بين ليل العراق ونهار الإنتاج ….. السهر في العراق وتأثيراته الاجتماعية والاقتصادية
بقلم: د. مصطفى سوادي جاسم / باحث في مركز الفيض العلمي لاستطلاع الرأي والدراسات المجتمعية
مقدمة
في السنوات الأخيرة، برزت ظاهرة السهر حتى ساعات الصباح في العراق بشكل لافت، لا سيما في المدن الكبرى مثل بغداد والنجف والبصرة، ويُعد هذا النمط من الحياة انعكاسًا لتغيرات اجتماعية واقتصادية عميقة تمر بها البلاد، تترافق مع انهيار مؤسسات الضبط الاجتماعي، وزيادة البطالة، وتوسع استخدام التكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي التي أسهمت في تمديد ساعات النشاط ليلاً.
تتجاوز هذه الظاهرة حدود سلوك فردي لتصبح نمط حياة يتداخل مع الجوانب الصحية والاجتماعية والاقتصادية، حيث يؤدي استمرار السهر لفترات طويلة إلى اختلال في نظام النوم البيولوجي، ما يؤثر على كفاءة الفرد في العمل، ويضعف من الإنتاجية الوطنية، كما أن تأثيرات السهر تتفاعل مع عوامل متعددة مثل بيئة العمل غير المنظمة، ضعف الرقابة على الوقت، وعدم وجود قوانين تنظيمية واضحة تنظم الحياة الليلية، ومقارنةً مع الدول النامية والدول المتقدمة، يلاحظ تباين واضح في أنماط النوم وساعات العمل، حيث تعتمد الدول المتقدمة سياسات تنظيمية صارمة تحدد أوقات إغلاق المنشآت العامة مثل المقاهي والمطاعم، مما يسهم في خلق بيئة تدعم النوم المبكر وتعزز الإنتاجية وجودة الحياة.
يهدف هذا المقال إلى دراسة ظاهرة السهر في العراق، وفهم أسبابها وتأثيراتها من منظور اجتماعي واقتصادي ونفسي، ومقارنتها بأنماط النوم والتنظيم الليلي في الدول الأخرى، مستندًا إلى نظريات اجتماعية واقتصادية وعلمية، وذلك لتقديم توصيات تعزز من وعي المجتمع وتنظيم سلوكيات النوم والعمل.
ظاهرة السهر في العراق: الأسباب والملامح
يعيش العراق اليوم واقعًا جديدًا في نمط الحياة الليلية، حيث يقضي كثير من الأفراد أوقاتًا طويلة من الليل في أنشطة مختلفة مثل التصفح المستمر لوسائل التواصل الاجتماعي، التفاعل في المقاهي، أو اللعب الإلكتروني، فضلا عن أنماط اجتماعية متغيرة تشمل الجلسات العائلية التي تمتد لساعات متأخرة.
تشكل عدة عوامل أسبابًا لهذا السلوك، منها:
-
الضغوط الاقتصادية والاجتماعية التي تجعل الفرد يبحث عن متنفس ليلي لتخفيف التوتر.
-
ضعف مؤسسات الضبط الاجتماعي التي لم تعد تفرض نمط حياة منضبط.
-
توسع الثقافة الرقمية التي تضفي طابعًا مستمرًا للنشاط على مدار الساعة.
-
غياب قوانين تنظيم الحياة الليلية التي تحمي فترة الراحة الضرورية.
-
هذه العوامل مجتمعة خلقت بيئة مساعدة على تعميق هذه الظاهرة، التي باتت تؤثر على جودة الحياة.
التأثيرات الصحية والنفسية للسهر على الفرد
أثبتت الأبحاث العلمية أن النوم المنتظم في الليل، لا سيما في الساعات الأولى بعد الغروب، أساسي لإعادة تنظيم الذاكرة، وتجديد النشاط العصبي، وتعزيز الوظائف البدنية والنفسية (Walker, 2017)، إذ النوم المتأخر أو القليل يقلل من إفراز هرمون النمو، ويزيد من خطر الإصابة بأمراض مزمنة كالسكري والسمنة.
كما يرتبط السهر المفرط باضطرابات نفسية مثل الاكتئاب والقلق، حيث أظهرت دراسة في مجلة Lancet Psychiatry (2021) أن الأفراد الذين ينامون بعد منتصف الليل بانتظام معرضون لمشكلات صحية ونفسية أكثر بنسبة 25%، بالإضافة لذلك، السهر يقلل من القدرة على التركيز والانتباه خلال ساعات النهار، مما ينعكس سلبًا على جودة الأداء في العمل أو الدراسة.
السهر والإنتاجية: مقارنة بين العراق والدول الأخرى
وفقًا لتقارير البنك الدولي (2023)، يبلغ متوسط إنتاجية العامل العراقي نحو 18,000 دولار سنويًا، مقارنة بـ 29,000 دولار في فيتنام و36,000 دولار في ماليزيا، بينما تصل هذه المعدلات في دول متقدمة مثل ألمانيا إلى 97,000 دولار، واليابان إلى 85,000 دولار.
لا يعود هذا التفاوت فقط إلى الفروق في البنية الاقتصادية، بل تلعب العادات الاجتماعية دورًا مهمًا، حيث تعتمد الدول المتقدمة أنظمة عمل تبدأ مبكرًا مع احترام صارم لساعات النوم. بالمقابل، يُلاحظ في العراق نمط حياة ليلي متأخر، يؤثر على مستويات التركيز والنشاط في ساعات العمل.
مؤشرات الدول المتقدمة: تنظيم الليل كعامل إنتاجي
تتبع العديد من الدول المتقدمة سياسات صارمة لتنظيم الحياة الليلية تضمن بيئة نوم صحية:
في ميونيخ (ألمانيا)، أوسلو (النرويج)، وهلسنكي (فنلندا)، تُغلق معظم المقاهي والمطاعم بحلول الساعة التاسعة أو العاشرة مساءً، ما يؤدي إلى خلو الشوارع بعد هذا الوقت، وفي اليابان، هناك احترام مجتمعي كبير لـ”وقت النوم المبكر”، مع وجود لوائح صارمة بشأن الضوضاء الليلي، وفي فرنسا، تُنظم القوانين المحلية مثل “قانون الصحة العامة” أوقات إغلاق المقاهي والمطاعم في العديد من البلديات، حيث يُطلب إغلاقها قبل منتصف الليل، أما في السويد، تُحدد ساعات العمل الليلي قانونيًا، ولا يسمح باستمرار العمل في القطاع العام بعد التاسعة مساءً إلا بترخيص خاص، وكما توجد قوانين تحد من الضوضاء والنشاطات في الليل تعرف بـ “لوائح الضجيج الليلي”، للحفاظ على صحة السكان.
هذه السياسات تدعم ثقافة النوم المبكر، وتعزز من جودة النوم والإنتاجية، وتقلل من الآثار الصحية والاجتماعية السلبية.
التفسيرات الاجتماعية والاقتصادية لظاهرة السهر في العراق
من منظور النظرية البنائية – الوظيفية (دوركايم، بارسونز)، كل ظاهرة اجتماعية تخدم وظيفة، ولو كانت ضارة، فالسهر في العراق ربما يوفر شعورًا بالتفريغ أو الهروب من الواقع، لا سيما في ظل الضغوط الاقتصادية، وانعدام الأمن، وغياب الترفيه المنظم.
أما من منظور نظرية رأس المال الثقافي لبيير بورديو، فإن الطبقات الاجتماعية التي تفتقر إلى رأس المال الرمزي (كالمعرفة المهنية أو الروح التنظيمية) تميل إلى إعادة إنتاج نمط عشوائي في الحياة اليومية، ما يعكس فجوة في القيم المؤسسية التي تتطلبها المجتمعات الحديثة.
اقتصاديًا، يمكن توظيف تفسير نظرية الكسل الهيكلي (Structural Laziness)، حيث تُنتج الظروف الاقتصادية والمؤسسية نمطًا من الاستسلام والتأجيل والانتظار، فتنخفض قيمة الوقت، ويتحول الليل إلى فترة نشاط فارغة، بدلًا من استثمارها في الراحة والإعداد ليوم عمل منتج.
الآثار المترتبة على الفرد والمجتمع
-
الصحة الجسدية: زيادة أمراض السمنة، السكري، ضعف المناعة.
-
الصحة النفسية: ارتفاع حالات الاكتئاب والقلق واضطرابات المزاج.
-
انخفاض الإنتاجية: ضعف التركيز، تراجع جودة الأداء الوظيفي والتعليمي.
-
العلاقات الاجتماعية: تباعد في أوقات النشاط بين أفراد الأسرة والمجتمع.
-
تراجع التنمية الوطنية: ضعف الإنتاجية ينعكس على معدلات النمو الاقتصادي.
خاتمة وتوصيات
تشكل ظاهرة السهر في العراق انعكاسًا لخلل في النظام الاجتماعي والاقتصادي، وغياب تنظيم واضح للحياة الليلية، مما يؤثر سلبًا على الصحة والإنتاجية الوطنية مقارنة بالدول التي تعتمد أنظمة صارمة تحترم أهمية النوم المبكر.
لذلك، يُوصى باتباع نهج شامل يتضمن:
-
حملات توعية صحية ونفسية لبيان أهمية النوم المنتظم.
-
تعزيز ثقافة الوقت والانضباط في المؤسسات التعليمية والإدارية.
-
إدراج موضوعات الصحة النفسية والنوم في المناهج الدراسية.
-
سن قوانين محلية تنظم الحياة الليلية، تحدد أوقات إغلاق المقاهي والمطاعم، وتفرض لوائح ضد الضجيج الليلي.
-
إصلاح سوق العمل لخلق بيئة تحفز الإنتاجية والانضباط.
باتباع هذه الخطوات، يمكن للعراق أن يخطو نحو مجتمع أكثر صحة، إنتاجية، واستقرارًا، مستفيدًا من التجارب العالمية التي تؤكد أهمية التوازن بين النشاط والراحة.
المصادر
-
Walker, M. (2017). Why We Sleep: Unlocking the Power of Sleep and Dreams. Penguin.
-
Bourdieu, P. (1991). Language and Symbolic Power. Harvard University Press.
-
Durkheim, E. (1895). The Rules of Sociological Method.
-
البنك الدولي (2023). World Development Indicators.
-
Lancet Psychiatry (2021). Circadian misalignment and mental health.