تحمّل المسؤولية في العمل النيابي

استقراء الأدوار اللازمة في ضوء الضوابط القانونية والتحديات الواقعية

إعداد: مركز الفيض العلمي لاستطلاع الرأي والدراسات المجتمعية

 

تُعدّ المؤسسة البرلمانية في النظام السياسي العراقي- وفق دستور 2005- الركن التشريعي الأعلى والمعبّر الأوضح عن الإرادة الشعبية، فالنيابة ليست تمثيلًا سياسيًا وحسب، بل هي تكليف دستوري وقيمي يحمّل النائب مسؤوليات مركّبة تشمل التشريع والرقابة وتمثيل المجتمع، بما يجعل الدور النيابي من أبرز الأدوات لتحقيق الحوكمة الرشيدة وصيانة المصلحة الوطنية في دولة ما تزال في طور البناء المؤسسي والسياسي.

ورغم وضوح النصوص الدستورية التي تمنح النائب استقلالية نظرية واسعة، فإن الواقع العملي، المحكوم بنظام المحاصصة وتغوّل الكتل السياسية، يفرض قيودًا بنيوية وسلوكية تحدّ من قدرة النائب على أداء مسؤولياته بكفاءة وحياد، ومن هنا يطرح مقالنا سؤالًا جوهريًا:

ما الأبعاد الحقيقية للمسؤولية النيابية، وكيف تتأثر قدرة النائب العراقي على تحمل هذه المسؤولية في ظل التحديات الواقعية والضوابط القانونية والإكراهات السياسية؟

تبرز أهمية هذا السؤال من الحاجة إلى فهم أزمة المسؤولية داخل التجربة البرلمانية العراقية، وبيان العلاقة بين البيئة السياسية ومسالك سلوك النائب، واستجلاء مكامن الخلل في عمليتي التشريع والرقابة، وما ينعكس عنه من آثار على استقرار النظام السياسي وجودة الحياة العامة.

 

الإطار السوسيو– سياسي لمسؤولية النائب في العراق

يستوجب تحليل المسؤولية النيابية تفكيك بنية النظام السياسي والاجتماعي الحالي، حيث تدفع الطبيعة الانقسامية للدولة ونظام المحاصصة إلى إعادة تعريف التمثيل النيابي بصورة تتعارض مع النموذج الديمقراطي التقليدي.

  1. تشوّه نموذج التمثيل النيابي في ظل المحاصصة

  • انحراف نموذج التمثيل المفوَّض: في الفلسفة الدستورية الحديثة، يُفترض أن النائب وكيل عن الأمة كلها لا عن مكوّن محدد، إلا أنّ التجربة العراقية أفرزت نموذجًا مغايرًا، إذ بات النائب يمثل مصالح كتلته أو جماعته الهُوياتية بدرجة أولى، ما يؤدي إلى تجزئة المسؤولية الوطنية وتحويل المقعد النيابي إلى أداة تفاوض في توزيع السلطة والموارد.

  • تحوّل المسؤولية من الدستورية إلى الخدماتية: في ظل الضغط الجماهيري والكتلوي، بات نجاح النائب يقاس بقدرته على جلب المنافع لا على جودة التشريع أو الرقابة، فتفرغت المسؤولية بشكلها القيمي إلى “مسؤولية نفعية” تُنافس المسؤولية المؤسسية، وهو اتجاه يُضعف الشرعية التشريعية ويقلل من جودة الأداء النيابي.

  1. صراع الولاءات وضغوط النخبة الحزبية

  • الانضباط الحزبي القسري: تنشأ سلطة الحزب على النائب من مركزية القرار داخل الكيانات السياسية، فيتحول النائب إلى ذراع تصويتي بدل أن يكون فاعلًا مستقلًا، ويشير منظّرو علم الاجتماع السياسي إلى أن هذا النمط يقوّض دور البرلمانات في الرقابة الفاعلة.

  • تضارب المصالح الهيكلي: بحسب بعض نظريات النخبة، فإن العلاقات المتشابكة بين السياسيين ومراكز النفوذ الاقتصادية تجعل النائب جزءًا من شبكة مصالح تعمل على حماية ذاتها، ما يقلص فرص المساءلة ويخلق حالة تشبه الى حد كبير الإفلات البنيوي من المسؤولية.

  • النيابة كمنصب ريعي: تؤدي الطبيعة الريعية للدولة العراقية إلى النظر للمقعد النيابي كمورد للتوزيع لا كأداة تشريع، فتُستغل السلطة لتحقيق مكاسب انتخابية ومصلحية، وهذا يكرّس مبادىء المسؤولية النفعية التي تتناقض مع الواجب الرقابي.

 

الجوانب النفسية والأخلاقية لتحمّل المسؤولية

لا تُفهم السلوكات النيابية بصورة كاملة دون تحليل العناصر النفسية المؤثرة في صناعة القرار.

 

  1. دوافع القوة والتحيزات المعرفية

  • الحاجة للنفوذ: وفقًا للرؤيا التي تتبنى الحاجات المستندة إلى القوة، فإن السعي للنفوذ يجعل المنصب النيابي منصة لتعزيز المكانة الشخصية، وقد يؤدي إلى تغليب مصالح الذات على الواجبات التشريعية.

  • الإدراك الانتقائي والتحيز التأكيدي: تُظهر دراسات علم النفس السياسي أن الانتماءات الحزبية تصنع تحيزات معرفية تجعل النائب يبرّر مواقف كتلته ويتجاهل الأدلة التي تكشف قصورها، ما يقلص الاستعداد لتحمل المسؤولية الرقابية.

 

  1. الفجوة بين القانون والأخلاق

لا تكفي المقاربة القانونية وحدها لفهم أزمة المسؤولية النيابية، فالقانون في لحظات الضعف المؤسسي يتحول إلى حدٍّ أدنى للسلوك، بينما تُبنى الأمم على معيار أعلى هو الأخلاق السياسية.

 

وفي التجربة العراقية، تتكوّن فجوة خطيرة بين المشروع القانوني والمشروع الأخلاقي، حيث تُمارس بعض النخب أعمالًا تتوافق شكليًا مع النص لكنها تُناقض الروح الأخلاقية للمسؤولية العامة، مثل الافادة من الثغرات الإجرائية في التعيينات، أو تمرير امتيازات استثنائية، أو تسييس الوظائف العامة لصالح الولاء الانتخابي.

 

 

ويشير باحثو الأخلاق السياسية إلى أن هذا النمط يُعدّ أحد أخطر أشكال الانحراف، لأنه لا يخرق القانون مباشرة، بل يحافظ عليه في الظاهر بينما ينقضه في الجوهر، وهنا تتجلى ما يسمّيه علماء النفس الاجتماعي بـ “الإعفاء الأخلاقي، أي القدرة على تبرير ممارسات مضرة بالمصلحة العامة من خلال خطاب قانوني أو تنظيمي يمنحها غطاءً شكليًا.

 

ويتجلى هذا الخلل في عدة مسارات:

  1. تقويض الثقة العامة: حين يرى المواطن أن القوانين تُستغل لتثبيت النفوذ أو توزيع الامتيازات، تتراجع الثقة بالدولة وبآليات الرقابة، ويتعزز الإحساس بأن النظام يعمل لمصلحة فئة محددة لا للصالح العام.

  2. إعادة إنتاج الإفلات من العقاب: إذ يصبح الالتزام الشكلي بالقانون آلية للهروب من المساءلة، فيتحول القانون من أداة عدالة إلى أداة تبرير.

  3. تسطيح المسؤولية وتحويلها إلى ممارسة طقسية: بحيث يصبح حضور النائب في الجلسات أو توقيعه على مشاريع القوانين أداءً شكليًا لا يستند إلى رؤية قيمية أو إحساس بواجب الجيل تجاه الأجيال اللاحقة.

  4. غياب الاعتبار للقيم بعيدة المدى: فبعض القرارات المتعلقة بالموارد الطبيعية، أو الدَّين العام، أو البيئة، أو السلم الأهلي تُتخذ وفق حسابات ظرفية قصيرة المدى، في تجاهل واضح لحقوق الأجيال القادمة، وهو ما يعدّ- وفق الفلسفة الأخلاقية الحديثة- إخفاقًا قيميًا يفوق الإخفاق القانوني.

إن تجاوز هذه الفجوة لا يتحقق بتعديل القوانين فحسب، بل بإعادة بناء مفهوم الفضيلة البرلمانية القائمة على المسؤولية الأخلاقية، والشفافية، واحترام المال العام، واستحضار أثر القرارات على مستقبل المجتمع وليس فقط على مكاسب اللحظة السياسية.

 

الأدوار الحقيقية للنائب وآليات المساءلة القانونية

  • النائب كـسلطة رقايبة مضادة: تستوجب الرقابة تفعيل أدوات الاستجواب والتحقيق البرلماني، وبناء لجان مهنية مستقلة، وعدم توظيف الرقابة كأداة مساومة سياسية.

  • التشريع الإبداعي والوطني: يتطلب التشريع المسؤول قضايا عدة منها، صياغة قوانين استراتيجية طويلة الأجل، وتحرير الإرادة التشريعية من الإملاءات الحزبية، وتجاوز التشريعات الظرفية قصيرة المدى.

  • التمثيل كفضاء للمواطنة: يجب إعادة تعريف التمثيل ليكون تعبيرًا عن الإرادة الوطنية لا عن الهُويات الفرعية، وهذا يتطلب بناء هُوية برلمانية موحدة تُعلي فكرة الدولة على فكرة المكوّن.

  • الآليات القانونية للمحاسبة: هناك جملة من الآليات القانونية والضوابط اللازمة للأداء البرلماني، منها:

  1. الاستناد حرفيًا بالمواد الدستورية التي تحدد الوظائف التشريعية والرقابية.

  2. الحصانة البرلمانية يجب ضبطها بحيث لا تتحول لدرع للفساد.

  3. دور المحكمة الاتحادية في ضبط التشريع.

  4. الرقابة الشعبية والإعلامية بوصفها مساءلة موازية.

 

الاستنتاجات

  1. تفكّك المسؤولية الوطنية: أظهرت الأفكار الواردة أن نظام المحاصصة ينتج مسؤولية مجزأة تعطل الوظيفة الوطنية للبرلمان وتحوّل النائب إلى ممثل لمكوّنه لا لمجتمعه الوطني.

  2. المسؤولية كقناع للسلوك النفعي: تتداخل الدوافع النفسية مع البيئة السياسية لتنتج ظاهرة تبرير الالهيمنة واستخدام المنصب لتعزيز النفوذ، لا لحماية الصالح العام.

  3. الحاجة لتمكين الأدوار الجوهرية للنائب: استعادة وظيفة البرلمان تتطلب تحرير الإرادة النيابية من ضغوط الكتل، وتفعيل الأدوات الدستورية الرقابية، وتعزيز ثقافة المسؤولية الأخلاقية.

 

التوصيات

  1. تعزيز الاستقلالية المؤسسية للنائب من خلال إصلاح النظام الداخلي وتخفيف سطوة الكتل.

  2. إقرار مدونة سلوك إلزامية مع هيئة مستقلة للمساءلة الأخلاقية.

  3. إصلاح تمويل الحملات الانتخابية للحد من نفوذ الممولين.

  4. تمكين المجتمع المدني والإعلام الرقابي عبر ضمان الوصول المفتوح لبيانات البرلمان.

  5. إعادة تنظيم الحصانة البرلمانية بحيث ترتبط فقط بما يتعلق بالأداء النيابي.

  6. تعزيز الرقابة النوعية بتوفير خبراء متخصصين ولجان تحقيق مؤسسية.Bottom of Form

 

المصادر

  1. أحمد، إحسان. (2019). “الرقابة البرلمانية في العراق بين النص والتطبيق”. مجلة العلوم السياسية، جامعة بغداد.
  2. الدليمي، عماد. (2018). البرلمان العراقي: الأداء التشريعي والرقابي. مركز البيان للدراسات والتخطيط.
  3. عبد الله، جبار. (2017). الديمقراطية التوافقية في العراق: قراءة نقدية. جامعة الكوفة.
  4. العوا، سليم. (2006). النظم السياسية والدستورية. القاهرة: دار الشروق.
  5. الكبيسي، حيدر. (2020). “فاعلية الرقابة البرلمانية في الأنظمة المختلطة”. مجلة الحقوق والعلوم السياسية، جامعة بابل.
  6. الهاشمي، علي طلال. (2020). أزمة التمثيل السياسي في العراق. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
  7. النجار، عزمي. (2015). الحوكمة الرشيدة وبناء المؤسسات. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.

 

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى