وجدان تحت الراية ….. أثر عاشوراء في صياغة الشخصية الوطنية والهُوية الاجتماعية
بقلم: أ.م. د. مصطفى سوادي جاسم/ باحث في مركز الفيض العلمي لاستطلاع الرأس والدراسات المجتمعية
تمهيد:
عاشوراء ليست ذكرى عابرة في التاريخ الإسلامي، بل هي ملحمة إنسانية كبرى اختزلت أعظم معاني الصراع بين الخير والشر، والكرامة والذل، والحق والباطل، وفي قلب هذه الواقعة يقف الحسين بن علي عليه السلام، بوصفه رمزًا للثبات والإباء، وشخصية أسطورية خرجت من حدود الزمان والمكان إلى الفضاء الإنساني العام؛ لكن في العراق تحديدًا، حيث احتضنت أرض كربلاء دم الحسين ورفاقه، تحوّلت عاشوراء إلى عنصر جوهري في تكوين الهُوية العراقية، وأثّرت تأثيرًا بالغًا في تكوين شخصية الفرد والمجتمع، من الناحية القيمية، النفسية، الاجتماعية، وحتى السياسية.
أولًا: عاشوراء كمنظومة قيمية عابرة للتاريخ
تشكّلت الشخصية العراقية عبر قرون من التفاعل مع رمزية الحسين عليه السلام، حتى غدت هذه الشخصية مشبعة بمضامين عاشورائية كثيرة، منها:
-
الرفض المتجذّر للظلم والطغيان: لم يكن العراقي مستسلمًا لأي سلطة استبدادية على مرّ العصور، وغالبًا ما كانت مقاومته مغلّفة بشعارات كربلائية مثل “هيهات منا الذلة” أو “كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء”. هذه الشعارات لم تكن كلمات، بل دوافع حقيقية في مواقف التمرّد والثورة.
-
الثبات أمام المحن: في الحصار الاقتصادي، في الحروب، في الاحتلال، وحتى في الإرهاب، كان العراقي يحمل في داخله صورة الحسين عليه السلام صامدًا في العطش، في الخيام المحترقة، في وجه الرماح، وكأن هذه الصورة تشكّل مرآة لتحمّله.
-
الإيثار والفداء: تضرب هذه القيم بجذورها في أعماق النفس العراقية، حيث يظهر الاستعداد للتضحية بالمال والنفس والراحة في سبيل الجماعة، سواء في الحروب أو في أيام زيارة الأربعين، أو حتى في الكوارث والأزمات.
ثانيًا: كربلاء بوصفها مرجعية وطنية للمواقف الكبرى
الوجدان العراقي لم يتعامل مع كربلاء كذكرى فحسب، بل كمرجعية تستنطق كل موقف مفصلي يمرّ به المجتمع، في كل لحظة حرجة، يُستدعى “الموقف الحسيني” كأنموذج أخلاقي ومبدئي، ويُقاس عليه السلوك السياسي والشخصي.
-
في ثورة العشرين، رفع الثوار رايات الإمام الحسين عليه السلام، واعدوا أنفسهم “أحفاد كربلاء”.
-
خلال مقاومة الاحتلال الأمريكي، لم يكن من الغريب أن تُرفع صور الحسين عليه السلام إلى جانب أعلام العراق.
-
وفي ساحات التظاهر والاحتجاج، كانت خيام الثوار تُبنى على الطراز الحسيني، كرمز للاستمرارية في نهج الرفض، وأيضا شعارات وصور كربلاء والحسين عليه السلام حاضرة معهم.
ثالثًا: البنية الاجتماعية للعراقيين في ضوء عاشوراء
المجتمع العراقي بتركيبته العشائرية، والدينية، والمدنية، يُعيد في عاشوراء إنتاج ذاته من خلال:
-
ثقافة الخدمة (الخَدَمية): تَظهر في أقصى تجلياتها خلال مواسم عاشوراء، حيث يهبّ الناس من مختلف الطبقات لخدمة الزوار، دون مقابل، ودون تمييز، وهذا يُرسّخ في اللاوعي العراقي مفهوم “خدمة الآخر هي شرف”، وهو ما ينعكس أيضًا في المواقف المجتمعية كإغاثة المنكوبين.
-
إلغاء الفوارق الطبقية المؤقتة: في المواكب والمجالس، يجلس الغني والفقير، المسؤول والعامل، في صفّ واحد، ويلبس الجميع السواد، ويتناولون الطعام ذاته، وهي ممارسة تُعيد تشكيل العلاقات الاجتماعية على أسس روحية.
-
ثقافة البكاء الجماعي والشعور الجمعي: البكاء في المجالس ليس ضعفًا، بل تحوّل إلى طقس جماعي يُحرّر الأحزان المتراكمة ويُوحد المشاعر. فالعراقي يذرف دمعته، لا فقط على الحسين، بل على نفسه، وأهله، وبلده، ومستقبله.
رابعًا: أثر عاشوراء في التكوين النفسي والسيكولوجي للعراقي بحسب النظريات الاجتماعية
تشير الدراسات النفسية إلى أن “الرموز الجمعية” تؤثر في تشكيل الوعي وتحديد طبيعة الاستجابة الفردية للأزمات، وعاشوراء تمثل “الرمز الأعمق” في البناء النفسي للعراقي، فهي، تعزز الإحساس بالبطولة الفردية؛ فكل فرد يرى في نفسه قدرة على التغيير، كما غيّر الحسين مسار التاريخ، وتوفّر آلية لتفريغ الحزن والألم من خلال الطقوس والمجالس، ما يقي المجتمع من الانفجارات العاطفية العنيفة، وتُغذّي الارتباط الوجودي بالمعنى فالحياة ليست مجرد بقاء، بل موقف وشهادة ورسالة، كما فعل الحسين عليه السلام.
-
نظرية الهوية الاجتماعية (Social Identity Theory) – هنري تاجفل
تؤكد هذه النظرية أن الأفراد يبنون جزءًا مهمًا من هويتهم من خلال انتمائهم إلى جماعات اجتماعية معيّنة، فعاشوراء تؤدي دورًا محوريًا في تعزيز الانتماء الجماعي لدى العراقيين، إذ يشعر الفرد بأنه جزء من جماعة تتبنى رموز الحسين عليه السلام، وقيم كربلاء، وسرديات الفداء والصبر، مما يولّد “تماسكًا اجتماعيًا” أقوى، ويجعل الهوية الجمعية مركزية في حياة الأفراد.
تفسير عملي: الطقوس الجماعية (كاللطم، المسير، الخدمة) ليست فقط تعبيرًا عن إيمان، بل آليات لتعزيز الهوية الجمعية وتنشيط الشعور بـ”نحن”.
-
نظرية التعلم الاجتماعي (Social Learning Theory) – ألبرت باندورا
تنص هذه النظرية على أن الإنسان يتعلم من خلال “الملاحظة والتقليد”، لا سيما في الطفولة، إذ يكتسب الأطفال العراقيون القيم العاشورائية (كالفداء، البكاء لأجل المظلوم، التضحية) من خلال مشاهداتهم لأفعال الكبار، في المجالس والمواكب والطقوس، فتترسّخ فيهم أنماط سلوكية تدوم مدى الحياة.
تفسير عملي: الطفل الذي يشاهد والده يخدم الزائرين مجانًا، أو يشارك في اللطم، أو يبكي تأثرًا بقصة الحسين عليه السلام، يتعلّم ضمنيًا أن هذه التصرفات هي معيار الشجاعة والكرامة.
-
نظرية القيم الثقافية (Cultural Values Theory) – شالوم شوارتز
تضع هذه النظرية مجموعة من القيم التي تحدد سلوك الجماعات، منها: “الكرم، التضامن، احترام الرموز، الشجاعة”، وتُعد عاشوراء منصة ثقافية ضخمة تعيد إنتاج هذه القيم بشكل دوري، وتضمن استمرارها داخل المجتمع، من هنا، تتحول “زيارة الأربعين” و”المواكب” إلى مساحات تعلّمية للقيم الثقافية التي توحّد العراقيين.
-
نظرية الضبط الاجتماعي (Social Control Theory) – هيرشي
تطرح هذه النظرية أن ارتباط الفرد بالمجتمع وقيمه يحُدّ من انحرافه، ويزيد التزامه.
تسهم عاشوراء في تعزيز هذا الضبط من خلال: تذكير الفرد بالقيم العليا (الحق، الشرف، نصرة المظلوم) وإشعاره بأن عليه واجبًا أخلاقيًا تجاه الجماعة، وإيجاد بدائل روحية وسلوكية للتنفيس عن الضغوط.
تفسير عملي: الفرد الذي يشارك في عزاء أو خدمة، يشعر أنه “مرئي” من قبل مجتمعه، مما يعزز اندماجه ويقلل احتمال الانحراف أو العزلة.
-
نظرية رأس المال الرمزي – بيير بورديو
يرى بورديو أن المجتمعات تبني نوعًا من “رأس المال غير المادي” يُعرف بالرأس المال الرمزي، مثل المكانة، الشرف، الاحترام، وعاشوراء تُعد إحدى أقوى أدوات توليد هذا النوع من رأس المال، فالفرد الذي يُعرف بخدمته للزائرين، أو إحيائه للمجالس، يُنظر إليه باحترام، ويُمنح “مكانة رمزية” لا تعتمد على المال أو النفوذ.
تفسير عملي: قد ترى شخصًا بسيطًا من الناحية الاقتصادية، لكنه يحظى بمكانة رفيعة في محيطه لأنه يُعد من خُدّام الحسين عليه السلام، أو لأنه يُحيي المجالس منذ عقود.
-
نظرية الذكريات الجمعية (Collective Memory) – موريس هالبواكس
تشير هذه النظرية إلى أن المجتمعات تُعيد تشكيل هويتها من خلال الذكريات الجمعية المشتركة، وتُمثل “كربلاء وعاشوراء” الذاكرة الجمعية الأبرز في العراق، التي تتناقلها الأجيال، ليس كحدث تاريخي فحسب، بل كإطار لفهم الحاضر وبناء المستقبل.
-
نظرية التحفيز الذاتي والرمزية – فيكتور فرانكل (التحليل الوجودي)
فرانكل يرى أن الإنسان يحتاج إلى معنى في الحياة ليقاوم الألم والعبث، وتُقدّم عاشوراء هذا المعنى: أن الألم يُمكن أن يُصبح طريقًا للخلود، وأن المعاناة ليست عبثًا بل رسالة، وهذا ما يمنح الكثير من العراقيين قدرة عالية على الصبر والثبات، لأنهم يرون حياتهم ضمن قصة أكبر تبدأ في كربلاء.
خامساً: كيف تبني عاشوراء مفهوم “الهوية الوطنية العراقية”؟
رغم التنوع الديني والمذهبي والاثني في العراق، بقيت عاشوراء عاملاً جامعًا بوجه من الوجوه، لأن قيمها ليست حكرًا على طائفة، بل إنسانية بطبيعتها، فشعار “مظلومية الحسين عليه السلام” يتقاطع مع أي شعور بالحرمان السياسي أو الاجتماعي، وهكذا، تسهم عاشوراء في بناء هوية وطنية ليست مبنية على الجغرافيا أو العرق، بل على منظومة مشتركة من القيم، مثل: العدل، والشهادة، والإيمان بالحق، رفض الذل، وحبّ الفداء.
الخاتمة: كربلاء مستمرة في تشكيل الإنسان العراقي
عاشوراء ليست ماضٍ انتهى، بل حاضر متجدد، ومصدر دائم للهوية والقيم والتماسك، فالحسين عليه السلام لم يُقتل في التاريخ، بل وُلد في الوجدان العراقي، ليصير مرجعًا أخلاقيًا، ومركزًا وجدانيًا، وقوة ناعمة تسهم في صياغة العراقي كإنسان مقاوم، شجاع، كريم، وواعٍ لموقعه في التاريخ.
ولهذا، لا يمكن فهم الإنسان العراقي المعاصر دون العودة إلى كربلاء؛ حيث الحسين عليه السلام، وحيث الحكاية الأولى للكرامة.
المصادر
-
حسن العلوي. (1997). عاشوراء في الوجدان الشعبي العراقي. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
-
الشيخ محمد مهدي شمس الدين. (1995). الثقافة الشيعية والانتماء الحضاري. بيروت: المركز الإسلامي للدراسات.
-
طه باقر. (1986). مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة. بغداد: دار الحرية للطباعة.
-
عبد الجبار الرفاعي. (2014). الدين والظمأ الأنطولوجي. بيروت: مركز دراسات فلسفة الدين.
-
فالح عبد الجبار. (2012). الدولة والمجتمع المدني في العراق. بيروت: دار الفارابي.
-
مجموعة باحثين. (2020). دراسات في الشعائر الحسينية والهوية الاجتماعية. كربلاء: مركز كربلاء للدراسات والبحوث.
-
Albert Bandura. (1977). Social Learning Theory. Prentice-Hall.
-
Henri Tajfel & John Turner. (1986). The Social Identity Theory of Intergroup Behavior. In S. Worchel & W.G. Austin (Eds.), Psychology of Intergroup Relations.
-
Shalom H. Schwartz. (1992). Universals in the Content and Structure of Values: Theoretical Advances and Empirical Tests. Advances in Experimental Social Psychology, Vol. 25.