بقلم: د. حسن هاشم حمود
باحث في مركز الفيض العلمي لاستطلاع الرأي والدراسات المجتمعية
تشكل العملية الانتخابية، وخصوصًا الانتخابات التشريعية أو البرلمانية، أحد الركائز الأساسية في تكوين الهوية الوطنية والمواطنة في الدولة الحديثة، إذ تسعى إلى تعزيز الانتماء الجماعي من خلال سياسات مؤسسية وتنظيمية، مثل اعتماد نظام انتخابي يضمن تماسك الهوية السياسية والاجتماعية للمواطنين. ويُعدّ تصميم النظام الانتخابي من القرارات المؤسسية الهامة لأي نظام ديمقراطي، ولا سيما في الدول التي تمرّ بمرحلة انتقالية نحو الديمقراطية، والعراق كواحد من الدول التي شهدت اكثر من عملية انتخابية وتداول سلمي للسلطة بعد 2003 ومن الممكن أن تتأثر خيارات التصميم الانتخابي بعوامل تاريخية وسياسية مرتبطة ببناء الهوية المواطَنية.
كما يلعب النظام الانتخابي دورًا محوريًا ليس فقط في تحديد شكل الديمقراطية، بل أيضًا في استقرارها، لا سيما في المجتمعات متعددةالطوائف والاثنيات والتي لم تستكمل بعد عملية الاندماج الاجتماعي والسياسي، إذ تشير الدراسات النظرية والسياسية إلى أن تصميم الانتخابات يمثل أداة فعالة لإدارة الصراعات السياسية والاجتماعية، وضمان انسجام المجتمعات المتنوعة، وتسهيل تكيفها ضمن النظام الديمقراطي.
ولهذا يُنظر إلى الاختيار الفردي للناخب في التصويت على أنه قرار عقلاني يوازن بين المصلحة الفردية، وتوقعات تأثير التصويت، وإمكانية إحداث فرق ضمن الإطار المؤسسي والسياسي المحيط. طوّرت مقاربة الاختيار العقلاني في تفسير السلوك الانتخابي لتشمل نماذج أكثر تعقيدًا تتجاوز الحسابات النفعية البسيطة، وتهدف هذه النماذج الحديثة إلى تفسير لماذا يصوّت الأفراد رغم انخفاض احتمال تأثير أصواتهم على النتيجة، ولماذا يختارون أحزابًا أو مرشحين لا يحققون لهم دائمًا منفعة اقتصادية مباشرة.
وبذلك تصبح دراسة الاختيار العقلاني في التصويت أداة لفهم كيفية تفاعل الناخبين مع البنية الانتخابية، واستراتيجياتهم في اتخاذ قرارات مدروسة تعكس أهدافهم الفردية في سياق اجتماعي وسياسي محدد.
ولهذا جاءت ولادة مفهوم الناخب العقلاني او الناخب الاستراتيجي عقب التحليلات التي أجراها انتوني داونز، ففي الحملات الانتخابية للمرشحين افراداً وأحزاباً تتصاعد وتيرة التنافس بين المرشحين في تقديم الوعود والبرامج والاغراءات كتخفيف العبء الضريبي واصلاح المنظومة الصحية والتربوية واصلاح التشريعات وغير ذلك، فيما يسعى الناخبون الى تعظيم فوائدهم الى الحد الاقصى، فالناخب العقلاني يحاول الحصول مقابل صوته على افضل تأثير على الشروط المحسّنة لاوضاعه المتعددة، ومن المفترض أن يكون عارفاً بمصالحه وقادراً على تحديد خياراته، ولذلك لا بد من حصوله على المعلومات الكافية والمفيدة عن تاريخ المرشحين وانجازاتهم وسماتهم الشخصية والقيادية ومدى مصداقية الوعود والشعارات التي يطرحونها في برامجهم الانتخابية.
