حَرْبُ التَجْويِعِ …. وصم للتخلف الإنساني وانتهاك للقانون الدولي

بقلم أ.د. عباس علي شلال/ مدير مركز الفيض لاستطلاع الرأي والدراسات المجتمعية

 

 

تبرز -أحيانًا- ممارسة وحشية تتجاوز كل حدود الأخلاق والإنسانية، وهي حرب التجويع، لأنها ليست مجرد نتيجة عرضية للحرب والقتال، بل هي استخدام متعمد ومنهجي للحرمان من الغذاء والضروريات الأساسية كسلاح فتاك، تستهدف أرواح المدنيين وتنتقص من كرامتهم، لتصبح بذلك مؤشرًا جليًا على انعدام المروءة والإنسانية، ووصمة دناءة على جبين البشرية.

ومن المنظور الأخلاقي، حرب التجويع هي خيانة مطلقة للمبادئ الإنسانية الأساسية، إنها لا تكتفي بإلحاق الأذى الجسدي، بل تسعى إلى تدمير الروح المعنوية للأفراد والمجتمعات كليًا، والقصد الخبيث وراء هذه الممارسة -هو ما يجعلها غير أخلاقية بشكل صارخ- إنها محاولة لتحطيم إرادة الناس عن طريق أسوأ أشكال العنف من خلال حرمانهم من أساسيات البقاء.

أخلاقيًا، “الأفعال تحددها النوايا”، وكما قيل في فلسفتها إن الأخلاق تتطلب أن نتعامل مع البشر كـ”غايات في حد ذاتها، وليس مجرد وسائل”، وحرب التجويع تحوّل البشر إلى مجرد وسائل لتحقيق أهداف عسكرية، وهو ما يتناقض تمامًا مع هذا المبدأ الأخلاقي الجوهري، والذي يجد صداه في الالتزامات القانونية الدولية بحماية المدنيين وأعيانهم المدنية.

تستهدف حرب التجويع بشكل رئيس الفئات الأكثر ضعفًا من المدنيين (الأطفال، والنساء، وكبار السن، والمرضى) وهؤلاء هم الأقل قدرة على الدفاع عن أنفسهم أو الحصول على الغذاء، مما يجعل استهدافهم عملًا جبانًا وغير أخلاقي، وانتهاكًا صارخًا لمبدأ “حماية الضعفاء” الذي تُجمع عليه معظم المذاهب الأخلاقية والإنسانية، والذي كرّسه القانون الدولي الإنساني، وإن الجوع المفرط يُجرّد الإنسان من كرامته؛ فعندما يُجبر الناس على البحث عن الطعام في القمامة، أو بيع أطفالهم، أو ارتكاب أفعال يائسة للبقاء على قيد الحياة، فإن هذا يهين إنسانيتهم، وهنا أتذكر إشارة بعض الاحرار والمقاومين لهذا النهج الخبيث “لا يوجد شيء يقلل من كرامة الإنسان أكثر من الجوع”، وهذه الكرامة التي تدوس عليها حرب التجويع وهي الأساس الذي بُنيت عليه الحماية القانونية للحق في الغذاء والحياة الكريمة.

 

معاناة لا تُوصف وتدمير للمستقبل

الجانب الإنساني لحرب التجويع هو الأكثر وضوحًا وإيلامًا، وإنها تتسبب في معاناة جسدية ونفسية لا يمكن تصورها، وتترك آثارًا مدمرة تمتد لأجيال، والتجويع ليس قتلًا سريعًا، بل هو موت بطيء ومؤلم، يذبل فيه الجسد تدريجيًا، وتنهار المناعة، مما يجعل الأفراد فريسة سهلة للأمراض التي يمكن علاجها بسهولة في الظروف العادية، والأطفال هم الفئة الأكثر تضررًا، فسوء التغذية في سنوات التكوين الأولى يؤدي إلى تقزم النمو الجسدي والعقلي، مما يحرمهم من مستقبلهم ويُضر بقدرتهم على التعلم والتطور الطبيعيينِ، هذا يدمر جيلًا بأكمله.

