العزوف الانتخابي والمقاطعة .. دراسة مقارنة لتجارب الدول وآثارها على العملية الديمقراطية

بقلم: د. مصطفى سوادي جاسم

باحث مركز الفيض العلمي لاستطلاع الرأي والدراسات المجتمعية

 

تُعدّ الانتخابات الركيزة الأساسية في أي نظام ديمقراطي، إذ تمثّل الوسيلة الشرعية التي يعبّر بها الشعب عن إرادته السياسية في اختيار ممثليه داخل مؤسسات الحكم، فهي ليست مجرّد إجراء شكلي يتكرر كل فترة زمنية محددة، بل تمثّل عملية سياسية واجتماعية معقّدة تترجم مدى نضج الوعي السياسي للمجتمع وقدرته على المشاركة الفاعلة في صناعة القرار، ومن خلال الانتخابات، تتجدّد شرعية الأنظمة السياسية، وتُبنى جسور الثقة بين الحاكم والمحكوم، كما تتحدد ملامح التوازن بين القوى السياسية والاجتماعية الفاعلة داخل الدولة.

إنّ أثر الانتخابات في العملية السياسية يتجاوز حدود اختيار الأشخاص إلى بناء منظومة الحكم نفسها؛ فهي تحدّد شكل النظام السياسي، ونمط التداول السلمي للسلطة، وموقع القوى المعارضة ضمن البنية السياسية، وتؤدي المشاركة الواسعة في الانتخابات إلى تعزيز شرعية النظام الديمقراطي وترسيخ ثقافة المواطنة، في حين أن ضعف الإقبال أو المقاطعة الشعبية يُعدّ مؤشرًا على تآكل الثقة بالمؤسسات السياسية، ويكشف عن أزمة في العلاقة بين المجتمع والدولة.

وفي العراق، مثّلت الانتخابات بعد عام 2003 أحد أبرز مظاهر التحوّل الديمقراطي في مرحلة ما بعد النظام الشمولي، إذ أُجريت عدة دورات انتخابية برلمانية ومجالس محافظات، كانت في مجملها محاولات لترسيخ الممارسة الديمقراطية وتأسيس نظام تمثيلي يعكس التنوّع الاجتماعي والسياسي للبلاد، غير أن العملية الانتخابية العراقية واجهت تحدّيات كبيرة تمثّلت في ضعف الثقة الشعبية، والتجاذبات الطائفية والسياسية، وتأثير المال والسلاح في العملية الانتخابية، ومع مرور الوقت، بدأت تتنامى ظاهرة العزوف عن المشاركة، لا سيما في انتخابات عام 2018 و2021، حيث انخفضت نسب التصويت بشكل ملحوظ، مما فتح الباب أمام تساؤلات عميقة حول جدوى المشاركة ومصداقية النظام الانتخابي.

وفي ظل هذا الواقع، برزت دعوات مقاطعة الانتخابات بوصفها أحد أشكال الاحتجاج السياسي، سواء من قبل أحزاب فقدت الثقة بالعملية الانتخابية، أو من قبل مواطنين يرون أن نتائج الانتخابات لا تُحدث تغييرًا حقيقيًا في بنية الحكم، وقد اتخذت هذه الدعوات طابعًا متزايدًا مع تصاعد الإحباط الشعبي من أداء الطبقة السياسية، ما أدى إلى نسب مشاركة متدنية تُعدّ من الأدنى في تاريخ التجربة الديمقراطية العراقية، هذه الظاهرة تثير تساؤلات حول مدى تأثير المقاطعة على الإصلاح السياسي، وما إذا كانت تُعدّ وسيلة ناجعة للتغيير، أم أنها تُسهم — على العكس — في تكريس هيمنة القوى التقليدية على السلطة.

 

مفهوم العزوف والمقاطعة وأسبابهما

يُعدّ العزوف عن المشاركة الانتخابية أحد أبرز الظواهر السياسية التي تواجه الأنظمة الديمقراطية المعاصرة، إذ تعكس مدى الثقة أو اللامبالاة بين المواطن والنظام السياسي، ويمكن التمييز بين العزوف الانتخابي (Electoral Apathy) والمقاطعة الانتخابية (Election Boycott)؛ فالأول يتسم بالسلبية واللامشاركة دون موقف سياسي معلن، بينما الثانية تمثل سلوكًا احتجاجيًا مقصودًا تتبناه أحزاب أو فئات اجتماعية للتعبير عن رفضها لبيئة العملية الانتخابية أو لنتائجها المتوقعة.

 

أولًا: مفهوم العزوف الانتخابي

العزوف يعني إحجام الناخبين عن التوجه إلى صناديق الاقتراع رغم توافر الفرصة القانونية للمشاركة، وغالبًا ما يرتبط العزوف بانعدام الثقة في قدرة الانتخابات على إحداث التغيير الفعلي، أو بسبب ضعف الوعي السياسي، أو الشعور بعدم جدوى الصوت الانتخابي في ظل هيمنة قوى محددة على المشهد السياسي.

وفي كثير من التجارب الديمقراطية، يُعدّ انخفاض نسبة المشاركة مؤشرًا على أزمة شرعية، إذ إن الانتخابات- بوصفها أداة التداول السلمي للسلطة- تفقد معناها حين تكون فئة صغيرة فقط هي التي تختار الحكّام باسم الشعب بأسره.

 

ثانيًا: مفهوم المقاطعة الانتخابية

المقاطعة هي امتناع منظم ومقصود عن المشاركة في الانتخابات، تتبناه عادة قوى سياسية أو اجتماعية تعلن رفضها للنظام القائم أو تشكّك في نزاهة العملية الانتخابية، وتُستخدم المقاطعة كأداة ضغط سياسي لإجبار السلطة على إصلاح النظام الانتخابي أو معالجة الاختلالات المؤسسية.

وتختلف المقاطعة عن العزوف في كونها فعلاً سياسيًا واعيًا يهدف إلى تحقيق نتيجة، وليس مجرد انكفاء أو لا مبالاة.

 

ثالثًا: الأسباب العامة للعزوف والمقاطعة في العالم

يمكن تصنيف الأسباب التي تدفع الأفراد أو الأحزاب إلى العزوف أو المقاطعة ضمن محاور رئيسة:

  • فقدان الثقة بالمؤسسات السياسية: حيث يرى المواطن أن العملية الانتخابية شكلية، وأن النتائج محسومة مسبقًا.

  • ضعف الشفافية ونزاهة الانتخابات: انتشار التزوير، أو هيمنة حزب حاكم، أو تقييد الإعلام والمعارضة.

  • غياب العدالة الاجتماعية والاقتصادية: إذ يشعر المواطن بأن صوته لا يُترجم إلى تحسين في مستوى الخدمات أو فرص العمل.

  • الإحباط السياسي وضعف الثقافة الديمقراطية: نتيجة تجارب سابقة لم تُحقق أي تغيير حقيقي رغم المشاركة الواسعة.

  • الضغوط الأمنية أو الخوف من العنف الانتخابي: في بعض الدول التي تشهد صراعات مسلحة أو استقطابًا حادًا.

 

رابعًا: العزوف والمقاطعة في العراق

شهد العراق بعد عام 2003 عددًا من الانتخابات البرلمانية والمحلية، إلا أن نسبة المشاركة كانت في تراجع مستمر، إذ انخفضت من نحو 79% في انتخابات 2005 إلى قرابة 41% في انتخابات 2021، وهي أدنى نسبة منذ تأسيس النظام الديمقراطي بعد التغيير السياسي.

 

وتعود أسباب العزوف والمقاطعة في العراق إلى عوامل متشابكة، من أبرزها:

  • فقدان الثقة بالطبقة السياسية نتيجة تفشي الفساد وضعف الأداء الحكومي.

  • غياب العدالة في توزيع الثروات والمناصب، ما جعل المواطن يشعر بأن الانتخابات لا تغيّر موازين القوى.

  • الاحتجاجات الشعبية المتكررة (مثل تظاهرات تشرين 2019) التي طالبت بإصلاح شامل للنظام السياسي، وأفرزت موجة من المقاطعة الواسعة بوصفها تعبيرًا عن الرفض الجماهيري.

  • تجارب سابقة للمشاركة غير المثمرة، إذ لم تؤدّ الانتخابات إلى تحسين واقع الخدمات أو الأمن.

  • هيمنة القوى التقليدية وغياب البدائل السياسية الحقيقية، ما جعل الناخب يرى المشاركة عبثية.

  • التشكيك في نزاهة المفوضية أو قانون الانتخابات، خاصة ما يتعلق بتقسيم الدوائر أو العد والفرز الإلكتروني.

 

التجارب العالمية في مقاطعة الانتخابات

باتت ظاهرة مقاطعة الانتخابات إحدى أكثر القضايا إثارة للنقاش في الفكر السياسي المعاصر، لأنها تقع في منطقة وسطى بين الفعل الديمقراطي والاعتراض عليه. فهي من جهة تعبّر عن استخدام حقّ الامتناع كوسيلة سلمية للاحتجاج، لكنها من جهة أخرى قد تُضعف شرعية العملية الانتخابية نفسها وتؤدي إلى مزيد من الانغلاق السياسي. وتكشف تجارب العالم أن المقاطعة ليست مجرد موقف سلبي، بل استراتيجية سياسية متعمدة تتبناها أحزاب أو حركات ترى أن المشاركة تُكرّس واقعًا فاسدًا أو غير عادل، في حين تسعى المقاطعة إلى زعزعة هذا الواقع أو دفع السلطة إلى إصلاحات جوهرية.

وفي هذا السياق، شهدت دول عديدة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية حالات متعددة من المقاطعة، تفاوتت دوافعها ونتائجها بحسب طبيعة الأنظمة الحاكمة ومستوى تطور مؤسساتها الديمقراطية.

إنّ دراسة تجارب المقاطعة في العالم، بمختلف أبعادها التاريخية والسياسية والاجتماعية، تتيح لنا فهمًا أعمق لأسبابها ونتائجها، وتساعد في تقييم جدوى الدعوات إلى المقاطعة ومدى تأثيرها في الإصلاح السياسي أو ترسيخ الجمود القائم. فبعض التجارب كشفت أن المقاطعة قد تكون خطوة تكتيكية ناجحة إذا أحسنت القوى المعارضة إدارتها وربطتها ببرامج إصلاحية واضحة، فيما أظهرت تجارب أخرى أنها قد تؤدي إلى عكس النتائج المرجوة حين تترك الساحة خالية للحزب الحاكم وتفقد المعارضة أدوات التأثير المؤسسي.

 

 

وعليه، فإنّ استعراض أبرز التجارب العالمية في مقاطعة الانتخابات، وتحليل دوافعها وسياقاتها، وتقييم نتائجها السياسية والاجتماعية يمكن الإفادة منها في الواقع العراقي الراهن.

 

  1. تايلند – الانتخابات العامة 2014

قاطع “الحزب الديمقراطي التايلندي” المعارض الانتخابات العامة في 2014 احتجاجًا على ما اعتبره نظامًا انتخابيًا غير عادل وهيمنة حزب “فيو تاي” التابع لرئيسة الوزراء ينغلاك شيناواترا، فضلا عن المطالبة بإصلاح سياسي قبل أي انتخابات جديدة.

النتائج: أدت المقاطعة إلى انخفاض الإقبال إلى نحو 47% فقط، وهي من أدنى النسب في تاريخ البلاد، وفاز حزب الحكومة الحاكم بسهولة لكنه فقد الشرعية السياسية.

التحليل: لم تحقق المقاطعة هدفها في إصلاح النظام السياسي، بل أدت إلى انهيار العملية الديمقراطية وتدخل المؤسسة العسكرية مجددًا في الحكم، أصبحت التجربة مثالًا على أن المقاطعة في الأنظمة الهشة قد تفتح الباب لانقلابات أو فراغات سياسية بدلًا من الإصلاح.

 

  1. الكاميرون – الانتخابات التشريعية والبلدية 2020

قاطع حزب النهضة الكاميروني (MRC)، وهو أبرز أحزاب المعارضة، الانتخابات التشريعية والبلدية في شباط 2020، احتجاجًا على استمرار حكم الرئيس بول بيا منذ عام 1982، ورفض الحكومة إصلاح النظام الانتخابي وضمان حياد اللجنة الانتخابية، فضلًا عن الأزمة الأمنية في المناطق الناطقة بالإنجليزية التي حرمت الآلاف من التصويت.

النتائج: فاز حزب “التجمع الديمقراطي الشعبي الكاميروني” الحاكم بأغلبية ساحقة بلغت 139 مقعدًا من أصل 180 في البرلمان، لم تحصل المعارضة المقاطعة على أي تمثيل، وأضعفت المقاطعة موقع المعارضة التي فقدت تمثيلها المؤسسي، رغم كسبها تعاطفًا شعبيًا محدودًا في المدن الكبرى.

التحليل: لم تحقق المقاطعة أهدافها في الضغط من أجل الإصلاح السياسي. على العكس، عزز الحزب الحاكم سيطرته على السلطة التشريعية واستغل ضعف المعارضة لتأكيد شرعيته.

تُظهر التجربة الكاميرونية أن المقاطعة في الأنظمة السلطوية الراسخة غالبًا ما تُفضي إلى نتائج عكسية، إذا لم تُصاحبها تعبئة جماهيرية قوية أو دعم دولي فعّال.

 

  1. فنزويلا – الانتخابات البرلمانية 2020

في الانتخابات البرلمانية الفنزويلية لعام 2020، قاطعت المعارضة الانتخابات احتجاجًا على ما اعتبرته تلاعبًا في العملية الانتخابية.

النتائج: حصل حزب الرئيس نيكولاس مادورو على 253 مقعدًا من أصل 277، مما يعكس سيطرة تامة على البرلمان.

التحليل: أدت المقاطعة إلى تعزيز قبضة السلطة الحاكمة على المشهد السياسي، مما قلل من فرص المعارضة في التأثير على القرارات السياسية.

 

  1. كازاخستان – الانتخابات البرلمانية 2021

قاطع عدد من الأحزاب المستقلة ومنظمات المجتمع المدني الانتخابات احتجاجًا على غياب التعددية الحقيقية، واحتكار حزب “نور أوتان” الحاكم للساحة السياسية والإعلامية، وعدم السماح بتسجيل أحزاب معارضة جديدة.

النتائج: حصل حزب “نور أوتان” على 76 من أصل 98 مقعدًا، ولم تحصل أي قوى معارضة فاعلة على تمثيل برلماني.

التحليل: المقاطعة لم تغيّر الواقع السياسي في البلاد، بل منحت الحزب الحاكم شرعية شكلية من خلال فوز شبه كامل، وفشلت المعارضة في استثمار الغضب الشعبي لغياب بدائل انتخابية، مما أدى إلى استمرار المشهد السلطوي نفسه، مع وعود شكلية بالإصلاح السياسي لاحقًا.

 

  1. هونغ كونغ – انتخابات المجلس التشريعي 2021

أعلنت معظم أحزاب المعارضة الديمقراطية في هونغ كونغ مقاطعة الانتخابات التي جرت في كانون الأول 2021، بعد أن فرضت بكين تعديلات واسعة على النظام الانتخابي قلّصت عدد المقاعد المنتخبة مباشرة من الشعب، وزادت نسبة المقاعد التي يختارها “اللجنة الموالية لبكين”.

اعتبرت المعارضة أنّ الإصلاح الانتخابي أنهى فعليًا مبدأ “دولة واحدة ونظامان” الذي كان يضمن درجة من الحكم الذاتي لهونغ كونغ.

النتائج: بلغت نسبة المشاركة نحو 30.2% فقط، وهي الأدنى منذ عودة هونغ كونغ إلى الصين عام 1997، وفاز الموالون لبكين بجميع المقاعد تقريبًا (90 مقعدًا في المجلس التشريعي)، ولم يُسمح لأي من رموز المعارضة السابقة بالترشح بعد اعتقالهم أو نفيهم.

التحليل: المقاطعة كانت رمزية واحتجاجية أكثر من كونها وسيلة للتغيير، إذ أدت إلى إفراغ المجلس التشريعي من الأصوات المعارضة تمامًا، مما منح الحكومة الصينية حرية كاملة في تمرير التشريعات، وأثّرت المقاطعة سلبًا على مفهوم المشاركة السياسية في هونغ كونغ، وأضعفت فرص العودة إلى النظام الديمقراطي المحدود السابق. كما أصبحت التجربة مثالًا على أن المقاطعة في الأنظمة شبه السلطوية قد تؤدي إلى انكماش الفضاء السياسي بدلًا من توسيعه.

 

  1. أوغندا – الانتخابات العامة 2021

في الانتخابات العامة الأوغندية لعام 2021، قاطع بعض الأحزاب الانتخابات احتجاجًا على ما اعتبرته تلاعبًا في العملية الانتخابية.

النتائج: فاز الرئيس يوري موسيفيني بولاية سادسة، مما يعكس استمرار هيمنته على السلطة.

التحليل: أدت المقاطعة إلى تقليل تمثيل المعارضة في المؤسسات السياسية، مما أثر على فعالية النظام الديمقراطي.

 

 

 

 

  1. تونس – الانتخابات البرلمانية 2022

في الانتخابات البرلمانية التونسية لعام 2022، قاطع معظم الأحزاب السياسية الانتخابات احتجاجًا على الإجراءات التي اتخذها الرئيس قيس سعيد، معتبرين إياها تهديدًا للديمقراطية.

النتائج: بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات 8.8% فقط، مما يعكس عزوفًا جماهيريًا واسعًا.

التحليل: أدت المقاطعة إلى ضعف التمثيل السياسي في البرلمان، مما أثر على فعالية المؤسسات التشريعية في البلاد.

 

  1. بيلاروسيا – الانتخابات البرلمانية 2024

في الانتخابات البرلمانية البيلاروسية لعام 2024، قاطع معظم الأحزاب السياسية الانتخابات احتجاجًا على ما اعتبروه تلاعبًا في العملية الانتخابية.

النتائج: حصلت الأحزاب الموالية للرئيس ألكسندر لوكاشينكو على جميع المقاعد في البرلمان.

التحليل: أدت المقاطعة إلى تعزيز قبضة السلطة الحاكمة على المشهد السياسي، مما قلل من فرص المعارضة في التأثير على القرارات السياسية.

 

  1. تشاد – الانتخابات البرلمانية 2024

في الانتخابات البرلمانية التشادية لعام 2024، قاطعت المعارضة الانتخابات احتجاجًا على ما اعتبرته تلاعبًا في العملية الانتخابية.

النتائج: حصل حزب “حركة الإنقاذ الوطني” الحاكم على 124 مقعدًا من أصل 188، مما مكنه من السيطرة على البرلمان.

التحليل: أدت المقاطعة إلى تعزيز موقف الحزب الحاكم، مما ساهم في استمرار هيمنته على المشهد السياسي

 

  1. جورجيا – الانتخابات البرلمانية 2024

في الانتخابات البرلمانية الجورجية لعام 2024، قاطعت المعارضة الانتخابات احتجاجًا على ما اعتبرته تلاعبًا في العملية الانتخابية.

النتائج: حصل حزب “الحلم الجورجي” الحاكم على 54% من الأصوات، مما مكنه من السيطرة على البرلمان.

التحليل: أدت المقاطعة إلى تعزيز موقف الحزب الحاكم، مما ساهم في استمرار هيمنته على المشهد السياسي.

 

الاستنتاجات

 1- المقاطعة سلاح ذو حدّين: يتّضح من مجمل التجارب أن المقاطعة الانتخابية ليست وسيلة إصلاح فاعلة، بل قد تتحول إلى أداة تمنح الأنظمة الحاكمة مزيدًا من القوة والشرعية الشكلية، ففي معظم الحالات، لا سيما في الأنظمة السلطوية (كفنزويلا، كازاخستان، البحرين، الكاميرون)، أفضت المقاطعة إلى نتائج عكسية، إذ أُفرغت المؤسسات التشريعية من الأصوات المعارضة، ما جعل السلطة تعمل دون رقيب أو موازنة داخلية.

2- غياب التنسيق بين قوى المعارضة يضعف أثر المقاطعة: أظهرت التجارب أن انقسام المعارضة أو اختلافها في الموقف من الانتخابات يُفقد المقاطعة معناها السياسي، وفي العراق مثلًا عام 2021، لم يكن قرار المقاطعة موحدًا بين جميع قوى تشرين، ما جعل بعض القوى الجديدة تدخل الانتخابات وتكسب مقاعد رمزية، بينما خسر المقاطعون فرص التأثير.

3- المقاطعة في الأنظمة الهشة قد تفتح الباب للفوضى: في الدول ذات الأنظمة الانتقالية أو غير المستقرة، لم تُسهم المقاطعة في تصحيح المسار الديمقراطي بل عمّقت الأزمة وأدت إلى فراغ دستوري وشلل مؤسساتي، التجربة أظهرت أن المقاطعة في غياب خطة بديلة لإدارة المرحلة اللاحقة قد تكون مقدمة لانهيار النظام السياسي نفسه، لا لإصلاحه.

4- المقاطعة في الأنظمة السلطوية تُستغل لتأكيد الشرعية: في تجارب مثل كازاخستان، البحرين، الكاميرون، هونغ كونغ، استخدمت الأنظمة نتائج المقاطعة لتأكيد شرعيتها أمام الداخل والخارج، مبرّرة فوزها الكبير بضعف المعارضة، وهكذا تحولت المقاطعة من وسيلة اعتراض إلى أداة توظيف سياسي لصالح السلطة، إذ إن ضعف الإقبال لم يُترجم إلى ضغط حقيقي أو مساءلة داخلية.

5- المقاطعة تحتاج إلى بنية مدنية فاعلة: أظهرت التجارب الناجحة جزئيًا أن المقاطعة قد تؤتي ثمارها حين تُرافقها تعبئة شعبية قوية، ومساندة منظمات مدنية وإعلام حر، وضغط دولي ملموس، وهذا يعني أن المقاطعة لا تحقق أهدافها بمعزل عن حراك مجتمعي منظم ومشروع إصلاحي واضح.

6- ضعف الثقة بالعملية الانتخابية هو الجذر الأعمق للمقاطعة: تتفق أغلب التجارب على أن العامل الرئيس في المقاطعة هو تآكل الثقة الشعبية بالمؤسسات الانتخابية، فعندما يشعر المواطنون بأن الانتخابات لا تغيّر واقعهم أو أن نتائجها معروفة سلفًا، يصبح العزوف أو المقاطعة خيارًا احتجاجيًا طبيعيًا، هذا ما ظهر في العراق 2021، وفنزويلا، حيث لم تعد الانتخابات تُرى كوسيلة حقيقية للتداول السلمي للسلطة.

7- المقاطعة قد تؤدي إلى عزوف جماهيري دائمي: في بعض الحالات، مثل هونغ كونغ والعراق، تحولت المقاطعة إلى ظاهرة مزمنة من فقدان الثقة، انعكست في نسب مشاركة متدنية حتى في انتخابات لاحقة، وهذا يهدد النظام الديمقراطي نفسه على المدى الطويل، لأن المشاركة الشعبية هي جوهر الشرعية السياسية.

إذن، المقاطعة إن لم تُعالج أسبابها، قد تتحول إلى حالة اغتراب سياسي مستدام بين المواطنين ومؤسسات الدولة.

8- المقاطعة ليست بديلاً عن الإصلاح المؤسسي: كل التجارب أكدت أن المقاطعة، مهما كانت مبررة، لا يمكن أن تحل محل الإصلاح البنيوي في النظام الانتخابي والقضائي والإعلامي، ففي الحالات التي شهدت تحسينات ملموسة، كان الإصلاح المؤسسي هو الذي مهّد الطريق لانتخابات أكثر نزاهة من المقاطعة بحد ذاتها.

9- المقاطعة قد تضعف صورة الدولة أمام المجتمع الدولي: تسببت بعض المقاطعات الواسعة (كما في فنزويلا) في انتقادات دولية لشرعية العملية السياسية، لكنها أيضًا منحت الأنظمة مبررًا لتقييد المعارضة أكثر بحجة غيابها عن المؤسسات.

هذا يعني أن المقاطعة من دون حوار سياسي أو انخراط دولي منسّق يمكن أن تعزل القوى الديمقراطية داخليًا وخارجيًا في آن واحد.

10- التجربة العراقية في ضوء المقارنة العالمية: يُظهر تحليل الحالة العراقية أن المقاطعة كانت تعبيرًا عن أزمة ثقة شاملة بالنظام السياسي أكثر منها موقفًا من الانتخابات ذاتها.

لكنها، بالمحصلة، أضعفت معسكر الإصلاح المدني، وسمحت للأحزاب التقليدية بإعادة إنتاج نفسها، ولذلك يمكن القول إن التجربة العراقية تعكس نمطًا متكررًا عالميًا: المقاطعة في ظل انقسام المعارضة وغياب قيادة موحدة تؤدي إلى نتائج معاكسة للمراد منها.

 

 

 

المصادر

  1. Al Jazeera. (2021, January 11). Kazakhstan ruling party wins parliamentary vote with 71 percent.

https://www.aljazeera.com/news/2021/1/11/kazakhstan-ruling-party-wins-election

  1. Al Jazeera. (2020, February 10). Cameroon ruling party wins majority amid opposition boycott.

https://www.aljazeera.com/news/2020/2/10/cameroon-ruling-party-wins-majority-amid-opposition-boycott

  1. Amnesty International. (2022). Hong Kong 2021: Human Rights Report.

https://www.amnesty.org/en/location/asia-and-the-pacific/east-asia/hong-kong/report-hong-kong/

  1. Amnesty International. (2019). Bahrain 2018 Human Rights Report.

https://www.amnesty.org/en/location/middle-east-and-north-africa/bahrain/report-bahrain/

  1. BBC News. (2020, December 7). Venezuela election: Maduro consolidates power amid opposition boycott.

https://www.bbc.com/news/world-latin-america-55209639

  1. BBC News. (2021, December 20). Hong Kong elections: Pro-Beijing candidates sweep controversial vote.

https://www.bbc.com/news/world-asia-china-59719377

  1. BBC News. (2017, October 26). Kenya election: Kenyatta wins disputed poll with 98% of vote.

https://www.bbc.com/news/world-africa-41778646

  1. Birch, S. (2011). Electoral Malpractice. Oxford University Press.

  2. Diamond, L. (2019). Ill Winds: Saving Democracy from Russian Rage, Chinese Ambition, and American Complacency. Penguin Press.

  3. Freedom House. (2015). Freedom in the World 2015: Thailand.

https://freedomhouse.org/country/thailand/freedom-world/2015

  1. Human Rights Watch. (2015). Bangladesh: Events of 2014.

https://www.hrw.org/world-report/2015/country-chapters/bangladesh

  1. Human Rights Watch. (2021). Venezuela: Events of 2020.

https://www.hrw.org/world-report/2021/country-chapters/venezuela

  1. International Crisis Group. (2020). Cameroon’s Anglophone Crisis: How to Get to Talks?

https://www.crisisgroup.org/africa/central-africa/cameroon

  1. International Foundation for Electoral Systems (IFES). (2016). Elections in Haiti: 2015 Presidential Elections Fact Sheet.

https://www.ifes.org/publications

  1. (2014, May 22). Thai army seizes power, suspends constitution.

https://www.reuters.com/article/us-thailand-politics-idUSBREA4L02E20140522

  1. (2018, November 25). Bahrain holds elections with opposition barred from running.

https://www.reuters.com/article/us-bahrain-election-idUSKCN1NU0BQ

  1. (2021, October 12). Iraq’s election turnout lowest since 2005.

https://www.reuters.com/world/middle-east/iraq-election-turnout-lowest-since-2005-2021-10-12

  1. Schedler, A. (2002). The Menu of Manipulation. Journal of Democracy, 13(2), 36–50.

https://doi.org/10.1353/jod.2002.0025

  1. The Carter Center. (2018). Kenya’s 2017 General Elections: Final Report.

https://www.cartercenter.org

  1. The Guardian. (2014, January 6). Bangladesh ruling party wins amid opposition boycott and violence.

https://www.theguardian.com/world/2014/jan/06/bangladesh-election-boycott-violence

  1. The New York Times. (2016, February 15). Haiti Postpones Runoff Election Again After Weeks of Protests.

https://www.nytimes.com/2016/02/15/world/americas/haiti-election.html

  1. United Nations Assistance Mission for Iraq (UNAMI). (2021). Iraq: Electoral process and participation report.

https://iraq.un.org/en

 

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى