المعلم: باني المستقبل وراوي الحكايات
بقلم: د. مصطفى سوادي جاسم
باحث مركز الفيض العلمي لاستطلاع الرأي والدراسات المجتمعية
في صباح اليوم الدراسي الأول، وقف معلم التاريخ عند نافذة الصفّ يراقب الطلاب وهم يدخلون بخطوات مترددة، بعضهم يضحك بصوت مرتفع ليخفي قلقه، وآخرون ينظرون إلى الأرض كأنهم يبحثون عن الأمان ابتسم المعلم، فهو يعرف أن وراء كل وجه منهم حلمًا صغيرًا، وربما جرحًا صامتًا، هنا تبدأ الرحلة: رحلة المعرفة، الإلهام، والحكايات التي تصنع المستقبل.
-
التعامل مع الطلاب – دفء القلوب يصنع المعجزات
في الصف الخامس، كان أحمد طالبًا مشاغبًا، يقاطع المعلم دائمًا ويتهرب من الواجبات، بدل أن يعاقبه، جلس المعلم معه بعد الدرس وسأله بهدوء عن سبب تصرفه، اعترف أحمد بأنه يشعر بالإهمال في البيت ولا يجد من يستمع إليه، قرر المعلم أن يمنحه مهامًا بسيطة تبرز مسؤوليته أمام زملائه، مثل توزيع الكراسات، مع مرور الأسابيع، تغير أحمد وأصبح من أكثر الطلاب تعاونًا.
الاستنتاج:
-
كل سلوك سلبي قد يخفي ألمًا يحتاج إلى فهم.
-
الاهتمام الفردي يغيّر سلوك الطلاب بشكل عميق.
الحلول:
-
خصص بضع دقائق أسبوعيًا لمحادثات فردية مع الطلاب.
-
استخدم التعزيز الإيجابي بدل العقاب قدر الإمكان.
-
الأساليب التعليمية – الإبداع قبل الشرح
في درس العلوم، أراد المعلم شرح مفهوم الكثافة، أحضر قطعتي خشب وحجر، وطلب من الطلاب التنبؤ بما سيطفو، تحوّل الدرس إلى نقاش حيوي وتجارب بسيطة، الطالبة زهراء، التي كانت تظن أن العلوم مملة، رفعت يدها لأول مرة وقالت: “أريد أن أجرب بنفسي!”
الاستنتاج:
-
التعلم بالتجربة يخلق فضولًا دائمًا.
-
المشاركة الفاعلة تعزز الفهم أكثر من الشرح المباشر.
الحلول:
-
اعتمد الأنشطة التفاعلية ولو بأدوات بسيطة.
-
استخدم القصص الواقعية أو الحكايات لتوضيح المفاهيم الصعبة.
-
العلاقة مع الإدارة – شراكة لا أوامر
اقترح أحد المعلمين مشروع “يوم القراءة المفتوح” للمدرسة، في البداية، ظن أن الإدارة سترفض بسبب ضغط المناهج، لكنه أعد خطة مختصرة ومنظمة وشاركها معهم، لم يكتفوا بالموافقة، بل ساعدوه في توفير القاعة والمواد. النتيجة: حماس غير مسبوق لدى الطلاب.
الاستنتاج:
-
الإدارة تتجاوب مع المبادرات المدروسة.
-
الحوار والوضوح يحولان الأفكار إلى واقع.
الحلول:
-
اكتب أفكارك مع خطة تنفيذ مختصرة قبل طرحها.
-
اطلب الدعم بدل المواجهة عند حدوث خلاف.
-
العلاقة مع أولياء الأمور – جسور الثقة
الطالبة مريم كانت تتراجع دراسيًا، اتصل المعلم بوالديها، لكنه لم يلقِ اللوم عليهم، بدلاً من ذلك، عرض ملاحظاته بهدوء وطلب التعاون، قرر الوالدان تخصيص وقت يومي لدعم مريم، فيما منحها المعلم فرصًا إضافية في الصف، خلال شهرين، تغيّر أداؤها وعادت ثقتها بنفسها.
الاستنتاج:
-
التواصل الإيجابي يحفّز الأهل على التعاون.
-
إشراك الوالدين يساعد على معالجة المشكلات مبكرًا.
الحلول:
-
استخدم نبرة تشجيعية عند التواصل مع أولياء الأمور.
-
قدّم اقتراحات بسيطة وعملية يمكن تطبيقها في البيت.
-
التحفيز الذاتي – طاقة المعلم تنعكس على طلابه
في منتصف العام، شعر معلم اللغة العربية بالإرهاق وفقدان الحماس، قرر حضور ورشة تطوير مهارات التدريس والقراءة في موضوعات ملهمة، عاد إلى طلابه بفكرة “حكايات الجمعة”، حيث يشارك كل طالب قصة قصيرة، تغيرت أجواء الصف، وبدأ الطلاب يأتون بحماس غير معتاد.
الاستنتاج:
-
تطوير الذات يعيد للمعلم شغفه ويجدد طاقته.
-
الطلاب يلتقطون حماس المعلم بسرعة.
الحلول:
-
خصص وقتًا أسبوعيًا لنشاط يلهمك شخصيًا.
-
شارك زملاءك تبادل الأفكار والنصائح.
-
الابتكار وبناء القيم – تعليم الحياة قبل المعرفة
أثناء درس الرياضيات، اقترح المعلم تقسيم الطلاب إلى مجموعات تمثل قرى صغيرة تتعاون لحل مسائل، لاحظ أن بعض الطلاب بدأوا يساعدون زملاءهم الضعفاء، بعد الدرس، تحدث عن قيمة التعاون وأثرها في الحياة، بدأ الطلاب تطبيق التعاون حتى خارج الصف.
الاستنتاج:
-
غرس القيم يمكن أن يحدث أثناء أبسط الدروس.
-
الابتكار لا يحتاج أدوات مكلفة بل عقلًا مبدعًا.
الحلول:
-
أدمج القيم الإنسانية في أمثلة وأنشطة الدروس.
-
حفّز الطلاب على التفكير الجماعي لحل المشكلات.
-
إدارة الوقت – السيطرة على الفوضى اليومية
في العام الماضي، كان المعلم سامر يشعر بأن الحصص تنتهي قبل أن يكمل الدرس، هذا العام، بدأ بتقسيم الدرس إلى فقرات زمنية محددة مع مرونة للتفاعل، فوجئ بأن لديه وقتًا للنقاشات وحتى لأنشطة إضافية.
الاستنتاج:
-
التنظيم المسبق يوفر وقتًا للأنشطة الإبداعية.
-
الوقت المنظم يقلل الضغط النفسي على المعلم والطلاب.
الحلول:
-
ضع خطة زمنية لكل حصة مع مساحة للأسئلة.
-
أعطِ الأولوية للأفكار الأساسية بدل التفاصيل الثانوية.
-
الحلول الواقعية الشاملة – خارطة طريق للعام الجديد
-
أنشئ “ركن الدعم” في الصف لتلقي الأسئلة دون إحراج.
-
نظم لقاءات ودية قصيرة مع الإدارة وأولياء الأمور لبناء الثقة.
-
استخدم أدوات بسيطة (بطاقات، تجارب منزلية) لتفعيل الدروس.
-
شارك قصصًا ملهمة من واقعك أو تاريخ العلم لتعزيز الفضول.
-
خصص وقتًا أسبوعيًا لتطوير ذاتك وتجديد شغفك.
أيها المعلم..
ها هو العام الدراسي الجديد يفتح أبوابه كما يفتح الصباح كفّيه للشمس، في كل ركن من أركان المدرسة، هناك حلم صغير يبحث عما يحتضنه، وقلق خفي ينتظر كلمة طمأنة، وعقل متعطش للمعرفة يترقب لحظة الإلهام، إنك لست مجرد ناقل معلومة، بل أنت باني المستقبل وراوي الحكايات، المهندس الذي يرسم الجسور بين قلوب الطلاب وعقولهم، وبين المدرسة والبيت، وبين الحاضر والمستقبل.
تذكّر أحمد المشاغب الذي تحوّل بلمسة من تفهمك إلى طالب مسؤول، وتذكّر زهراء التي فتحت قلبها للعلوم حين منحتها فرصة لتجربة صغيرة، واحفظ في قلبك قصة علي ومريم، وكيف غيّرت كلماتك ونصائحك الحانية مسار حياتهما، هذه اللحظات ليست حكايات عابرة، بل مفاتيح لقلوب طلابك، تشهد أن التعامل الإنساني والاحتواء أقوى من أي عقاب.
حين تبتكر في أسلوبك التعليمي وتحوّل الدرس إلى مغامرة، فأنت لا تشرح المفاهيم فحسب، بل تصنع فضولًا يدوم. حين تتعاون مع الإدارة، لا تكن تابعًا ولا متذمرًا، بل شريكًا يفتح الأبواب للحلول والإنجاز، وحين تمد يدك إلى أولياء الأمور، فأنت تكتب معهم فصلاً جديدًا من الثقة والمسؤولية المشتركة.
أما نفسك أيها المعلم، فهي أمانة بين يديك، إن التحفيز الذاتي ليس رفاهية، بل وقودك في هذه الرحلة الطويلة، تذكّر أن طاقتك الإيجابية تفيض على طلابك بلا وعي منهم، وأن ابتسامتك قد تغيّر صباحهم، وأن حلمك في تطوير نفسك يُلهِمهم ليحلموا هم أيضًا، اجعل الابتكار عادة، حتى في أبسط الدروس، لتغرس القيم قبل أن تغرس المعارف، ولتُشعل في قلوبهم حب الخير والتعاون كما فعلت حين حوّلت مسألة رياضية إلى درس في العطاء.
ولا تنسَ فن إدارة الوقت، فهو خيط الذهب الذي ينظّم فوضى الأيام، ويمنحك مساحة للتفاعل والإبداع، كل دقيقة تخطط لها، وكل سؤال تمنحه وقته، وكل نقاش تتيح له فرصة النضوج، هو لبنة في بناء مستقبل أكثر إشراقًا.
فلتكن أيها المعلم هذا العام: الحكيم الذي يهدئ العاصفة، والراوي الذي يحفظ الذاكرة، والقائد الذي يفتح الطرق المغلقة، دع قلبك مرشدك، وخيالك جناحيك، وابتسامتك توقيعك الذي لا يُنسى، وكلما شعرت بالتعب، تذكّر أن ثمار تعبك قد تنمو بعيدًا عن عينيك، لكنها ستظلل يومًا أجيالًا بأكملها.
ابدأ العام كمن يفتح كتابًا أبيض الصفحات، يكتب فيه بحبر الصبر والإبداع والرحمة، فالتعليم ليس وظيفة تنتهي بجرس المدرسة، بل رسالة تمتد إلى كل بيت وحيّ ومستقبل، وأنت، بما تحمل من شغف وفكر ودفء إنساني، أصدق دليل على أن كلمة معلم قد تغيّر حياة، بل تغيّر أمة بأكملها.