اولاً: التصويت العقلاني مقابل تعظيم تحقيق الاهداف
على مر التاريخ، كانت العقلانية البشرية- أي القدرة على التصرف من أجل تعظيم تحقيق الأهداف المفترضة للفرد (أي خياراته المثلى)- محط اهتمام العلماء الذين يدرسون الإدراك البشري في مجالات متنوعة (مثل الاقتصاد، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، والعلوم السياسية). كما تُعد العقلانية أساسًا للأنظمة الديمقراطية، إذ يُنظر إلى التصويت في الغالب على أنه “فعل مدروس”: القدرة والاستعداد لدى الأفراد للتصويت وفق تفضيلاتهم بعد التداول والنقاش، دون أن تُقيّد خياراتهم التصويتية (أي الأصوات الفعلية) بالقوة من قبل عوامل خارجية، تعد أمرًا جوهريًا لرفاهية أي نظام ديمقراطي. في مقالنا ندرس العقلانية في عمليات اتخاذ القرار في مواقف معقدة وحاسمة مثل الانتخابات السياسية، إذ يتيح فهم كيفية تأثير هذه القرارات على التصويت تقييم مدى عقلانية الإنسان وقوة الأنظمة الديمقراطية.
لقد كانت مدى قدرة الإنسان على اتخاذ القرارات بشكل عقلاني موضوعًا للنقاش طويل الأمد فمن جهة، تبنى العديد من الاقتصاديين مفهوم العقلانية النفعية، وحاججوا لموقف العقلانية الشاملة، فالقرارات البشرية تتخذ من أجل تعظيم صافي الفوائد الناتجة عنها، ومن جهة أخرى، وجد الباحثون في مجال الإدراك البشري أدلة تدعم موقف العقلانية المقيدة، حيث تُقيد قدرة الإنسان على اتخاذ القرار بالقيود البيئية والقدرات البشرية.
مع ذلك، فإن الفحص الدقيق للأدلة المتعلقة بنقاش العقلانية أظهر أن هناك تعريفات تشغيلية مختلفة لمفهوم العقلانية، على سبيل المثال، قد يعرّف الباحثون مفهوم “التحسين” بشكل مختلف تبعًا للمجال الذي يدرسون فيه العقلانية، فقد يعتمد بعض الباحثين على القواعد الرياضية (مثل القيم المتوقعة)، أو على الآراء الذاتية للأفراد (مثل التفضيلات في نظرية الاختيارات العقلانية، أو الأهداف، أو الاتساق). على الرغم من أن القواعد الرياضية تُعد وسيلة شائعة لتشغيل مفهوم العقلانية، إلا أنه ليس كل خيار يمكن أو يجب تعريفه بمصطلحات رقمية.

ففي مقالنا هذا نعرّف العقلانية على أنها القدرة على التصرف بطريقة تزيد من احتمال تحقيق أهداف الفرد والجماعة، أي أن الفرد يتصرف بما يتوافق مع نواياه لتحقيق هدف معين، وإذا أثرت المؤشرات البيئية والقدرات البشرية على الخيارات بطريقة تتجاوز النوايا، فإن الأدلة تشير إلى أن العقلانية تكون مقيدة.
على سبيل المثال، قد يعد شخص ما الاستدامة البيئية أهم قضية، والأمن القومي او محاربة الارهاب قضية ثانوية اوغير مهمة ولا تشكل اولوية في الوقت الحالي عند تقييم المرشحين. وبناءً على ذلك، ينوي التصويت للمرشح (أ)، الذي يتضمن برنامجه تعزيز حماية البيئة (أي نية التصويت)، ولكن في يوم الانتخابات، يصوت للمرشح (ب) بدلًا من ذلك، بسبب المؤشرات الموقفية (مثل هجوم إرهابي حديث) التي أثارت مخاوفه بشأن الأمن القومي، فتم إقناعه بوعود المرشح (ب) بإعطاء الأولوية للأمن القومي،هنا يكون تصويته غير عقلاني، ولكنه مقيد بمخاوفه حول الأمن القومي.
لذلك يعد وجود عدم اتساق بين نية التصويت والسلوك التصويتي دليلاً على العقلانية المقيدة؛ بينما يعتبر الاتساق بين نية التصويت والسلوك التصويتي دليلًا على العقلانية الشاملة (على سبيل المثال، إذا قام الشخص في المثال أعلاه بتنفيذ نواياه وصوّت للمرشح (أ)). بشكل مستقل، فإن العوامل التي وُجد سابقًا أنها تؤثر على خيارات التصويت (مثل تفضيل الحزب السياسي) ليست بالضرورة مؤشرات على العقلانية الشاملة أو العقلانية المقيدة، فإذا أثرت هذه العوامل بنجاح على نوايا وسلوك الأفراد، يمكن اعتبارها دعمًا لموقف العقلانية الشاملة في الإدراك البشري، وإذا لم تفعل يمكن اعتبارها دليلاً على موقف العقلانية المقيدة. وما جرى في الانتخابت البرلمانية العراقية لعام 2025 كانت التوقعات والاستطلاعات تشير الى انخفاض وعزوف الكثير من أفراد المجتمع عن المشاركة في العملية الانتخابية وكانت هذه المؤشرات واضحة في ساعات الصباح الاولى التي تشير الى قلة المشاركة لكن مع مرور الوقت بدات نسب المشاركة ترتفع وهذا مؤشر على العقلانية المقيدة لشعور المواطن بخطر عدم المشاركة مما دفعه ذلك الى الاندفاع بالمشاركة لاحساسه المسؤولية بعدهِ المشاركة كسلطة رقابية تحد من او تضعف من فرص انفراد الفاسدين في السلطة قدر الامكان.
ثانياً: توقعات المواطن العقلاني والوفاء العقلي من الكتل السياسية
ان المنعطفات السياسية التي يمر بها العملية السياسية في العراق ما بعد 2003 وتعاقب الحكومات والعمليات الانتخابية التي اثرت بشكل واضح على تراجع نسب المشاركة في العملية الانتخابية شيئًا فشيئًا بسبب اخفاقات الاحزاب السياسية، وفشلها في الحد من عمليات الفساد، مما جعل العملية السياسية على المحك لكن المشاركة في العملية الانتخابية جعلت المرشحين الجدد امام التزام اخلاقي يفرض على الفائزين في الانتخابات الايفاء بوعودهم التي قطعوها لجماهيرهم ويضعهم امام مسؤولية تاريخية وهي تصحيح المسار السياسي ومعالجة الاخفاقات والاخطاء السابقة، ومحاربة الفساد بعد ان ادى المواطن دوره في اختياره العقلاني للمشاركة في العملية الانتخابية والذي كان غالبًا ما يتخذ قرار التصويت بناءً على مزيج من الأمل بالتغيير، وهو اليوم يبحث عن هذا التغيير نحو الافضل وبدوره ينتظر الاستثمار المستقبلي لهذا التصويت لانه إذا نظرنا نظريًا إلى التصويت باعتباره “عقدًا” غير مكتوب بين الناخب والنخبة السياسية، فعلى الكتل السياسية بعد التصويت العقلاني لافراد المجتمع ينبغي على الكتل في هذه المرحلة ان تقتنع بأنه هناك مصلحة عقلانية تحتم على الكتل السياسية الايفاء بوعودها، مما ينبغي على السياسي ان يجعل لهذه الدورة النيابية مرحلة مهمة في تحقيق الاهتمام بالمواطن والعمل على توافر سبل العيش الكريم وضمان محاربة الفساد لاستمرار العملية الديمقراطية وعدم تراجع فاعلية المشاركة في العملية الانتخابية مستقبلا.
ثالثاً: العوائد المنتظره من التصويت الانتخابي
أولًا: العوائد الفردية للمواطن العراقي بعد التصويت
-
تعزيز الشعور بالمواطنة: ممارسة الحق الانتخابي تمنح المواطن شعورًا بالانتماء والدور الفعّال في صياغة مستقبل بلده.
-
التأثير في السياسات المحلية: التصويت يمكّن المواطنين من اختيار ممثليهم الذين يلتزمون بتحسين الخدمات العامة مثل الكهرباء والماء والصحة والتعليم، وهي قضايا حيوية في العراق.
-
المساءلة السياسية: يتيح التصويت للمواطن العراقي الفرصة لمحاسبة الطبقة السياسية على أدائها في الانتخابات القادمة، خاصة فيما يتعلق بمكافحة الفساد وتحقيق الإصلاحات.
ثانيًا: العوائد المجتمعية في السياق العراقي
-
تعزيز شرعية الدولة: مشاركة واسعة في الانتخابات تساهم في تعزيز الشرعية الوطنية للسلطات وتقلل من الانقسامات الطائفية والإقليمية.
-
تحفيز التنمية المحلية: المنافسة بين الأحزاب السياسية تحفزها على تقديم برامج تنموية تلبي احتياجات المواطنين وتحسن البنية التحتية والخدمات العامة.
-
تشجيع الثقافة المدنية والسياسية: كل مشاركة انتخابية تشجع الحوار العام وتزيد من الوعي السياسي بين المواطنين، ما يعزز قدرة المجتمع المدني على المطالبة بالحقوق.
ثالثًا: العوائد المتوقعة من الطبقة السياسية في العراق
-
الالتزام بالبرامج الانتخابية: من المتوقع أن تعمل الأحزاب السياسية على تنفيذ وعودها الانتخابية المتعلقة بالخدمات الأساسية، والاستقرار الأمني، والوظائف.
-
تحسين الحوكمة والشفافية: الأداء الجيد للطبقة السياسية يعزز الثقة بين المواطن والدولة، ويحد من سوء إدارة الموارد العامة، وهو أمر حاسم في العراق.
-
تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية: من خلال تبني سياسات تحد من الفقر وتعالج التفاوتات الاقتصادية بين المحافظات المختلفة، بما يسهم في الاستقرار الوطني.
الخاتمة
تكشف نماذج الاختيار العقلاني في تفسير السلوك الانتخابي عن تنوّع كبير في الأسس التي يستند إليها الناخب عند اتخاذ قرار التصويت، بما يتجاوز الصورة التقليدية للناخب بوصفه فردًا يسعى فقط لتعظيم منفعته المادية، فالمقاربة الأخلاقية للاختيار العقلاني تُظهر أن بعض الناخبين يتصرفون انطلاقًا من الواجب الأخلاقي أو الالتزام المدني، والاحساس بالمسؤولية بما يجعل المشاركة في التصويت فعلًا عقلانيًا يترتب عليه التزامات اخلاقية من قبل الكتل السياسية تفرض عليها الالتزام بتحقيق برامجها الانتخابية والايفاء بوعودها لجماهيرها.
وبذلك، يتضح أن السلوك الانتخابي في إطار الاختيار العقلاني ليس عملية أحادية البعد، بل هو نتاج تفاعل بين اعتبارات أخلاقية، وانفعالات مستقبلية، وتقييمات معرفية، واستراتيجيات متبادلة بين الفاعلين السياسيين والناخبين، إن توظيف هذه النماذج مجتمعة يقدّم صورة أكثر شمولًا وعمقًا لديناميات التصويت، ويسهم في تفسير التباين الملحوظ في أنماط المشاركة والاختيار السياسي داخل الأنظمة الديمقراطية المتنوعة. بهذه الرؤية التكاملية، يصبح الاختيار العقلاني إطارًا قادرًا على استيعاب التعقيد الحقيقي للسلوك الانتخابي الحديث، بدلًا من اختزاله في حسابات مادية ضيقة.
المصادر
-
د. عبلة سقني و د. الجمعي النوي، السلوك الانتخابي للشباب الجزائري في ضوء نظرية الاختيار العقلاني، مجلة الناصرية للدراسات الاجتماعية والتاريخية، الجزائر، المجلد 13، العدد2، 2022.
-
Jacques Thomassen & Martin Rosema Party identification revisited, University of Twente Department of Political Science and Research Methods,O. Box 219, 7500 AE Enschede, The Netherlands .
Loading...
زر الذهاب إلى الأعلى