجرد ممارسات تقليدية، بل تحولت إلى اقتصاد موازٍ، قائم على بيع منتجات وهمية (طلاسم، بخور، أحجار) أو خدمات زائفة (استخارة، عقد لسان، التابعة وجلب الحبيب وامتلاك الجاه وامتلاك القدرة في حل النزاعات العشائرية).
-
البُعد الاجتماعي: النساء يمثلن الفئة الأكثر استهدافًا، نظرًا لهشاشة أوضاعهن الاجتماعية والنفسية، خصوصًا فيما يتعلق بالخلافات الزوجية في المقابل، أظهرت الحالة الرابعة أن الرجال أيضًا زبائن رئيسيون في هذا السوقلكن خصوصية هذه الحالة كونها ركزت على بيع الاحجار ومتعلقاتها الأخرى.
-
البُعد النفسي: الحاجة إلى السيطرة على المصير، الهروب من القلق، أو البحث عن الحب، كلها دوافع نفسية تجعل الأفراد عرضة للاستغلال.
-
البُعد التكنولوجي: حالتا (الثانية والرابعة) تعكسان دور التكنولوجيا (الكاميرا، فيسبوك) في تحديث أساليب الشعوذة وتوسيع قاعدتها الاجتماعية.
-
البُعد القيمي: المثير أن جميع الحالات تقريبًا تُظهر أن المشعوذين أنفسهم غير مقتنعين بما يفعلون، ويصفون الأمر بأنه “وهم وخداع”، لكنهم يستمرون فيه باعتباره موردًا مربحًا.
التوصيات
-
على المؤسسات الدينية تثقيف افراد المجتمع بخطورة اعمال السحر والشعوذة، ومخالفتها للقيم الدينية والضوابط الاجتماعية.
-
على المؤسسات الاعلامية والثقافية اقامة الورش والندوات، وتنفيذ برامج هادفة، لرفع الوعي المجتمعي حول الاثار السلبية وعمليات الاستغلال التي يمارسها السحرة والمشعوذون.
-
على الاجهزة الامنية متابعة ورصد هذه الحالات ومعاقبة مرتكبيها.
-
على مجلس القضاء العراقي افراد مواد قانونية تجرم عمليات الاستغلال والنصب الذي يمارسها هؤلاء.
الخاتمة
تؤكد هذه الدراسة أن السحر والشعوذة في المجتمع العراقي ليست مجرد ظاهرة هامشية، بل هي بنية اجتماعية- اقتصادية متكاملة، تتغذى على الجهل، والهشاشة النفسية، والاضطراب الاجتماعي، ومع اتساع أدواتها عبر الفضاء الرقمي، تتحول من ممارسة فردية إلى اقتصادٍ رمزي قائم على الاستغلال.
إن مقاربة الظاهرة سوسيولوجيًا تفرض النظر إليها ليس فقط كـ”خرافة”، بل كآلية اجتماعية تحمل آثارًا اقتصادية، نفسية، وجنائية خطيرة، تستدعي دراسة أعمق وإجراءات وقائية على المستويين الثقافي والقانوني.
المصادر
-
الاشقر، عمر سليمان، عالم السحر والشعوذة، دار النفائس، الاردن، ط3، 1997.
-
ديفيز، اوين، مقدمة قصيرة جدا في السحر، ترجمة رحاب صلاح الدين ، مؤسسة هنداوي، 2017.
-
العاملي، محمد بن الحسن الحر، وسائل الشيعة إلى تحصيل الشريعة، ج17،
-
الكايد، هاني، ميثولوجيا الخرافة والاسطورة في علم الاجتماع، الراية ط1، 2010.
-
هاريس، مارفن، مقدسات ومحرمات وحروب الغاز الثقافة، ترجمة احمد م. احمد، المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات، بيروت، ط1، 2017.
-
مركز بغداد، للتنمية القانونية والاقتصادية، هل يعاقب القانون الجنائي العراقي على اعمال السحر، تاريخ النشر 5 2022 https://bcled.org › … Jan 5, 2022