من منظور إنساني، تُعد حماية الأطفال مسؤولية جماعية؛ “مستقبل أي مجتمع يكمن في أطفاله”، وعندما يُستهدف هؤلاء الأطفال بالجوع، فإن ذلك يعني تدميرًا ممنهجًا لمستقبل هذا المجتمع، وهو ما يتعارض مع روح اتفاقية حقوق الطفل والقانون الدولي الإنساني الذي يحمي الطفولة في النزاعات المسلحة، فضلا على ذلك، تؤدي حرب التجويع إلى تفشي الأمراض الوبائية بسبب ضعف الأجسام ونقص المياه النظيفة والصرف الصحي، مما يُضاعف من معدلات الوفيات ويزيد من الضغط على أي موارد صحية متبقية، والناجون من المجاعة يعيشون بصدمات نفسية عميقة، فالخوف الدائم من الجوع وفقدان الأحبة ومشاهدة المعاناة يترك ندوبًا في ذواتهم لا تُشفى بسهولة، ويؤثر على صحتهم العقلية وسلامهم الداخلي لسنوات طويلة.

 

انتهاك للقيم العالمية المشتركة

تتجاهل حرب التجويع مجموعة من القيم العالمية التي يتفق عليها معظم البشر، بصرف النظر عن ثقافتهم أو دينهم، والقيمة الأساسية التي يتفق عليها الجميع هي حرمة الحياة، وحرب التجويع هي محاولة متعمدة لإنهاء الحياة، ليس فقط بشكل فردي بل على نطاق واسع، وكل حياة بشرية لها قيمة متأصلة، والتجويع ينتهك هذه القيمة بشكل صارخ، وهو ما يتعارض مع حق الحياة المنصوص عليه في المواثيق الدولية لحقوق الإنسان.

الكرامة الإنسانية قيمة عليا، وحرمان الناس من الطعام والماء هو تجريدهم من أبسط مقومات الكرامة، وفكرة أن “كل إنسان يستحق العيش بكرامة” هي حجر الزاوية في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وحرب التجويع تدوس على هذا الحق بوضوح، مما يتنافى مع مبادئ القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، وهذه الممارسة تفتقر لأي شكل من أشكال الرحمة أو التعاطف؛ إنها عمل قاسٍ ووحشي يُظهر غيابًا تامًا لأي شعور بالآخر، ويتناقض مع جوهر الإنسانية الذي يقوم على “التعاطف مع معاناة الآخرين”، فلا يوجد عدل في استهداف المدنيين الأبرياء بالجوع؛ والعدالة تقتضي حماية غير المقاتلين وتوفير المساعدة لهم، لا حرمانهم من أساسيات الحياة، والعدالة هي أساس السلام، ولا يمكن أن يكون هناك سلام حيث يسود الجوع المتعمد.

أصبح الأمن الغذائي حقًا أساسيًا، وحرب التجويع تنتهك هذا الحق بشكل صارخ وممنهج، مما يسلط الضوء على فشل أخلاقي وقيمي في توفير أبسط متطلبات الحياة للإنسان.

 

جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية

من الناحية القانونية، حرب التجويع ليست مجرد عمل غير أخلاقي أو غير إنساني، بل هي جريمة دولية خطيرة يمكن مقاضاة مرتكبيها، والقانون الإنساني الدولي يحظر بشكل قاطع تجويع المدنيين كوسيلة للحرب، وهذا الحظر متجذر في اتفاقيات جنيف والبروتوكولات الإضافية.

تنص بعض فقرات البروتوكول بوضوح على “يحظر تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب القتال، ولذلك، يحظر مهاجمة أو تدمير أو نقل أو تعطيل الأعيان التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين، مثل المواد الغذائية والمناطق الزراعية التي تنتجها، والمحاصيل، والثروة الحيوانية، ومنشآت ومخزونات مياه الشرب، وأشغال الري، بغرض حرمانهم من قيمتها البقائية المعتادة الخاصة بهم”

النظام الأساس للمحكمة الجنائية الدولية يدرج التجويع ضمن جرائم الحرب “يعد تعمّد تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب بحرمانهم من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم، بما في ذلك تعمّد عرقلة إمدادات الإغاثة على النحو المنصوص عليه في اتفاقيات جنيف” فهي جريمة حرب في سياق النزاعات المسلحة الدولية، وقد تم توسيع نطاق هذا الحظر ليشمل النزاعات المسلحة غير الدولية بموجب كثير من التعديلات منها “إذا تم ارتكاب التجويع كجزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أي مجموعة سكانية مدنية، يمكن أن يرقى إلى مستوى جريمة ضد الإنسانية.

ولمواجهة هذه الجريمة، أكد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة على خطورة حرب التجويع، لذا أدان استخدام تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب، وذكّر بأن مثل هذا العمل قد يشكل جريمة حرب، كما شدد على ضرورة حماية المدنيين والبنية التحتية المدنية وضمان وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق، وتجدر الإشارة إلى أن المسؤولية الجنائية فردية؛ يمكن محاسبة الأفراد، سواء كانوا قادة عسكريين أو سياسيين، الذين يأمرون أو يشاركون في عمليات التجويع، بشكل فردي أمام المحاكم الدولية أو الوطنية، كذلك، يُعد منع أو عرقلة وصول المساعدات الإنسانية التي لا غنى عنها لبقاء المدنيين انتهاكًا خطيرًا للقانون الإنساني الدولي، ويُعد أيضًا جريمة حرب.

إن حرب التجويع هي وصمة سلبية تعبر عن تراجع الشجاعة والشعور بالهزيمة، وإنها تجسد أقصى درجات انعدام المروءة والرحمة، وتتجاوز كل الخطوط الحمراء الأخلاقية، والإنسانية، والقيمية، والقانونية، وتظل المطالبة بالمساءلة عن هذه الجرائم والعمل على منعها أولوية قصوى لحماية كرامة الإنسان وضمان مستقبل أفضل للجميع.

 

تجويع العراقيين “تجربة تسعينات القرن الماضي”

يعد الحصار الاقتصادي الذي فُرض على العراق في أعقاب غزو صدام للكويت عام 1990 أحد أبرز النماذج الحديثة لسياسات التجويع الجماعي التي مورست تحت غطاء العقوبات الدولية، وقد فرض مجلس الأمن الدولي حظرًا اقتصاديًا شاملًا على العراق شمل منع تصدير واستيراد السلع، بما في ذلك المواد الغذائية والدوائية، الأمر الذي ألحق أضرارًا بالغة بشعبنا الكريم، لاسيما الأطفال والنساء وكبار السن.

وقد وصف كثير من الباحثين والمراقبين الدوليين آثار هذا الحصار بأنه شكل من أشكال العقاب الجماعي غير المتناسب مع الأهداف السياسية المعلنة، إذ أدى إلى انهيار المنظومة الصحية والتعليمية وارتفاع معدلات الوفاة بسبب الجوع وسوء التغذية، بما في ذلك وفاة أكثر من نصف مليون طفل عراقي وفقًا لتقديرات “اليونيسف” في منتصف التسعينات.

وفي تحليل أخلاقي لهذا الواقع، عَدّ بعض المفكرين أن الحصار تجاوز كونه أداة ضغط سياسي، ليصبح ممارسة ممنهجة للتجويع الجماعي ترقى إلى مستوى الإبادة الباردة، لاسيما حين تستهدف أنظمة العقوبات البنية التحتية الحيوية والمعيشية للمجتمعات المدنية، وقد وصفه أحد الفلاسفة الفرنسيين بـ إدارة الموت البطيء، حيث يُستبدل القتل المباشر بالتجويع المنظم كأداة للهيمنة والتحكم في مصير الشعوب.

إن تجربة العراق في التسعينات ليست مجرد حالة سياسية، بل شاهد تاريخي على أن التجويع قد يُستخدم كآلية لتطويع الدول والشعوب، بصرف النظر عن شرعية المطالب السياسية، ما يضع المجتمع الدولي أمام تساؤلات جوهرية حول مدى التزامه بالمبادئ الإنسانية في إدارة النزاعات الدولية، وكما يرد في القول المأثور “لا تجوّعوا الشعوب فتثور، ولا تحاصروها فتموت، فإن الجوع أشد من السيف”.

 

التجربة الفلسطينية “حصار غزة وتجويعها”

في واحدة من أبشع صور التجويع المنهجي في العصر الحديث، يشهد قطاع غزة حربًا صامتة تتجلى في تجويع ممنهج، تفرضه آلة عسكرية حديثة عبر الحصار الشامل، والحرمان من الغذاء والماء والدواء، وقطع سلاسل الإمداد الإنساني، في انتهاك صارخ لكل المواثيق الأخلاقية والقانونية الدولية.

منذ اندلاع الحرب (طوفان الاقصى) وما ترتب عليها من عدوان واسع على قطاع غزة في أكتوبر 2023، تحولت سياسة العقاب الجماعي إلى استراتيجية عسكرية معلنة، وقد توعد وزير دفاع العدو علنًا بقطع الكهرباء، والوقود، والمياه، والطعام عن القطاع، وهي عناصر الحياة الأساسية لأي تجمع بشري.

ووفق تقارير برنامج الغذاء العالمي الصادرة في 2024، فإن أكثر من 80% من سكان غزة يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، مع تفشي المجاعة في أجزاء من شمال القطاع، وقد رُصدت حالات وفيات لأطفال رضع بسبب الجوع ونقص الحليب والغذاء، وسط صمت دولي مخجل، وتواطؤ ضمني مع سياسة التجويع حتى الخضوع.

يُصنّف هذا النوع من الحصار تحت مفهوم “حرب التجويع”، وهو محظور دوليًا، وقد عبّر عدد من المفكرين والفلاسفة المعاصرين عن هذا الانحدار الأخلاقي “حين يُمنع الإنسان من الخبز والماء ليُجبر على الطاعة، فإن الدولة تتحول من سلطة قانون إلى سلطة عارية… سلطة تعرّي الجسد من كل حماية”، ولم يكن الإسلام والمسيحية والرسالات السماوية غريبة عن هذا المبدأ الإنساني.

إن ما يجري في غزة هو جريمة متعددة المستويات: سياسية، أخلاقية، وإنسانية، لا يمكن تسويغها بأي ذريعة أمنية أو عسكرية، والتجويع ليس أداة انتقام، بل وصمة خزي وانحطاط على جبين الإنسانية.

 

مصادر

  1. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. (2024). حرب الإبادة في غزة: توظيف التجويع كسلاح سياسي. الدوحة.

  2. المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان. (2024). غزة تحت الحصار: بين القانون الدولي الإنساني والجرائم المستمرة. غزة.

  3. منظمة العفو الدولية. (2024). تجويع المدنيين في غزة جريمة حرب لا يمكن تبريرها. https://www.amnesty.org/ar

  4. Gordon, J. (2010). Invisible War: The United States and the Iraq Sanctions. Harvard University Press.

  5. International Committee of the Red Cross. (1977). Protocol Additional to the Geneva Conventions (Protocol I), Article 54.

  6. Rome Statute of the International Criminal Court. (1998). Article 8(b)(xxv).

  7. United Nations Children’s Fund (UNICEF). (1999). Iraq: UNICEF surveys show “humanitarian emergency”. Retrieved from https://www.unicef.org

  8. World Food Programme. (2024). Gaza Emergency: Hunger and Humanitarian Crisis. https://www.wfp.org

 

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى