ظاهرة الانتحار في العراق
دراسة تحليلية متعددة المستويات للأبعاد السياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية والنفسية
(خلاصة دراسة)
بقلم: الباحث الدكتور سليم كاطع علي
جامعة بغداد كلية العلوم السياسية
إنّ الانتحار ظاهرة إنسانية عامة صاحبت المجتمعات البشرية منذ بداياتها الأولى إلى يومنا هذا. وعلى الرغم من تغيّر حضاراتها وترتيبها الزمني ومواقعها الجغرافية، إلا أن إحصاءات معظم دول العالم تشير إلى أنّ الإقدام على الانتحار يزداد مع تقدم الزمن وتطور الحياة وتعقّدها، وما يعقب ذلك من تفكك في كثير من المجتمعات. والعراق، شأنه شأن أي بلد آخر، كانت ملامح السلوك الانتحاري فيه منخفضة، إلا أن الملاحظات في الوقت الحاضر تشير إلى ظهور هذه الظاهرة في المجتمع العراقي بشكل أكبر مما كانت عليه سابقًا، نتيجة الاختلال الحاصل في البيئة العامة والظروف والتحديات التي شهدها العراق، والتي أثرت بشكل أو بآخر على الجوانب النفسية والاجتماعية.
الانتحار في العراق هو في جوهره انعكاس لمشكلات اقتصادية واجتماعية عميقة، وليس مجرد قرار فردي. ولذا يمكن طرح مجموعة من الآليات لمواجهته،..
المحور الأول: أبعاد ظاهرة الانتحار في المجتمع العراقي
الانتحار، من وجهة نظر علم الاجتماع، ليس مجرد فعل فردي، بل هو فعل اجتماعي أيضًا، إذ إنّ عددًا من العوامل الخارجية تشكل قرار الانتحار. وتتداخل عوامل مختلفة مثل البطالة والفقر والعزلة الاجتماعية لتؤدي إلى تدهور كبير في مستويات المعيشة، مما يسفر عن السلوك الانتحاري.
أولًا: الأبعاد السياسية والأمنية
تتمثل في تدهور الوضع الأمني وانتشار الخوف، وتأثر الشباب العراقي بالتحديات السياسية والاجتماعية التي مر بها البلد ابتداءً من الحروب والحصار، ثم الفقر والبطالة، فضلًا عن النزوح الذي أدى إلى ازدياد حالات الانتحار بين النساء خصوصًا، بسبب التشاؤم وفقدان الأمل بالحياة وضياع المستقبل الدراسي والمهني، وعدم قدرة النساء على تحمّل الفقر والجوع، إلى جانب اليأس وضعف الإيمان. فالمرأة أكثر عرضة للانكسار النفسي.
لقد عاش المجتمع العراقي تحت وطأة سلسلة متعاقبة من الصدمات الجماعية: حرب الثمانينيات مع إيران، حرب الخليج عام 1991، الحصار الاقتصادي في التسعينيات، الغزو والاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 وتداعياته، ثم ظهور تنظيم داعش الإرهابي عام 2014. وقد خلقت هذه الأحداث جيلًا يعاني من إجهاد مزمن، إذ أصبح التعرض للعنف والموت والتهجير وفقدان الأحبة تجربة مشتركة للعديد من العراقيين، مما أدى إلى تراجع المرونة النفسية المجتمعية وخلق أرضية خصبة لانتشار الاكتئاب والقلق واضطراب ما بعد الصدمة، وهي جميعًا من أبرز المؤشرات على السلوك الانتحاري. ومن ذلك يتضح أنّ العوامل السياسية والأمنية لا تقل خطورة عن كونها سببًا مباشرًا في تزايد ظاهرة الانتحار في المجتمع العراقي.
ثانيًا: الأبعاد الاقتصادية
تُعد الظاهرة الانتحارية في العراق قضية معقدة متعددة الأبعاد، إذ تلعب العوامل الاقتصادية دورًا محوريًا في تفاقمها. ومن خلال التحليل العلمي للمصادر، يتبين أنّ البطالة والفقر والضعف الاقتصادي تمثل الدوافع الأساسية وراء ارتفاع معدلات الانتحار. ويُعزى ذلك إلى السمات الهيكلية للاقتصاد العراقي، ومنها:
-
الاقتصاد الريعي الأحادي: إذ يعتمد العراق اعتمادًا شبه كلي على عوائد النفط التي تشكل أكثر من (90%).
-
البطالة الهيكلية المرتفعة: إذ تُقدّر نسبة البطالة بين الشباب (15-29 سنة) بأكثر من (25%)، وتصل في بعض المحافظات الجنوبية الأكثر فقرًا إلى (50%). وهذه البطالة ليست مؤقتة، بل هيكلية، ناتجة عن عجز الاقتصاد الأحادي عن خلق فرص عمل كافية.
-
تفشي الفساد المالي والإداري: إذ يحتل العراق مراكز متأخرة في مؤشر مدركات الفساد، ويؤدي ذلك إلى استنزاف المال العام، وتدمير مبدأ تكافؤ الفرص، وخلق شعور عام بالظلم واليأس.
-
تدهور الخدمات الأساسية: مثل أزمة الكهرباء، ونقص المياه الصالحة للشرب، وتدني مستوى الخدمات الصحية.
وهذه العوامل لا تؤدي مباشرة إلى الانتحار، بل عبر آليات وسيطة، مثل:
-
الضغط الاقتصادي المباشر والفقر.
-
فقدان الأمل واليأس لدى الشباب.
-
تفكك الروابط الاجتماعية والوصمة.
-
الحرمان النسبي وتفشي التفاوت.
ثالثًا: الأبعاد الاجتماعية
يُعد ضعف الروابط الاجتماعية والتضامن الأسري من أهم أسباب الانتحار، إذ تدفع الفرد إلى الانعزال نتيجة قلة اهتمام المحيطين به، مما يزيد احتمالات التوجه نحو الانتحار. كما أنّ كثرة المشكلات الأسرية، مثل التفكك الأسري، والطلاق، وتأخر سن الزواج، والفشل الدراسي والعاطفي، ساهمت في تفاقم الظاهرة. وإلى جانب ذلك، أسهم انتشار بعض الظواهر الاجتماعية السلبية، كالتقليد الأعمى للمسلسلات والأفلام التي تحمل قيماً غريبة عن الواقع العراقي والإسلامي، في تعزيز النزعات الانتحارية.
رابعًا: الأبعاد النفسية
إن القلق والضغوط النفسية وارتفاع معدلات الاكتئاب، الناتجة عن الحروب المتكررة وفقدان الأحلام وانسداد الأفق، تعد من أبرز الأسباب المؤدية إلى الانتحار. وتقدّر نسبة المنتحرين في العراق من بين المصابين بالأمراض النفسية بـ (20%). ووفق تقارير وزارة الصحة العراقية، فإن (43%) من حالات الانتحار تعود إلى أسباب نفسية بالدرجة الأولى، و(35%) إلى أسباب عائلية، و(15%) إلى أسباب اقتصادية. كما يُعَدّ الإدمان على المخدرات سببًا رئيسًا في زيادة حالات الاكتئاب، وبالتالي في دفع الأفراد نحو الانتحار.
تشكل ظاهرة الانتحار تحديًا خطيرًا لجميع المجتمعات، والعراق واحد من البلدان التي تعاني منها بشدة. فقد تركت الحروب والحصار والاحتلال والإرهاب آثارًا مدمرة.
المحور الثاني: آليات مواجهة ظاهرة الانتحار في المجتمع العراقي
الانتحار في العراق هو في جوهره انعكاس لمشكلات اقتصادية واجتماعية عميقة، وليس مجرد قرار فردي. ولذا يمكن طرح مجموعة من الآليات لمواجهته، منها:
أولًا: على مستوى السياسات العامة
-
إطلاق استراتيجية وطنية للصحة النفسية بإشراف وزارة الصحة بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية.
-
مكافحة الفساد وإطلاق برامج اقتصادية داعمة، كإنشاء صندوق وطني لدعم الشباب.
-
تعزيز سيادة القانون وحماية الفئات الضعيفة، خاصة النساء.
ثانيًا: على المستوى الاقتصادي
-
إصلاحات اقتصادية حقيقية تخلق فرص عمل وتعيد بناء الثقة بين المواطن والدولة.
-
تنويع مصادر الدخل ودعم القطاعات الإنتاجية كالزراعة والصناعة والسياحة.
-
مكافحة الفساد بتفعيل مؤسسات الرقابة.
-
الاستثمار في رأس المال البشري عبر تطوير التعليم والتدريب.
-
دعم المشاريع الصغيرة للشباب ومكافحة البطالة والفقر.
ثالثًا: على مستوى النظام الصحي
-
اعتبار الصحة النفسية أولوية وطنية مساوية للصحة الجسدية.
-
إنشاء خطوط ساخنة مجانية لتقديم الدعم النفسي والوقاية من الانتحار.
-
توسيع الخدمات بإنشاء عيادات للصحة النفسية في جميع المستشفيات.
رابعًا: على مستوى البحث العلمي
-
إنشاء نظام وطني لرصد حالات الانتحار وجمع البيانات الدقيقة عنها.
-
تشجيع الدراسات الميدانية لفهم الظاهرة وتقييم التدخلات.
-
إدخال مناهج للتربية النفسية والتوعية في النظام التعليمي.
الخاتمة
تشكل ظاهرة الانتحار تحديًا خطيرًا لجميع المجتمعات، والعراق واحد من البلدان التي تعاني منها بشدة. فقد تركت الحروب والحصار والاحتلال والإرهاب آثارًا مدمرة، لم تقتصر على البنى التحتية، بل امتدت إلى البنى النفسية والاجتماعية، فخلقت أجيالًا مثقلة بالصدمات المتراكمة التي انتقلت عبر الأجيال. وقد تجلت هذه الصدمات في اضطرابات نفسية وسلوكية كان أقساها وأكثرها مأساوية ظاهرة الانتحار.
المصادر
-
آخرون، طيبة فاضل، ظاهرة الانتحار وباء يصيب المجتمع الايزيدي، بغداد، وزارة حقوق الانسان، دائرة رصد الأداء وحماية الحقوق، 2012.
-
البهلول، هادية العود، الانتحار في البلدان العربية: عوامل الخطر والحماية ( تونس مثال تطبيقي)، مجلة دراسات اجتماعية، بين الحكمة، بغداد، العدد (51)، 2023.
-
تقرير الاقتصاد العراقي: استشراف مستقبل أفضل، البنك الدولي، واشنطن، 2022.
-
تقرير الامم المتحدة، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، حول الحوكمة في العراق، 2021.
-
التقرير الوطني للفقر في العراق، وزارة التخطيط، 2020.
-
حسن، عبد العزيز، الانتحار بين الإباحة والتجريم دراسة تاريخية فلسفية، الطبعة الاولى، لندن، دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع، 2023.
-
ريزان، حمه رشید کریم، دراسة أحصائية لأهم العوامل المؤثرة على ظاهرة الانتحار، السليمانية،، جامعة السليمانية،2003.
-
سقني، صالح، يوسفي، نور الدين، قراءة في مفهوم الانتحار، مجلة المفكر، جامعة محمد خيضر بسكرة، الجزائر، العدد 2، 2015.
-
سهيري، زينب، دراسة استطلاعية عن ظاهرة الانتحار والمحاولة الانتحارية، مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة قاصدي مرباح ورقلة، الجزائر، العدد 10، 2013.
-
عبد الزهرة، علي سعدي، سالي سعد محمد، ظاهرة الانتحار في العراق: الاسباب ـ الاحصائيات، مجلة حقوق الانسان والحريات العامة، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة عبد الحميد بن باديس مستغانم، الجزائر، العدد (3)، 2021.
-
كامل، زهراء رعد و كامل، وعلاء جواد، ظاهرة الانتحار وعلاقتها بالتحولات الثقافية في المجتمع العراقي دراسة اجتماعية ميدانية في محافظة الديوانية، مجلة لارك للفلسفة واللسانيات والعلوم الاجتماعية، جامعة القادسية، كلية الآداب، العدد (43)، 2021.
-
محمد، انعام عيد، عبد الرزاق، اياد يلم، الانتحار: الاسباب والدوافع وطرق الوقاية والعلاج، المجلة العربية للعلوم ونشر الابحاث، المركز القومي للبحوث، فلسطين، العدد (10)، 2024.