البيع عبر الإنترنت في البيئة الشعبية العراقية .. الواقع القانوني، الاجتماعي، والديني
بقلم: الباحث محمد يوسف جوامير درويش
المقدمة
شهد العراق في العقدين الأخيرين ثورة اقتصادية رقمية غير منظّمة، تمثلت في انتشار البيع عبر الإنترنت داخل الأحياء الشعبية. فبينما كان السوق الشعبي سابقًا محدودًا في الجغرافيا والزمان، أصبح اليوم مفتوحًا عبر صفحات “فيسبوك” و”إنستغرام” و”تيك توك”، حيث يبيع الأفراد بضائعهم دون الحاجة إلى محل تجاري أو ترخيص رسمي. هذه الظاهرة تمثل مخرجًا اقتصاديًا للبطالة والفقر، لكنها في الوقت نفسه تطرح إشكالات قانونية ودينية معقدة تتعلق بمشروعية العقود الإلكترونية، ومسؤولية البائع، وحماية المستهلك.
الإطار القانوني للبيع الإلكتروني الشعبي في العراق
أولاً: الأساس القانوني للعقد الإلكتروني:
تُعرّف المادة (68) من القانون المدني العراقي رقم (40) لسنة 1951 العقد بأنه:
“ارتباط الإيجاب بالقبول على وجهٍ يُثبت أثره في المعقود عليه.”
أما في البيئة الرقمية، فيتحقق الإيجاب والقبول عبر وسائل إلكترونية (كالرسائل والمحادثات)، وهو ما أقره قانون المعاملات الإلكترونية رقم (78) لسنة 2019 الذي ساوى في مادته (4) بين المحررات الإلكترونية والورقية إذا استوفت شروط التوثيق. لكن الواقع الشعبي لا يلتزم بهذه الشروط، فالعقود تتم شفهيًا أو برسائل غير موثقة، مما يجعلها ضعيفة من الناحية القانونية والإثباتية.
ثانيًا: الإشكالات القانونية الخاصة بالبائع الشعبي: البائع الشعبي الذي يزاول التجارة عبر الإنترنت دون تسجيل رسمي يُواجه مجموعة من الإشكاليات القانونية:
-
عدم اكتسابه صفة التاجر قانونًا: وفق المادة (10) من قانون التجارة العراقي رقم (30) لسنة 1984، التاجر هو من يزاول العمل التجاري بصورة معتادة ويُقيد اسمه في السجل التجاري. وبما أن أغلب الباعة الشعبيين لا يسجلون نشاطهم، فهم خارج الحماية القانونية الخاصة بالتجار.
-
غياب الدفاتر التجارية: المادة (21) من القانون ذاته تلزم التاجر بمسك دفاتر منتظمة لإثبات معاملاته. أما البائع الشعبي فيتعامل بطريقة بدائية (مراسلات هاتفية أو واتساب)، مما يحرمه من إثبات حقه أمام القضاء عند النزاع.
-
المسؤولية المدنية والجزائية: إذا قام البائع الشعبي ببيع سلعة معيبة أو مقلدة، فإنه يتحمل المسؤولية وفق قانون حماية المستهلك رقم (1) لسنة 2010 والمادة (9) من قانون العقوبات رقم (111) لسنة 1969 إذا ثبت الغش أو التدليس.
-
الضرائب والرسوم: رغم أن أغلب البائعين الشعبيين لا يخضعون للضرائب، إلا أن القانون يُعدّهم متهربين من الالتزامات المالية العامة، مما يجعلهم عرضة للمساءلة مستقبلاً عند تنظيم النشاط التجاري الإلكتروني.
من منظور البائع الشعبي – الالتزامات والإشكاليات
أولاً: الالتزامات المفروضة على البائع
-
الإفصاح عن المعلومات: المادة (5) من قانون حماية المستهلك تُلزم البائع ببيان أوصاف السلعة وثمنها بدقة، وهو ما يفتقر إليه كثير من البائعين عبر الإنترنت.
-
ضمان العيب الخفي: المادة (564) من القانون المدني العراقي تنص على أن البائع يضمن العيب الذي ينقص من قيمة المبيع أو منفعته. وهذا يشمل البائع الشعبي إذا ثبت أنه كان يعلم بالعيب ولم يُصرّح به.
-
الالتزام بالتسليم: التسليم الفعلي للسلعة هو جوهر العقد، وغالبًا ما يتم عبر خدمات التوصيل، ما يخلق نزاعات حول تلف البضاعة أثناء النقل أو عدم مطابقتها للمواصفات.
-
الالتزام بالأمانة والصدق الشرعي قال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾ (هود: 85) وهذا يضع على البائع مسؤولية شرعية قبل أن تكون قانونية في الالتزام بالحق والعدل.
ثانياً: الإشكاليات العملية التي يواجهها البائع الشعبي:
-
غياب التنظيم الرسمي: فلا توجد جهة تمنحه ترخيصًا بسيطًا لمزاولة البيع عبر الإنترنت.
-
صعوبة إثبات التعامل: إذ تُرفض الكثير من الدعاوى القضائية بسبب عدم وجود عقد مكتوب أو توقيع معتمد.
-
المنافسة غير العادلة: مع التجار الكبار والمنصات الممولة التي تبيع بأسعار أقل.
-
الاحتيال العكسي: حيث يتعرض بعض الباعة للغش من زبائن يرفضون الاستلام أو يزعمون عدم استلام السلعة.
-
الابتزاز الإلكتروني: خصوصًا في حالات البائعات النساء، حيث تُستخدم الصور أو المحادثات للتهديد أو التشهير.
ثالثاً: البعد الديني والاجتماعي للبيع الشعبي الإلكتروني
-
البعد الديني يقرّ الإسلام مبدأ التجارة الحرة شرط الصدق وعدم الغش، قال تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ (البقرة: 275) كما قال النبي (ص): “التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصدّيقين والشهداء.” (رواه الترمذي)وعليه فإن التجارة عبر الإنترنت في ذاتها مشروعة، لكنها تتحول إلى محرّمة متى ما شابها غش أو تدليس أو خديعة.
-
البعد الاجتماعي: ساعدت التجارة الشعبية الإلكترونية على تمكين المرأة اقتصاديًا داخل المنزل. وخلقت شبكات ثقة شعبية بين البائعين والزبائن قائمة على التوصيات. ولكنها في المقابل أدت إلى تراجع الرقابة الحكومية وارتفاع حالات النصب والاحتيال.
النتائج العامة
-
إن البائع الشعبي عبر الإنترنت يمثل نموذجًا جديدًا للتاجر غير الرسمي الذي يجمع بين الحاجة الاقتصادية والإبداع الشعبي.
-
القوانين العراقية لم تُواكب هذا التطور بعد بالشكل الكافي، مما يخلق فراغًا تشريعيًا.
-
الالتزامات القانونية للبائع موجودة، لكنها غير قابلة للتنفيذ فعليًا في بيئة لا تُنظم البيع الإلكتروني الشعبي.
-
يجب تحقيق توازن تشريعي بين حرية التجارة وتوفير الحماية القانونية للطرفين.
الخاتمة
إن البيع عبر الإنترنت في البيئة الشعبية العراقية يعكس إبداعًا اجتماعيًا واقتصاديًا في مواجهة التحديات المعيشية، لكنه ما زال يتحرك في فراغ قانوني وأخلاقي يستوجب المعالجة. فالبائع الشعبي ليس مخالفًا بطبعه، بل هو تاجر بالفطرة، يسعى للرزق الشريف، لكنه يحتاج إلى تنظيم قانوني يحميه ويحمي المستهلك معه. قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ (النحل: 90) ولذلك فإن إقامة العدل في التجارة الإلكترونية الشعبية واجب وطني وشرعي، لتحقيق اقتصاد عادل يوازن بين الحرية والمسؤولية.
التوصيات والمقترحات
-
إصدار لائحة خاصة بـ”البيع الإلكتروني الشعبي” ضمن قانون التجارة.
-
تبسيط إجراءات التسجيل بحيث يُمكن للبائع الحصول على رقم تعريفي إلكتروني مجاني.
-
إطلاق منصة حكومية لحفظ العقود الإلكترونية الشعبية بشكل مبسّط وسهل الاستخدام.
-
فرض التزامات أخلاقية ودينية على البائعين من خلال توعية مجتمعية وخطب دينية حول الصدق في التجارة.
-
إنشاء صناديق دعم للبائعين المتضررين إلكترونيًا لحماية الفئات الضعيفة.
المصادر
-
القانون المدني العراقي رقم (40) لسنة 1951.
-
قانون التجارة العراقي رقم (30) لسنة 1984.
-
قانون حماية المستهلك رقم (1) لسنة 2010.
-
قانون المعاملات الإلكترونية رقم (78) لسنة 2019.
-
قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة 1969.
-
القرآن الكريم – سور البقرة (275)، النساء (29)، هود (85)، النحل (90).
-
الحديث النبوي: “من غشنا فليس منا” و“التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصدّيقين والشهداء”
-
د. خليل إبراهيم علي، التجارة الإلكترونية في التشريع العراقي، جامعة بغداد، 2022.
-
هيئة الإعلام والاتصالات العراقية، التقرير الوطني للتجارة الرقمية، 2023.
-
منظمة تمكين المرأة العراقية، الاقتصاد المنزلي النسوي في العراق الرقمي، 2022.