قراءة في ارتفاع نسبة المشاركة في الانتخابات العراقية رغم مقاطعة التيار الصدري

تحليل تاريخي وسياسي واجتماعي

بقلم: د. مصطفى سوادي جاسم

باحث في مركز الفيض العلمي لاستطلاع الرأي والدراسات المجتمعية

 

تُعدّ التجربة الانتخابية في العراق إحدى أكثر التجارب السياسية تعقيدًا في (الشرق الأوسط)، إذ تداخلت فيها بقايا النظام السلطوي قبل 2003 مع مساعٍ شعبية لإرساء أسس دستور ديمقراطي جديد، ومنذ أول انتخابات حرّة عام 2005، شهد العراق مسارًا انتخابيًا متباينًا، عكست نسب المشاركة فيه مستوى الثقة الشعبية بالمؤسسات السياسية، ففي انتخابات 2005 بلغت المشاركة نحو 58% رغم الظروف الأمنية العصيبة، ثم ارتفعت إلى 62% في انتخابات 2010 نتيجة احتدام التنافس السياسي، وفي انتخابات 2014 بلغت النسبة 62% وبعد عام 2014 ومع تصاعد الإحباط الشعبي وتفاقم الفساد، بدأت نسب المشاركة بالهبوط، فبلغت في انتخابات 2018 ما يقارب 44% فقط، ثم هبطت مجددًا في 2021 إلى نحو 42% في ظل موجة الاحتجاجات والمقاطعات.

وفي هذه السياقات، كان للتيار الصدري دور محوري في توجيه بوصلة المشاركة، إذ يمتلك قاعدة جماهيرية واسعة ومنظمة، وغالبًا ما تعكس مشاركته أو انسحابه أثرًا مباشرًا على نسب التصويت العامة، ومع ذلك، جاءت الانتخابات الأخيرة لتُظهر ارتفاعًا في نسبة المشاركة على الرغم من مقاطعة التيار الصدري، هذه المفارقة تفتح بابًا لتحليل مجموعة من المتغيرات السياسية والاجتماعية والإقليمية التي دفعت المواطنين للتحرك نحو صناديق الاقتراع.

 

أولًا: التحولات السياسية وديناميات المشاركة

  1. إدراك محدودية المقاطعة كأداة للتغيير: أثبتت التجارب العراقية والدولية أن المقاطعة لا تؤدي إلى إصلاح، بل تمنح القوى الأكثر تنظيمًا فرصة أكبر للسيطرة على البرلمان، ولذا اتجه جزء واسع من الجمهور إلى الاقتناع بأن المشاركة -رغم تحفظاته-أكثر جدوى من الانسحاب.

  2. الدخول القوي لأحزاب جديدة ذات مقبولية شعبية نسبية: شهدت الانتخابات صعود أحزاب جديدة تحمل خطابًا مدنيًا أو اقتصاديًا أو وطنيًا، او إسلاميا ذات بعد جهادي أكثر واقعية، ما أعاد إحياء اهتمام الناخبين. هذه الأحزاب، بخطابها الهادئ وتواصلها الميداني، جذبت فئات كانت سابقًا مترددة أو يائسة، فأسهمت في رفع نسبي لنسبة المشاركة.

  3. الرضا النسبي عن أداء الحكومة: رغم وجود تحديات، فإن بعض المؤشرات المتعلقة بالأمن، والخدمات، واستقرار العملة، وتكثيف مشاريع البنى التحتية، منحت شريحة من الجمهور إحساسًا نسبيًا بوجود تحسن، ولو جزئي، وهذا الشعور ولّد لدى البعض رغبة في إعطاء العملية السياسية “فرصة أخرى“، ما انعكس في زيادة المشاركة.

  4. الرغبة في منع احتكار القرار السياسي: مقاطعة تيار كبير مثل التيار الصدري خلّفت مخاوف عند فئات من الجمهور من إمكانية استفراد قوى معينة بالسلطة، لذا شعر كثيرون بضرورة المشاركة لمنع أي ميل نحو احتكار القرار أو إعادة تشكيل موازين القوى بطريقة غير تمثيلية.

  5. نشاط القوى الشبابية والمستقلين: استثمرت الحركات المدنية والمرشحون المستقلون غياب طرف انتخابي كبير لتعزيز حضورهم وتعميق التواصل مع الجمهور، وقدموا أنفسهم بوصفهم بديلاً واقعيًا وحلقة وصل بين الاحتجاجات وصندوق الاقتراع.

 

 

 

ثانيًا: العوامل الاجتماعية والنفسية

  1. الخوف من ضياع التجربة الديمقراطية: استمرار العملية الديمقراطية- بكل عيوبها- ما زال يمثل مظلة حماية من العودة إلى الفوضى واحتكار السلطة، وهذا الوعي تصاعد مع المشهد الإقليمي المضطرب، فاختار كثيرون التصويت باعتباره دفاعًا عن استمرار النظام الدستوري.

  2. تأثير الاضطرابات الإقليمية ووجود الجولاني في سوريا: عودة نشاط الجماعات المسلحة في سوريا، وظهور أسماء مثيرة للقلق مثل الجولاني، خلق قلقًا في الوعي العراقي من إمكانية تكرار سيناريوهات عدم الاستقرار في المنطقة واحداث 2014 المرتبطة بداعش واحتلال المدن وهذا عزز الميل إلى التصويت لضمان تحصين الداخل العراقي سياسيًا وأمنيًا.

  3. التحشيد الطائفي المحدود: رغم تراجع الطائفية كخطاب عام، بقيت بعض القوى تستخدمه بطرق مواربة لإثارة القواعد التقليدية، مما أدى إلى رفع المشاركة في مناطق معينة، وهذا التحشيد كان أقل مما كان عليه في العقد الماضي، لكنه ما زال مؤثرًا في بيئات سياسية محدودة.

  4. شراء الأصوات وتضخم المال السياسي: لا يمكن إغفال دور البذخ المالي والشراء المباشر للأصوات في رفع نسبة المشاركة الشكلية، فقد استثمرت بعض الكتل السياسية موارد كبيرة لاستمالة أصوات الفقراء والعاطلين، ما أدى إلى إدخال ناخبين غير راغبين أصلًا في العملية السياسية او مترددين في المشاركة، اذ تشير التقارير الصحفية وتصريحات كثير من المرشحين والنواب الى ان هناك استخداما كبيرا للمال السياسي وبشكل غير مسبوق في هذه الانتخابات، ورغم عدم شرعية هذا السلوك، إلا أنه كان أحد عوامل ارتفاع المشاركة.

 

ثالثًا: مناقشة تحليلية لأبعاد الظاهرة

  1. هل ارتفاع المشاركة يعني تراجع تأثير التيار الصدري؟

الجواب العلمي: لا.

 

ارتفاع المشاركة يعكس دخول شرائح جديدة، وليس غياب قاعدة التيار الصدري. لكن التوازن السياسي تغير بسبب إعادة توزيع أصوات لم تكن نشطة سابقًا.

  1. هل ارتفاع المشاركة يعكس تحسن الثقة بالنظام السياسي؟

بشكل جزئي فقط.

 

بعض الجمهور شارك بدافع الرغبة في الاستقرار، لا بسبب الثقة المطلقة، والبعض شارك بدافع الخوف من الفراغ، أو بسبب الإغراء المادي، أو للبحث عن بدائل جديدة.

  1. هل يمكن البناء على هذا الارتفاع؟

نعم، بشرط:

  • تقوية الرقابة ومكافحة المال السياسي.

  • ترسيخ دور القضاء في الطعون.

  • تطوير قانون انتخابات أكثر عدالة.

 

الخاتمة

 

إن ارتفاع نسبة المشاركة في الانتخابات العراقية الأخيرة، رغم مقاطعة التيار الصدري، يمثل ظاهرة متعددة الأسباب والدلالات، فهو يعكس إدراكًا متزايدًا لدى الجمهور بأن الانسحاب لا يغيّر شيئًا، ويبرز دور الأحزاب الجديدة وحالة الرضا النسبي عن الأداء الحكومي، إلى جانب تأثير المال السياسي، ومخاوف الإقليم المضطرب، والتحولات في الوعي الاجتماعي.

 

هذه المشاركة، مهما كان دافعها، تمثل فرصة للنظام السياسي العراقي لإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة، غير أن استمرار هذه المشاركة كمؤشر إيجابي يستلزم إصلاحات حقيقية تتجاوز الشكل إلى الجوهر، وتعالج جذور الأزمات-من الفساد إلى سوء الإدارة وتراجع الخدمات-لتحويل المشاركة الانتخابية من سلوك طارئ إلى ثقافة سياسية راسخة.

وإذا كان الشعب قد خرج هذه المرة متحديًا اليأس والخيبات، ومصوّتًا من أجل حماية الدولة ومسارها الديمقراطي، فإنّ الكرة اليوم أصبحت بالكامل في ملعب الكتل السياسية والنواب الجدد، فهذه الأصوات التي نالوها لم تكن أرقامًا تُسجَّل في صناديق الانتخاب، بل كانت ثقة معلّقة على كتف كل نائب، ووصية شعبٍ قرر أن يمنح النظام السياسي فرصة أخيرة قبل أن ينطفئ الأمل، إنّ العراقيين الذين نهضوا، رغم الألم والضيق والمحن، يستحقون مكافأة بحجم تضحياتهم؛ يستحقون دولة عادلة، وخدمات كريمة، وقرارًا وطنيًا لا يخضع لمساومات اللحظة أو لضغوط الخارج، وعلى النواب اليوم أن يدركوا أنّ كل صوت حصلوا عليه هو مسؤولية أخلاقية قبل أن يكون مكسبًا سياسيًا، وأنّ خيانة هذه الثقة ليست مجرد فشل انتخابي، بل جرح جديد في جسد وطن طالبهم أن يكونوا على قدر حلمه ومستقبل أبنائه.

 

 

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى