قادة الرأي ومسؤولياتهم الأخلاقية
بقلم: أ.د. عباس علي شلال/ مدير مركز الفيض العلمي لاستطلاع الرأي والدراسات المجتمعية
رب كلمة قد تصنع مصيرًا، كلمة واحدة قد توقظ أمة نائمة، وأخرى قد تجرّها إلى الهاوية، وخطاب قصير قد يلمّ شتات الناس حول قضية عادلة، بينما جملة طائشة قد تشعل حربًا لا تنطفئ.
في زمن المنصات المفتوحة، لم تعد الكلمة مجرّد رأي، بل قنبلة أو جسراً؛ إمّا أن تهدم أو أن تبني، فيقول إمير المؤمنين (عليه السلام) “مَا أَضْمَرَ أَحَدٌ شَيْئًا إِلَّا ظَهَرَ فِي فَلَتَاتِ لِسَانِهِ وَصَفَحَاتِ وَجْهِهِ”، وهذا يؤكد أن الكلمة ليست مجرد تعبير عابر، بل هي انعكاس لما في النفس، وتأثيرها يتجاوز حدود المتكلم.
قادة الرأي اليوم –من الأكاديميين والإعلاميين والخطباء والمثقفين إلى المؤثرين الرقميين– باتوا أشبه بزعماء حقيقيين يقودون وعي الجماهير، فكلمة أو عبارة أو حتى مشاركة لمنشور لا يكلف إلا ضغطة زر قد تغيّر اتجاه الرأي العام، وقد تجعل الحقيقة وهمًا والوهم حقيقة، ووهنا يظهر السؤال الأخطر: هل يدرك هؤلاء أنهم لا يملكون فقط صوتهم، بل يملكون عقول من يتابعونهم ويستمعون إليهم فضلا عن قلوبهم وتطلعاتهم؟
قادة الرأي “سلطة ناعمة أخطر من السلطة الصلبة”
السلطة التقليدية التي نعرفها تُمارَس بالقوة والقانون، لكن قادة الرأي يمتلكون سلطة أخطر؛ سلطة ناعمة تنفذ إلى الروح قبل الجسد، وإلى العقل قبل السلوك، والناس يتبعونهم ليس لأنهم مجبرون، بل لأنهم يمنحونهم الثقة، ويبحثون في كلماتهم عن تفسير لحياتهم أو مخرج من أزماتهم، وهذه الثقة، التي هي أساس هذه السلطة، تُبنى عبر المصداقية، الاتساق في المبادئ، والالتزام بالشفافية، فعندما يرى الجمهور أن قائد الرأي يتحدث بصدق، ويقدم معلومات موثوقة، ولا يتلون حسب المصالح، فإنه يمنحه قلبه وعقله.
لكن هذه السلطة ليست دائمًا بريئة، فقد تتحوّل إلى وسيلة لتضليل الجماهير بدلًا من توعيتهم، وقد تصبح أداة للتحريض والانقسام بدلًا من البناء والتقارب، وربما تُستغل لتحقيق مكاسب شخصية أو سياسية على حساب الحقيقة والضمير.
هنا تبرز المعضلة الأخلاقية، فهل قائد الرأي مجرد ناقل لما يراه؟ أم أنه مسؤول عن النتائج التي قد تترتب على كلمته ونقله وإشارته، مهما كانت نواياه؟ في الفلسفة الأخلاقية، يؤكد كثير من المفكرين أن المسؤولية تتعدى النوايا الحسنة لتشمل العواقب، فالفيلسوف الألماني إيمانويل كانت، في أخلاقياته الواجبية، يشدد على أن الأفعال (والكلمات هي أفعال) يجب أن تُقوّم بناءً على المبادئ التي توجهها وعلى نتائجها المتوقعة، وليس فقط على النية الداخلية.
لكن التأثير لا ينزل دفعة واحدة من السماء على الجميع، بل يبدأ من الدائرة الأضيق… من الفرد الذي يسمع، ثم الأسرة التي تتأثر، ثم المجتمع الذي يتشكّل وعيه، وصولًا إلى الدولة التي قد تنهض أو تنهار بفعل خطاب قادة الرأي، ونحن الآن نبدأ من نقطة البداية… من الإنسان نفسه.
على مستوى الفرد “وعي أم وهم”
قبل أن يكون قائد الرأي مخاطبًا للجموع، فهو يخاطب فردًا واحدًا؛ مواطنًا بسيطًا، أو شابًا يبحث عن قدوة، أو إنسانًا عالقًا بين الحقيقة والزيف، وهنا تكمن خطورة الكلمة، فما يبدو رأيًا عامًا يبدأ دائمًا كقناعة شخصية في عقل فرد واحد.
كلمة صادقة قد توقظ في هذا الفرد وعيًا جديدًا، تمنحه ثقة في نفسه، وتدفعه للبحث عن الحقيقة، ولكن كلمة مضللة قد تغلق عليه باب التفكير، وتحبسه في دائرة الخوف أو الكراهية أو الانقياد الأعمى، وهنا نشير الى قول الفيلسوف الإغريقي سقراط “الحياة غير المُختَبرة لا تستحق أن تُعاش” وقائد الرأي الذي يضلل الفرد يحرمه من هذه الاختبار، ويجعله يعيش في وهم يبعده عن التفكير الحر.
في الفلسفة الأخلاقية يحذرون من تحويل الإنسان إلى وسيلة، ويؤكدون أن كرامته تقتضي أن يُعامل كغاية بحد ذاته، وهذا يعني أن قائد الرأي الذي يخدع الفرد أو يضلله يستعمله كأداة، ويخون مسؤوليته الأخلاقية الأولى، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ (الحجرات: 6)، وهذه الآية الكريمة ترسخ مبدأ التثبت من الخبر قبل نشره أو تصديقه، وهو دعامة أساسية لحماية الأفراد والمجتمعات من الوقوع في فخ التضليل.
ولعلنا في مجتمعاتنا نرى هذا جليًا؛ شائعة بسيطة يطلقها شخص مؤثر قد تغيّر مزاج الناس، وتدفع الآلاف إلى قرارات انفعالية، بينما الحقيقة غائبة تمامًا، وفي زمن السرعة الرقمية، تنتشر الشائعات أسرع من الحقيقة، ويصبح التحقق من المعلومة تحديًا كبيرًا، مما يضاعف من مسؤولية قائد الرأي.
إذن، أمام الفرد، على قائد الرأي أن يكون صادقًا في المعلومة، نزيهًا في الدافع، وواعيًا بأن كلمته قد تبني إنسانًا أو تهدمه.
ومن الفرد الذي يحمل بذرة التأثر، ننتقل إلى الحلقة التالية التي تُشكّل قلب المجتمع… الأسرة، هذا الكيان الصغير الذي يعكس قيم أمة كاملة.
على مستوى الأسرة “حماية القيم أم تفكيكها”
الأسرة ليست مجرد بيت يجمع أفرادًا، بل هي أول مدرسة للقيم والمعايير الاجتماعية، وخطاب قادة الرأي، لاسيما عبر الإعلام والمنصات الرقمية، أصبح قادرًا على إعادة تشكيل نمط العيش الأسري، فإعلام واعٍ ومسؤول يمكن أن يعزز الحوار داخل الأسرة، يروّج لقيم الاحترام والتعاون والتربية المتوازنة.
بينما خطاب سطحي استهلاكي قد يغرس النزعة الفردية المفرطة، ويشجّع التمرد على الروابط الأسرية، ويستبدل القدوة التربوية بنماذج زائفة من الشهرة والترف، وقد تحوّل كثير من المؤثرين إلى معلمين صامتين داخل البيوت، حيث يجلس الطفل والمراهق والزوج والزوجة أمام الشاشات ليتلقوا قيمًا وأنماطًا دون وعي، وفي إحدى إشارات النبي الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله) “كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ” وهذا المبدأ لا يقتصر على رب الأسرة أو الحاكم، بل يشمل كل مؤثر يمتلك “رعية” من المتابعين، فعليهم مسؤولية رعاية وعي هؤلاء المتابعين.
هل يدرك هؤلاء القادة أنهم يعيدون صياغة العلاقات الأسرية؟ وهل يشعرون بثقل أمانتهم الأخلاقية تجاه أجيال تنشأ على ما يبثونه؟
وفي السنين الأخيرة -في العراق والعالم العربي- نرى هذا التأثير يوميًا؛ برامج تلفزيونية سطحية زرعت لدى بعض الأسر سباقًا استهلاكيًا محمومًا بدلًا من التربية الهادفة، وفي المقابل، نجد نماذج مشرّفة من قادة رأي ومبادرات إعلامية عززت التماسك الأسري، كحملات التوعية ضد العنف الأسري، أو برامج تربوية واجتماعية راقية.
في زمن المؤثرين الرقميين، صار المحتوى القصير والسريع يكوّن وعي الأطفال والمراهقين أكثر مما تفعله المدرسة أو الأسرة نفسها، مما يخلق فجوة قيمية تتسع باستمرار.
هذا التناقض يكشف أن الكلمة الموجهة للأسرة قد تكون دواءً أو سُمًّا، وأن مسؤولية القائد الأخلاقية هنا مضاعفة، لأنه يتعامل مع نواة المجتمع ومستقبله.
ومن هنا نخرج إلى الفضاء الأوسع… المجتمع، هذا الكائن الجمعي الذي قد تبنيه الكلمة الواعية جسورًا للتفاهم، أو تهدمه الكلمة الطائشة وتحوله إلى متاريس صراع.
على مستوى المجتمع “من الجسور إلى المتاريس”
المجتمع لا يتحرّك بالصدفة، بل يُحرَّك بخطابات تتكرّر حتى تتحوّل إلى قناعات عامة، وقادة الرأي هم مهندسو هذا الخطاب، سواء وعوا ذلك أم لم يعوه، فكلمة مسؤولة قد تصنع حراكًا مجتمعيًا إيجابيًا، كما رأينا في حملات التبرع بالدم المتكررة وحملات الإسناد والتبرع للأشقاء في لبنان وفلسطين المتضررين من العدوان الإسرائيلي، أو المبادرات الدينية والمدنية التي دعمت التعايش والسلم الأهلي أثناء الصراعات الطائفية التي نتجت عن الاحتلال الأمريكي للعراق.
في مقابل هذا الصدى الإيجابي للكلمة الطيبة والموقف النبيل، هناك اردادات سلبية للكلمة الخبيثة التي تُستعمل للتحريض، التي تتحوّل إلى شرارة فتنة، كما حدث في لحظات تاريخية شهدت نزاعات طائفية أو قومية أشعلتها خطب متطرفة أو تحريض إعلامي، وفي التراث الفكري العربي، نجد ابن خلدون في مقدمته يحذر من دور أهل العصبية الذين يُحرّكون العامة بخطاب الانفعال والغضب، مما يؤدي إلى الفتن والاضطرابات.
الأعم الأغلب من علماء الاجتماع يرون أن المسؤولية الأخلاقية في المجال العام ليست فقط نية صالحة، بل وعي بالعواقب، إذ قيل “كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع” هذا الحديث الشريف يؤكد على أهمية التثبت وعدم الانجرار وراء الشائعات، لأن نقل أي معلومة دون تحقق قد يؤدي إلى نتائج وخيمة على المجتمع.
واليوم، في مجتمعاتنا العربية، أمثلة كثيرة، منها، خطاب إعلامي واعٍ في أوقات الأزمات يسهم في تهدئة الشارع ومنع الانزلاق للفوضى، وهناك خطاب آخر، مليء بالشائعات والتهييج، فاقم الانقسامات الاجتماعية، وجعل الناس أسرى الخوف أو الكراهية المتبادلة.
إذن، مسؤولية قائد الرأي تجاه المجتمع هي أن يكون جسرًا لا متراسًا، ونورًا لا شرارة نار، وهذا كله يبرهن أن المجتمع هشّ أمام الكلمة، فهي إمّا أن تبني وعيًا أو تُطلق العنان للغوغاء.
وإذا كان المجتمع يتأثر بهذا الشكل، فإن التأثير على الدولة يكون أشد وأعمق، لأن قادة الرأي قادرون على بناء الشرعية أو هدمها، وصناعة الاستقرار أو تهديده، فإذا كان المجتمع مرآة الكلمة، فإن الدولة هي صورتها الكبرى، فحين يُبنى وعي الناس على خطاب رشيد، تستقيم الشرعية وتترسّخ المؤسسات، أما إذا تلوّثت المنصات بالتحريض والتضليل، فإن صداها لا يتوقف عند الشارع، بل يهزّ أركان الدولة نفسها، وهنا نصل إلى الدائرة الرابعة… الدولة.
على مستوى الدولة “صناعة الشرعية أم تدميرها”
الدولة كيان معقّد، لكنها في جوهرها قائمة على الثقة بين الحاكم والمحكوم، وهنا يصبح لقادة الرأي دور مزدوج، إمّا أن يعزّزوا الثقة الوطنية عبر خطاب موضوعي يوازن بين النقد والمسؤولية، أو أن يهدموا ما تبقى من ثقة، فيحوّلون المنابر إلى أدوات تعبئة ضد مؤسسات الدولة، أحيانًا بدافع وطني صادق، وأحيانًا خدمةً لمصالح خفية.
نذكر كيف أسهمت بعض خطابات المرجعيات الدينية وقادة الفكر في تهدئة الفتن الطائفية بعد سنوات العنف، فكانت الكلمة بمثابة صمام أمان من انهيار الدولة، وفي المقابل، شهدنا كيف تحوّلت خطابات تحريضية على مواقع التواصل إلى وقودٍ لأزمات قبلية أو سياسية عمّقت الشرخ الاجتماعي.
وشهدنا كيف كان لبعض قادة الرأي دور إيجابي في فضح الفساد ومساندة الإصلاح، بينما انجرّ آخرون إلى تسويق دعايات سياسية عمّقت الاستقطاب وأضعفت صورة الدولة، وهنا تتجلى الحقيقة الأخطر، إذ إن قائد الرأي قد يكون أحيانًا أقوى من السياسي، لأنه يملك قلوب الناس قبل صناديق اقتراعهم، وهنا نعود إلى المبدأ الجوهري… إذا كانت الكلمة تبني أو تهدم، فمتى تصبح أمانة؟ ومتى تتحوّل إلى خيانة؟
صندوق الأخلاقيات “قيود الضمير قبل قيود السلطة”
لنفتح صندوق الأخلاقيات الذي يجب أن يقيّد المنصة (نقصد كل منصة تصل بين قادة الرأي وجمهورهم) قبل أن تقيّدها السلطة، فالمنصة التي يُطل منها قائد الرأي ليست مجرد مكبر صوت، بل مسؤولية ثقيلة تزن كلماته كل مرة، فحين تُستخدم الكلمة بوعي ومسؤولية، تصبح جسراً بين الناس، ومرآة للحقائق، ومنارة للضمير، أما إذا تحوّلت إلى أداة تضليل أو تحريض، فتصبح سلاحًا سامًا يزرع الانقسام ويهدم الثقة.
يؤكد الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر على مبدأ “المسؤولية المطلقة” للإنسان تجاه خياراته وأفعاله، فكل كلمة تصدر هي خيار يجب تحمل مسؤوليته.
القواعد الذهبية التي يجب أن تحكم كل خطاب
-
تحرّي الحقيقة: لا يجوز أن ينشر القائد معلومة غير مؤكدة، أو يغيب عنها السياق، فالكلمة المزيفة لا تُشعل نار الفتنة فحسب، بل تقتل ببطء وعي الناس، “مَنْ كَثُرَ كَذِبُهُ قَلَّتْ ثِقَتُهُ” وهذا يؤكد أن الثقة، وهي أساس تأثير قائد الرأي، تهتز وتتلاشى مع الكذب.
-
الشفافية والنزاهة: يجب أن تكون دوافع الخطاب واضحة ونزيهة، بعيدًا عن استغلال المتلقين لتحقيق مكاسب شخصية أو سياسية أو مالية، فالجمهور يستحق أن يعرف الهدف الحقيقي وراء الكلمة.
-
احترام كرامة المتلقي: لا يجوز استخدام الخطاب لتحقير أو استغلال ضعف الآخرين، فالمتلقي إنسان له كرامته وحقوقه، ولا بد من التعامل معه بإنسانية.
-
التفكير في النتائج لا النوايا: قد تكون نوايا القائد صادقة، لكنه مسؤول عن عواقب كلماته، سواء أكانت إيجابية أم سلبية، ولا تكفي البراءة الداخلية إذا تسبّب الخطاب بأذى للجماعة أو الوطن، ففي الأثر الديني “زَلَّةُ الْعَالِمِ تُفْسِدُ الْعَالَمَ” وهذا التحذير يخص بشكل خاص قادة الرأي والمثقفين الذين يمتلكون تأثيراً واسعاً، فخطأهم لا يضر بأنفسهم فقط بل يمتد ضرره للمجتمع كله.