القمار وصوره المتجددة
دراسة تحليلية متعددة الأبعاد
اعداد: مركز الفيض العلمي لاستطلاع الرأي والدراسات المجتمعية
لم يعد القمار، أو الميسر، في العراق المعاصر مجرد لعبة عابرة أو تسلية موسمية، بل تحوّل إلى ظاهرة مركبة تُعد عرضاً لعلل بنيوية أعمق تعصف بالمجتمع بعد الانفتاح المبالغ فيه خلال العقدين الماضيين، لقد فككت التحولات الجذرية الأطر الاجتماعية التقليدية ودفعته نحو انفتاح رقمي هائل وغير مُنظّم، ما سمح للقمار بالتحول إلى أنموذج عابر للأوطان Transnational، ولم تعد المشكلة مقتصرة على الصالات السرية، بل امتدت لتشمل تطبيقات المراهنات الرياضية ومنصات الألعاب الإلكترونية ذات الصناديق العشوائية Loot Boxes التي تروج لسلوك قماري مقنّع، وفي هذه الدراسة نسعى لتفكيك الظاهرة عبر سبعة أبعاد مترابطة، بدءا من الرؤية الدينية وصولاً إلى التحديات الأمنية، لتقديم رؤية شاملة تفكك هذه الظاهرة المعقدة.
يُشكل التحليل متعدد الأبعاد إطارًا ضروريًا لفهم كيف تتجذر هذه الظاهرة في الواقع العراقي، سف يشرع في تقديم رؤية متعددة الابعاد عن القمار بصرته التقليدية والحديثة، على النحو الآتي:
البعد الديني–الفقهي
يمثل التحريم الديني الركيزة الأولى لمواجهة القمار، حيث يضعه النص القرآني الصريح في مصاف الكبائر، ولم يحرمه الفقهاء لكونه مجرد معصية فردية، بل لكونه يُفسد مقاصد الشريعة الأساسية، وفي مقدمتها حفظ المال والعقل والنفس، والقِمَارُ أو المَيْسِرُ هو كلُّ لَعِبٍ بين متنافسين على مال يجمع منهم ويوزع على الفائز منهم ويحرم الخاسر، ويوجد الكثير من أشكال القمار.
القمار أكل للمال بالباطل (غُنمٌ بلا غُرمٍ مشروع)، ويُحوّل مفهوم الكسب من الجهد والعمل المنتج إلى الحظ والمخاطرة العشوائية (Risky Randomness)، فضلا عن توليده للعداوة والبغضاء وتسببه في تفكك المجتمعات.
يمثل التحريم الديني للـقِمار، أو المَيْسِر، الركيزة الأخلاقية والقانونية الأولى في المجتمع العراقي لمواجهة هذه الظاهرة، فالنصوص الشرعية وضعته في مصاف كبائر الذنوب لخطورته القصوى على الفرد والمجتمع.
وجاء التحريم بالنص الصريح والتصنيف الشرعي، حيث قال تعالى “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ” (المائدة90)، وهذه الآية تُصنِّف الميسر (القمار) ضمن “الرجس من عمل الشيطان”، وهي دلالة على أنه يُقوِّض أساس الفلاح، والآية اللاحقة تُبرز الأثر الاجتماعي المباشر “إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ” (المائدة91).
هذا يوضح أن القمار يُنشئ العداوة والبغضاء، ويُسبب الصد عن ذكر الله والصلاة، مما يقوض البنية الروحية والأخلاقية، وقد أكدت السنة الشريفة على التحريم حتى على مُجرّد الدعوة إليه، كما يروى عنه صلى الله عليه وآله “من قال لصاحبه: تعال أقامرك، فليتصدق”.
يعرّف الفقهاء القمار (الميسر) بأنه كلُّ لَعِبٍ بين متنافسين (أو أكثر) على مال يجمع منهم ويُوزّع على الفائز دون الخاسر، بشرط أن يكون اشتراط العوض فيه من الطرفين أو من طرف واحد يدفعه للطرف الآخر على تقدير غلبته.
التحريم هنا لا ينبع من مجرد اللعب، بل من كونه يُحدث خللًا بنيويًا يتعارض مع مقاصد الشريعة الأساسية، وتحديدًا:
-
إفساد مقصد حفظ المال: القمار أكل للمال بالباطل؛ غُنمٌ (ربح) بلا غُرمٍ (مقابل) مشروع، حيث يعتمد على المخاطرة العشوائية (Risky Randomness) بدلاً من الجهد والعمل المنتج، مما يهدد الاستقرار الاقتصادي.
-
إفساد مقصد حفظ العقل والنفس: الإدمان السلوكي للقمار يُفقد الفرد السيطرة ويُولِّد اليأس والقلق الشديدين عند الخسارة.
وقد أفتت المرجعيات الدينية في العراق بتحريم القمار الإلكتروني تحديداً، معتبرة أن طبيعته الافتراضية تُفاقم ضرره لسهولة وصوله لشرائح الشباب والمراهقين، وهناك إجماع قاطع بين المرجعيات الدينية العليا على حرمة القمار بكل أشكاله، وقد تجاوزت فتاواهم مجرد التحريم النظري لتشمل تحليلًا عميقًا لتأثيراته الاجتماعية والاقتصادية:
اولا: التحليل الاقتصادي والجذور الفاسدة: قدم السيد محمد باقر الصدر في كتابه “اقتصادنا” تحليلاً رصيناً لأصل المشكلة، مؤكداً أن القمار يُبَدِّد الثروة الاجتماعية ولا يُضيف أي قيمة اقتصادية، فهو يقوم على الحظ لا العمل، مما يهدد مبدأ العدالة الاقتصادية، وهذا المنهج التحليلي يرى في القمار خللاً بنيوياً يضرب صميم النشاط الاقتصادي المنتج.
ثانيا: التحريم المطلق وعمومية الأدوات: أكد المرجع الراحل السيد أبو القاسم الخوئي على التحريم المطلق لكل ما يسمى لعبًا بالقمار ويكون بعوض مالي، مشدداً على أن المال المكتسب منه هو سُحت ومحرم التصرف به، كما ذهب الإمام روح الله الخميني إلى التحريم الشامل، معتبراً أن أدوات القمار المعروفة هي محرمة مطلقاً حتى لو لم يكن اللعب بها بعوض مالي، وذلك من باب سد الذرائع وقطع الطريق على كل ما يؤدي إلى الميسر.
ثالثا: شمولية الحكم للقمار الإلكتروني: أكد المرجع المعاصر السيد علي السيستاني على حرمة القمار مطلقاً لجميع أشكاله، ويشمل ذلك المراهنة على الألعاب الرياضية والمسابقات إذا كان فيها اشتراط مالي بين الطرفين، مؤكداً أن القمار الإلكتروني حكمه كالقمار التقليدي ولا يختلف عنه في الحرمة، ووجوب التخلص من أمواله، ويتفق معه في هذا الاتجاه آية الله السيد علي الخامنئي، الذي يتبنى التحريم الواسع لكل صور الميسر، مشدداً على أن المراهنة على الألعاب الإلكترونية أو المباريات الرياضية التي تتم باشتراط مالي هي قمار محرَّم بصرف النظر عن الوسيلة المستخدمة (الإنترنت أو غيره).
رابعا: التأكيد على الشمولية المعاصرة: كما شدد السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر على الشمولية في التحريم، بحيث لا يقتصر الحكم على الأدوات المشهورة، بل يشمل كل ما يُستخدم حالياً للمقامرة والمراهنة، بما في ذلك الألعاب الإلكترونية إذا كانت بعوض مالي، معتبراً المال المكتسب منها مالاً محرماً وسُحتاً.
إن هذه المواقف الفقهية الموحدة للمرجعيات العليا تُشكل أساساً متيناً يؤكد أن القمار الحديث (بما فيه المراهنات الإلكترونية) هو إفساد لمقاصد الشريعة، ويجب مكافحته بصرامة على المستويين الديني والقانوني في العراق.
البعد القانوني
على الرغم من أن القانون العراقي يتعامل مع القمار باعتباره جريمة، فإن النصوص النافذة تعاني من تقادم تشريعي حاد يضعف من قدرة الدولة على المواجهة، فـقانون العقوبات رقم (111) لسنة 1969، وتحديداً المواد 411-414، صيغ في حقبة ما قبل الإنترنت، فالنصوص الحالية تركز على “الأماكن المخصصة للقمار”، ما يجعل تطبيقها صعبًا على المراهنات الإلكترونية التي تتم عبر خوادم خارج العراق (Offshore Servers)، كما أن العقوبات الحالية (غرامة و/أو حبس بسيط) قد لا تتناسب مع الأرباح الهائلة التي تحققها شبكات القمار المنظمة، مما يجعلها أشبه بـكلفة تشغيلية وليست رادعًا حقيقيًا يضاهي جهود دول كإيران وتركيا في تشديد قوانينها السيبرانية.
هذه الفجوة تفتح تحديات قانونية وجنائية عميقة يمكن تفصيلها كالتالي:
-
فجوة التشريع السيبراني وتحدي الولاية القضائية
تكمن المشكلة الجوهرية في أن المراهنات الإلكترونية تتم في أغلب الأحيان عبر خوادم خارج الحدود الإقليمية العراقية، وهذا يضع تحدياً كبيراً أمام مبدأ الولاية القضائية للدولة، حيث لا يملك القانون العراقي آليات واضحة وقوية لتطبيق سلطته على هذه الكيانات الدولية، ولذلك، فإن الجريمة تتحول من “لعب في مكان مخصص” إلى “جريمة عابرة للحدود” تتطلب نصوصًا خاصة بالجرائم السيبرانية التي تتعلق بحجب المواقع، وتجميد الأصول الدولية، والملاحقة عبر التعاون القضائي الدولي، وهي مجالات ضعيفة التغطية في التشريع الحالي.
-
ضعف آليات الإثبات الجنائي الرقمي
يواجه القضاء والأجهزة الأمنية صعوبات بالغة في إثبات جريمة القمار الإلكتروني نظراً لتعقيداتها التقنية، وذلك من خلال استخدام العملات المشفرة والوسطاء، إذ تعتمد شبكات القمار العالمية على التحويلات المالية غير الرسمية، أو على العملات المشفرة، مما يجعل تتبع حركة الأموال وإثبات المعاملة الجنائية أمراً شديد الصعوبة مقارنة بالنقود الورقية.
كذلك فالتشفير وإخفاء الهوية آلية ذكية في الكشف عن المتلاعبين بالقمار، فتستغل هذه الشبكات تقنيات متقدمة لإخفاء هويات المقامرين والمنظمين، مما يعطل تجميع الأدلة الرقمية (Digital Forensics) اللازمة لإدانة المتهمين، خاصة رؤوس الشبكات الكبرى.
ج- قصور العقوبات والارتباط بالجريمة المنظمة
تمثل العقوبات الحالية (التي غالباً ما تكون غرامة مالية و/أو حبس بسيط) مشكلة رادعة؛ فهي لا تتناسب إطلاقاً مع حجم الأرباح الهائلة التي تحققها هذه الشبكات، بالنسبة للمنظمين، تعد هذه الغرامات كلفة تشغيلية (Cost of Doing Business) يمكن تحملها، وليست رادعًا حقيقيًا يهدد كيانهم المالي والإجرامي.
هذا القصور القانوني يسهل ربط القمار بجرائم أخرى أخطر، مثل (غسيل الأموال)، إذ تُستخدم أرباح القمار كقناة فاعلة لتبييض الأموال القذرة الناتجة عن الفساد أو التجارة غير المشروعة، ما يهدد سلامة النظام المالي الوطني، كذلك (تمويل الجريمة المنظمة)، حيث تُشكل الأرباح الهائلة للقمار مصدرًا تمويليًا ضخمًا للعصابات والشبكات الإجرامية العابرة للحدود.
د- المقارنة الإقليمية وحاجة العراق للتحديث
بالمقارنة الإقليمية، تتبنى دول مثل إيران وتركيا تشريعات أكثر صرامة في مجال الجرائم السيبرانية، وتفرض رقابة مشددة على التحويلات المالية الدولية، وتفعّل آليات الحجب الإلكتروني للمواقع التي تروّج للقمار، وهذا يتطلب من العراق سرعة العمل على إصدار قانون خاص بالجرائم الإلكترونية يتضمن آليات واضحة لتجميد الأصول، والتعاون الدولي في مجال تسليم المجرمين الإلكترونيين، لضمان عدم بقاء القمار “اقتصادًا موازيًا” محصنًا ضد القانون.
البعد التربوي-النفسي
يمثل القمار نقيضًا لمفهوم العمل المنتج وقيمة الاجتهاد، فغياب التربية الإعلامية والرقمية في المناهج يترك الشباب عرضة للتطبيقات التي تستغل دوافعهم النفسية، ومن منظور التعلم الاجتماعي، فإن رؤية الربح السريع في بيئة مليئة بالفساد أو القمار تدفع الشباب إلى محاكاة (Modeling) هذا السلوك وفقدان الثقة بالمسار التقليدي للنجاح.
ويُعد القمار آلية تكيُّف غير صحية (Coping Mechanism) للتعامل مع ارتفاع معدلات الاكتئاب والقلق المرتبط بالبطالة وفقدان الأمان الاقتصادي، التي تجاوزت نسبتها الـ 25% بين الشباب العراقي، وهذه الضغوط تدفع الفرد للبحث عن “نشوة سريعة” تحسن المزاج، لكن هذا الهروب سرعان ما يتحول إلى اضطراب إدماني سلوكي (Gambling Disorder) وفق تشخيص الـ DSM-5، حيث يتغذى على ما أسماه سكينر “التعزيز المتقطع” وعلى “التحيز المعرفي” (Cognitive Bias)، الذي يدفع المقامر للاستمرار في استرداد الخسائر (Chasing Losses)، وهو ما يفتقر النظام الصحي العراقي إلى مراكز متخصصة لعلاجه.
البعد الاجتماعي-الاقتصادي
يُفاقم القمار ظواهر التفكك الاجتماعي وتآكل الثقة، فانتشاره يعكس حالة الأنومي (Anomie) التي وصفها دوركهايم، حيث تفقد المعايير الأخلاقية والاجتماعية ويسود البحث عن الربح غير الشرعي، أما ابن خلدون فربط بين انتشار “اللهو المحرم” وضعف العمران الاقتصادي، وهو ما ينسحب على العراق اليوم؛ فانهيار بعض الأسر بسبب ديون القمار يؤدي إلى تآكل رأس المال الاجتماعي (Social Capital) وتنامي جرائم الاحتيال.
والقمار هو تحويل للثروة وليس خلقًا للقيمة المضافة (كما أكد آدم سميث)، والأموال المراهنة عبر الإنترنت تمثل هجرة لرأس المال (Capital Flight) واستنزافاً للعملة الصعبة تخرج من الدورة الاقتصادية المحلية، والأخطر، هو أن صالات القمار غير الرسمية غالبًا ما تُستخدم كواجهات لـغسيل الأموال القذرة الناتجة عن الفساد، مما يضفي على الظاهرة بُعدًا إجراميًا خطيرًا يهدد سلامة النظام المالي ويشوه الاختيار العقلاني للأفراد.
البعد الأمني والسيبراني
يُعد القمار الإلكتروني بوابة للجريمة المنظمة، ما يجعله قضية أمن قومي بامتياز، وتُشير التقارير العالمية إلى أن شبكات القمار الكبرى تُدار من قبل عصابات عابرة للحدود وتستخدم أرباحها لتمويل أنشطة إجرامية أخرى. كما قد يتعرض المقامرون المدمنون إلى الابتزاز الإلكتروني (Blackmail) من قبل مديري هذه الشبكات، مما يزيد من التهديد الأمني الشخصي، ويواجه العراق تحديًا تقنيًا كبيرًا بسبب غياب وحدة مركزية قوية ومزودة بأدوات التفتيش العميق للحزم (Deep Packet Inspection) لدى مزودي خدمة الإنترنت، مما يمنح تطبيقات القمار مساحة واسعة للعمل دون رقابة فعلية.
أنماط انتشار القمار والمراهنات في العراق “آليات التكيُّف الرقمي والمكاني”
تُظهر ظاهرة القمار في العراق تكيفًا عاليًا مع الواقع الاجتماعي والتقني، حيث لم تعد محصورة في شكل واحد، بل تطورت إلى نمطين رئيسين متكاملين؛ أحدهما عابر للحدود ويعتمد على التكنولوجيا، والآخر محلي متخفٍ ويخدم أهدافًا مالية مشبوهة، وهذا التنوع يضاعف من صعوبة رصد الظاهرة ومكافحتها.
أولاً: المراهنات الإلكترونية (النمط العابر للحدود)
يشكّل هذا النمط الواجهة الأكثر انتشاراً بين الشباب، وهو محرك رئيس لظاهرة القمار الحديثة في البلاد:
أ. هيمنة الرهان الرياضي والمنصات الخارجية
تعتمد الغالبية العظمى من المراهنين على المراهنات الرياضية، حيث تُهيمن مباريات كرة القدم الدولية (كالدوريات الأوروبية الكبرى) على حجم الرهانات بشكل مطلق، ويتم هذا النشاط عبر مواقع ومنصات مراهنات دولية (Offshore Servers) تستهدف الجمهور العراقي بشكل مباشر، مستغلة شغف الشباب بكرة القدم ويسر الوصول عبر الهواتف الذكية، وهذه المنصات تخلق سوقاً موازياً للرهان، يغذي الوهم بالربح السريع.
ب. استغلال قنوات الدفع المحلية والتحويلات المشبوهة
لتجاوز الرقابة المالية الرسمية ولتسهيل المشاركة، تعتمد هذه المنصات على آليات دفع مرنة وغير تقليدية، بدلاً من التعاملات المصرفية المباشرة، يتم استخدام بطاقات الدفع والمحافظ الإلكترونية المحلية (المُصدَرة من شركات الدفع العراقية)، حيث تُستخدم هذه القنوات لشراء وتحويل الأموال إلى المواقع الخارجية، وهذه الحركة المالية، التي تتم في تحدٍّ واضح لتعليمات البنك المركزي العراقي التي تحظر استخدامها في أنشطة المضاربة، تؤدي إلى نزيف مستمر للعملة الصعبة وهجرة رأس المال إلى خارج البلاد.
ج. التكيُّف مع التشفير والإخفاء
تستغل الشبكات الدولية المنظمة تقنيات التشفير وإخفاء الهوية، وتستخدم أحياناً العملات المشفرة، مما يعيق بشكل كبير قدرة الأجهزة الأمنية المتخصصة على تتبع حركة الأموال وجمع الأدلة الرقمية (Digital Forensics) الضرورية لإثبات المعاملة الجنائية، وهذا الغطاء التقني يمنح رؤوس الشبكات الدولية حصانة شبه كاملة من الملاحقة المحلية.
ثانياً: الصالات غير الرسمية (النمط الهجين والمتخفّي)
على الرغم من الحملات الأمنية المستمرة، لا يزال هناك وجود مادي للقمار في مناطق حيوية، لكنه تحوّل للعمل بنمط “هجين” يربط بين المكان المادي والتقنية الرقمية:
أ. التخفي الجغرافي والرقمنة الداخلية
تتركز هذه الأماكن في مناطق مختارة داخل بغداد، مثل الصدرية والكرادة والصالحية والمنصور، وكثيراً ما تتخفى داخل منازل سكنية أو كازينوهات غير رسمية، والمميز هو أنها لم تعد تعتمد على النقد التقليدي بشكل كلي، بل أصبحت تستخدم ماكينات إلكترونية لعمليات الرهان وتعتمد على الدفع الإلكتروني والتحويلات الفورية، ما يعكس رقمنة الظاهرة حتى في بيئتها المادية المغلقة.
ب. الارتباط بغسيل الأموال والجريمة المنظمة
يُعد هذا النمط المحلي مصدراً خطيراً، إذ تشير التقارير الأمنية إلى أن هذه الصالات تُستخدم كواجهات لعمليات غسيل الأموال الناتجة عن الفساد والاتجار غير المشروع، فالأرباح الطائلة للقمار توفر قناة فاعلة لتبييض الأموال القذرة، مما يرفع من معدلات الجريمة المصاحبة لها، كما أن هذا التواجد يسهل عمليات الابتزاز الإلكتروني للمقامرين المدمنين والمنهكين مالياً، مما يربط القمار مباشرة بـتمويل الجريمة المنظمة وتهديد الأمن الاجتماعي.
تظهر المتابعة للظاهرة المنتشرة بهدوء أن القمار في العراق هو تحدٍ مزدوج؛ فمن جهة هو نشاط سيبراني عابر للحدود يستنزف الثروة، ومن جهة أخرى هو نشاط محلي متخفٍّ يسهم في إفساد النظام المالي والأمني الداخلي.
الاستنتاجات
-
فشل التشريع في مواكبة التحول الرقمي
-
تقادم القانون: يواجه القانون العراقي (قانون العقوبات لعام 1969) تقادماً تشريعياً حاداً، حيث يركز على “الأماكن المخصصة للقمار” ويُعجز عن التعامل مع المراهنات الإلكترونية العابرة للحدود التي تتم عبر خوادم خارج العراق.
-
قصور الردع: العقوبات الحالية (غرامة و/أو حبس بسيط) تُعتبر غير رادعة على الإطلاق للمنظمين، وتمثل كلفة تشغيلية تُسهل استمرار عمل شبكات القمار المنظمة، وتفشل في مضاهاة صرامة التشريعات الإقليمية.
-
تحدي الإثبات والولاية القضائية: يفتقر القانون العراقي إلى آليات قوية للولاية القضائية على الكيانات الدولية، وتُواجه الأجهزة الأمنية صعوبة بالغة في الإثبات الجنائي الرقمي بسبب استخدام العملات المشفرة والوسطاء وتقنيات التشفير وإخفاء الهوية.
-
القمار بوابة للفساد الاقتصادي والجريمة المنظمة
-
هجرة رأس المال وتبديد الثروة: القمار هو ظاهرة اقتصادية هدّامة تقوم على تحويل الثروة وليس خلق القيمة المضافة. الأموال المراهنة عبر الإنترنت تمثل هجرة صريحة لرأس المال واستنزافاً للعملة الصعبة تخرج من الدورة الاقتصادية المحلية.
-
ربط مباشر بغسيل الأموال: أصبحت أرباح القمار وقنواته السرية قناة فاعلة لتبييض الأموال القذرة الناتجة عن الفساد أو التجارة غير المشروعة، مما يهدد سلامة النظام المالي الوطني.
-
تهديد للأمن القومي: يُعد القمار الإلكتروني مصدراً تمويلياً ضخماً للشبكات والعصابات الإجرامية العابرة للحدود، ويُصنَّف كقضية أمن قومي لكونه بوابة للابتزاز الإلكتروني وتمويل الأنشطة غير المشروعة.
-
إفساد القيم الدينية والاجتماعية
-
تحطيم المقاصد الشرعية: الموقف الفقهي الموحد للمرجعيات العليا (بما في ذلك السيد السيستاني، والسيد الخامنئي، والسيد الصدر) يؤكد أن القمار الحديث هو إفساد لمقاصد الشريعة في حفظ المال والعقل، ويجب مكافحته بصرامة.
-
الخيار غير العقلاني والأنومي: يعكس انتشار القمار حالة الأنومي الاجتماعية وتآكل رأس المال الاجتماعي، حيث يتخلى الشباب عن الاجتهاد والعمل المنتج (المخالف لنظرية الاختيار العقلاني) لصالح المخاطرة العشوائية، مما يزيد التفكك الأسري.
-
القمار كاضطراب نفسي واجتماعي
-
آلية هروب مَرَضية: يُعد القمار آلية تكيُّف غير صحية للتعامل مع ارتفاع معدلات البطالة واليأس، حيث يدفع البحث عن “نشوة سريعة” الفرد إلى اضطراب إدماني سلوكي.
-
تغذية الإدمان: يتغذى الإدمان على القمار بآليات نفسية معقدة مثل “التعزيز المتقطع” و”التحيز المعرفي” الذي يدفع المقامر للاستمرار في استرداد الخسائر، وهو ما يكشف عن نقص حاد في المراكز المتخصصة لعلاج الإدمان السلوكي في النظام الصحي العراقي.
-
قصور تربوي: يُسهم غياب التربية الإعلامية والرقمية في المناهج، وتفكك الرقابة الأسرية، في دفع الشباب إلى محاكاة سلوك الربح السريع الذي يرونه في بيئة الفساد أو القمار.
-
أنماط انتشار القمار والمراهنات في العراق تجاوزت الشكل التقليدي، لتتحول إلى تحدٍ هجين ومعقد:
-
تحول الظاهرة إلى نمط مزدوج الأبعاد: لم يعد القمار محصوراً، بل يعمل ضمن نمطين متكاملين؛ أحدهما سيبراني عابر للحدود (مواقع المراهنات الدولية) والآخر مادي متخفٍ (صالات غير رسمية ورقمنة داخلية)، مما يضاعف من صعوبة رصده ومكافحته.
-
هيمنة الرهان الرياضي كبوابة دخول: تُعد مباريات كرة القدم الدولية هي المحرك الأساسي لانتشار المراهنات الإلكترونية بين الشباب، حيث تستغل المنصات الخارجية شغف الجمهور ويسر الوصول عبر الهواتف الذكية لتغذية وهم الربح السريع.
-
النمط المحلي كواجهة للجريمة المالية: تُستخدم الصالات المادية المتخفية في بغداد كمواقع لعمليات غسيل الأموال الناتجة عن الفساد والاتجار غير المشروع، مما يربط القمار مباشرة بـتمويل الجريمة المنظمة ويزيد من معدلات الجريمة المصاحبة.
إن القمار في العراق هو نتيجة ومُفاقِم للأزمات البنيوية، وتتطلب معالجته تبني إستراتيجية وطنية شاملة ومتعددة الأوجه تجمع بين التحديث التشريعي الصارم، والرقابة السيبرانية الفعالة، والتحصين التربوي والنفسي، وتوفير بدائل اقتصادية حقيقية للشباب.
التوصيات
إن القمار في العراق يعكس بوضوح أزمة بنيوية مركبة، حيث تتشابك المحرّمات الدينية مع الفشل القانوني، والاضطرابات النفسية مع التفكك الاجتماعي، والاستنزاف الاقتصادي مع التهديد الأمني. إن مواجهة هذه الظاهرة لا يمكن أن تتم بحلول جزئية، بل تتطلب إستراتيجية متعددة الأوجه تستهدف الجذور:
أولاً: تعزيز الردع القانوني والرقابة التقنية: يجب العمل على تحديث فوري لقانون العقوبات ليتضمن تعريفات واضحة وعقوبات مشددة تجاه القمار وغسيل الأموال المرتبط به، ويجب إنشاء وحدة مركزية لمكافحة الجرائم السيبرانية وتزويدها بالقدرة التقنية لحجب المنصات الخارجية وتتبع المعاملات المالية المشبوهة، لوقف نزيف الأموال إلى خارج البلاد.
ثانياً: التحصين المجتمعي والعلاج المتخصص: لا بد من دمج منهج التربية المالية والأخلاقية في المدارس والجامعات لتعزيز ثقافة الكسب الحلال، بالتوازي، يجب إنشاء مراكز متخصصة لعلاج إدمان القمار السلوكي ضمن مؤسسات الصحة النفسية الحكومية، والاعتراف به كمرض يستوجب العلاج.
ثالثاً: توفير البدائل والفرص الاقتصادية: الحل الأعمق يكمن في دعم المشاريع الصغيرة وتوفير فرص عمل حقيقية ومنتجة للشباب، وإن إحلال ثقافة الإنتاج محل ثقافة الحظ، هو الترياق الأنجع لتقليص اليأس والبطالة التي تدفع الشباب نحو وهم “الربح السريع”، يجب أن تُدعم هذه الجهود بـحملات توعية إعلامية ودينية مُركزة تعرض الآثار المدمرة للقمار بأسلوب علمي ومقنع، بدلاً من الوعظ التقليدي
رابعا: تفعيل رقابة البنك المركزي على الدفع الإلكتروني: يجب تشديد الرقابة وتفعيل إجراءات حجب التعامل على بطاقات الدفع والمحافظ الإلكترونية المحلية التي تُستخدم بشكل متكرر للتحويل إلى مواقع المراهنات الدولية (Offshore Servers).
خامسا: تشديد العقوبات على الوسطاء الماليين: فرض عقوبات صارمة على أي مؤسسة مالية أو شركة دفع تُثبت تورطها في تسهيل تحويل الأموال إلى مواقع المراهنات غير المشروعة، واعتبار هذه التحويلات أدلة على غسيل الأموال.
سادسا: مراقبة العملات المشفرة: تفعيل آليات رصد وتتبع التحويلات عبر العملات المشفرة وربطها بقانون مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، خاصة تلك المرتبطة بالشبكات الإجرامية، ويمكن ذلك من خلال إنشاء وحدة وطنية للجرائم الإلكترونية: إنشاء وحدة مركزية متخصصة ومجهزة بأدوات التفتيش العميق للحزم (Deep Packet Inspection) بالتعاون مع مزودي خدمة الإنترنت، لتحديد وحجب عناوين IP والنطاقات (Domains) التي تروّج للمراهنات بشكل فعال.
سابعا: الإجراءات الميدانية لمكافحة القمار المتخفّي: وذلك من خلال حملات أمنية مستمرة ومركزة، وتكثيف الحملات الأمنية المفاجئة والمبنية على المعلومات الاستخباراتية لمداهمة الصالات والكازينوهات المتخفية في المنازل والمناطق السكنية (المشبوهة)، وتقديم المتورطين إلى القضاء.
مصادر
-
ابن خلدون، عبد الرحمن. (2004). مقدمة ابن خلدون. دار الفكر.
-
البخاري، محمد بن إسماعيل. (1997). صحيح البخاري (كتاب الإيمان والنذور). دار ابن كثير.
-
البنك المركزي العراقي. تاريخ صدور التعليمات). تعليمات حظر استخدام بطاقات الدفع والمحافظ الإلكترونية في أنشطة المضاربة والقمار. الموقع الرسمي للبنك المركزي العراقي.
-
جمهورية العراق. (1969). قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة 1969 (المواد 411–414). الوقائع العراقية.
-
الخوئي، أبو القاسم. مسائل مستحدثة (المجلد الثاني). موقع مؤسسة الإمام الخوئي الخيرية.
-
السيستاني، علي. منهاج الصالحين: المعاملات. الموقع الرسمي لمكتب سماحة السيد علي السيستاني.
-
الزحيلي، وهبة. (2002). الفقه الإسلامي وأدلته (ط. 4). دار الفكر.
-
الصدر، محمد باقر. (1982). اقتصادنا (ط6). دار التعارف للمطبوعات.
-
علي، أحمد محمد. (2023). التفكك الاجتماعي والأنومي: دراسة لحالة الشباب العراقي بعد عام 2003. مجلة دراسات اجتماعية واقتصادية, 15(3), 45-68.
-
American Psychiatric Association. (2013). Diagnostic and statistical manual of mental disorders (5th ed.). American Psychiatric Publishing.
-
Brenner, Susan W. (2007). Cybercrime and the jurisdiction of courts. The Albany Law Journal of Science & Technology, 17(1), 1–48.
-
Skinner, Burrhus Frederic. (1953). Science and human behavior. Macmillan.
-
Tversky, Amos, & Kahneman, Daniel. (1974). Judgment under uncertainty: Heuristics and biases. Science, 185(4157), 1124–1131.
-
(2022). Global report on money laundering and illicit financial flows. United Nations Office on Drugs and Crime.
-
King, Daniel L., & Delfabbro, Paul H. (2018). Loot boxes and the convergence of gaming and gambling: Lessons for regulation and prevention. Addiction, 113(2), 241–248.