المدن المستدامة في العراق بين الواقع والطموح
بقلم: د. حسن هاشم حمود
باحث في مركز الفيض العلمي لاستطلاع الرأي والدراسات المجتمعية
مقدمة
يعد النمو السكاني والتحضر السريع أحد الاسباب الاساسية للتغييرات الكبيرة التي تشهدها مدن العالم منذ العقود القليلة الماضية، ما قاد الى نشوء اتجاهين عقلانيين لستراتيجيات التحكم بهذه التغييرات الاول يستند الى توجه محافظ على البيئة و الموارد والاقتصاد والطاقات المتاحة والتكامل بينها ويتمثل بنموذج المدينة المستدامة، والثاني يستند الى تعزيز جودة وأداء الخدمات الحضرية بطريقة تفاعلية مع الإنسان من خلال التكنولوجيات الرقمية أو تقنيات المعلومات بهدف تعزيز نوعية الحياة ويتمثل بنموذج المدينة الذكية، وقد انتج كل من النموذجين السابقين عدة توجهات حضرية مميزة لمدن القرن الحادي والعشرين و أفاقاَ جديدة لتطور الفكر المعماري المستقبلي، الا ان هذين النموذجين يختلفان في مدى عقلانية كل منهما للحد من التكاليف واستهلاك الموارد والطاقة، والانخراط بشكل أكثر فعالية وواقعية مع النشاطات الإنسانية وحاجاته الاجتماعية من خلال تأثيرها في نوعية الحياة، مما استدعى محاولات الباحثين والمتخصصين في ايجاد حلولاً لدمج النموذجين في نموذ ج ثالث من اجل تلبية تلك المتطلبات والنشاطات والحاجات الاجتماعية والإنسانية للمدن الراهنة وتطلعاتها المستقبلية.
وما يشهده العراق من تسارع في انشاء العديد من المجمعات السكنية واعتماد آلية البناء العمودي مع وجود زيادة في تحويل العديد من الاراضي الزراعية إلى مجمعات سكانية عشوائية على حساب العديد من المساحات والاراضي الخضراء، لاسيما وان التوسع العمراني المتسارع للمدن في العالم والعراق بشكل خاص أدى إلى تركز كثافة سكانية عالية تجاوزت في العالم نسبة الخمسين بالمئة، بينما وصلت في العراق إلى سبعين بالمئة ولا يزال تدفق السكان نحو المدن مستمرًا بوتائر متصاعدة الأمر الذي أفرز مشكلة معقدة تعد من أكبر التحديات المرتبطة بنوعية البيئة الحضرية، فالبيئة الحضرية تمثل شبكة معقدة من العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية المتداخلة والمتفاعلة فيما بينها وهدفها تلبية متطلبات الحياة المعاصرة للإنسان ونحن اليوم أمام مجموعة من الاختيارات التي تسعى جميعها إلى تحقيق النمو والتنمية الاقتصادية غير أن تفاقم الفقر ما زال قائمًا وهو ما دفع العديد من الدول النامية إلى التغاضي عن المشكلات البيئية واعتبارها قضية ثانوية سواء على المدى القريب أو البعيد، وقد أدى ذلك إلى ضرورة البحث عن صيغة للتخطيط العمراني ضمن إطار يحقق التوازن بين متطلبات التنمية الحضرية وبين خطط التنمية المستدامة للمدينة بما يضمن إدماج البعد البيئي في جميع مراحل العملية العمرانية في ظل تنمية اقتصادية شاملة ومستدامة.
مفهوم التنمية المستدامة
لقد تطور مفهوم التنمية المستدامة بصورة تدريجية منذ أوائل السبعينيات وحتى أوائل التسعينيات، إذ شكّلت المؤتمرات الدولية والتعاون متعدد الأطراف محطات أساسية في بلورة هذا المفهوم. ورغم تعدد التعريفات التي ظهرت في تلك المرحلة، إلا أن التقرير الصادر عن لجنة برونتلاند (اللجنة العالمية للبيئة والتنمية) عام 1987 في وثيقة مستقبلنا المشترك كان الأكثر تأثيراً، حيث عرّف التنمية المستدامة بأنها: “التنمية التي تلبي احتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتهم”. يتضمن هذا التعريف بعدين رئيسيين: الأول هو أولوية تلبية الاحتياجات الأساسية للفئات الفقيرة والمهمشة، والثاني هو إدراك حدود قدرة البيئة الطبيعية على الاستجابة لمتطلبات التنمية البشرية في الحاضر والمستقبل. ومن المقاربات اللاحقة، برز مفهوم البصمة البيئية الذي قدّمه كل من ريس وواكرناجيل (1996)، والذي ينظر إلى الاستدامة باعتبارها “قياسًا للحمل البيئي الذي تفرضه جماعة بشرية معينة على الطبيعة”، أي المساحة الأرضية اللازمة للحفاظ على مستويات الاستهلاك الحالية للموارد وإدارة النفايات، هذا المفهوم أبرز الترابط المادي المباشر بين أنماط الحياة الحضرية والقدرة الاستيعابية للأنظمة البيئية.
فالمدينة المستدامة هي المدينة التي تحترم مبادئ التنمية المستدامة والعمران البيئي، وتعمل من اجل تسهيل اساليب العمل والتنقل، ومن أجل تفعيل استهلاك الطاقات المتجددة، وهي في غالب الاحيان عبارة عن تجمع من الأحياء البيئية التي تهدف إلى تقليص بصمتها البيئية.
وفي سياق التحضر، يوضح المنظور السوسيولوجي أن دوافع الهجرة نحو المدن تنقسم إلى عوامل “دفع” وعوامل “جذب”. فالعوامل الاقتصادية مثل فشل الزراعة، البطالة، وتراجع الدخل تمثل قوى طاردة من الريف، بينما توفر المدن فرص عمل وخدمات صحية وتعليمية تجعلها جاذبة للسكان، كذلك قد تدفع الأزمات البيئية (الجفاف، الفيضانات، استنزاف الموارد) أو المشروعات الكبرى (مثل بناء السدود) السكان إلى النزوح القسري، في حين تمثل فرص التعليم، العلاقات الاجتماعية الجديدة، والوصول إلى الموارد الحضرية عناصر جذب مهمة.
وفي موازاة النقاش حول الاستدامة، ظهر خطاب المدينة الذكية الذي طرحه بويد كوهين وغيره، حيث تقوم هذه المقاربة على ستة مكونات مترابطة: الاقتصاد الذكي، التنقل الذكي، البيئة الذكية، السكان الأذكياء، الحياة الذكية، والحكومة الذكية، هذه العناصر تمثل إطارًا شموليًا لإدارة المدينة عبر التكنولوجيا الرقمية وتكامل البيانات، وتنعكس هذه الرؤية في مجالات متعددة مثل إدارة الطاقة، إدارة المياه، النقل، المخلفات، الصحة، التعليم، والأمن. فعلى سبيل المثال، تسمح أنظمة الطاقة الذكية بترشيد الاستهلاك من خلال أجهزة الاستشعار والعدادات المتقدمة، بينما تعمل أنظمة النقل الذكية على جمع وتحليل بيانات التنقل لدعم التخطيط المستدام للبنية التحتية، كما تُعزز إدارة المخلفات والمياه عبر تكنولوجيا المعلومات آليات التتبع والتوزيع العادل للموارد، في حين تسهم الرقمنة في الرعاية الصحية والتعليم في رفع جودة الحياة وتعزيز رأس المال البشري، من هذا المنظور، يمكن القول إن التنمية المستدامة والمدينة الذكية ليستا مسارين متوازيين بقدر ما هما رؤيتان متكاملتان، فالأولى تركز على البعد القيمي والبيئي والاجتماعي، والثانية تقدم أدوات تكنولوجية لتفعيل تلك الرؤية في الواقع الحضري المعاصر، ومن ثم فإن التحدي السوسيولوجي يكمن في صياغة نموذج حضري مركّب يوازن بين العدالة الاجتماعية، الكفاءة الاقتصادية، والاستدامة البيئية، مع استثمار الأدوات الرقمية لتعزيز المشاركة المجتمعية وتحسين نوعية الحياة في المدن المعاصرة.
بويد كوهين، استراتيجي حضري ومناخي طرح ستة مكونات رئيسية لمدينة ذكية، لكل منها أنظمة أساسية مع مزيد من التفسيرات هذه المكونات الرئيسة هي : الاقتصاد الذكي، والتنقل الذكي، والبيئة الذكية، والأشخاص الأذكياء، والحياة الذكية، والحوكمة الذكية، ومع مزيد من التفسيرات والأمثلة للحلول المتصلة بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
التحضر الأخضر: منظور سوسيولوجي
يمثل التحضر الأخضر أحد النماذج المفاهيمية الجديدة في تخطيط المدن المعاصرة، إذ يقوم على فكرة إنتاج أنماط عمرانية منخفضة الانبعاثات وصديقة للبيئة، تهدف إلى تحقيق طاقات صفرية من الغازات والنفايات، وقد برز هذا التوجه منذ تسعينيات القرن الماضي استجابة للتحولات البيئية العالمية، وسعيًا إلى إعادة هندسة البنى الحضرية بما يتناسب مع متطلبات مرحلة ما بعد الصناعة. ويتجاوز التحضر الأخضر كونه مقاربة تقنية أو بيئية، ليغدو إطارًا سوسيولوجيًا يعيد تنظيم العلاقة بين الإنسان والطبيعة ضمن فضاء المدينة وتقوم هذه الرؤية على اتجاهين أساسيين:
-
التنمية الخضراء التي تركز على تعزيز استدامة الموارد الطبيعية.
-
التنمية منخفضة التأثير البيئي التي تسعى إلى تقليص الأضرار المترتبة على النشاطات الاقتصادية والعمرانية.
وتتقاطع هذه الاتجاهات مع نظرية المدن الإيكولوجية (Eco-cities)، التي تفترض إمكانية تحويل المدن من مستهلكة للطاقة إلى منتجة لها، عبر اعتماد سياسات بديلة في النقل، وإعادة التدوير، والطاقة المتجددة، والمياه، بما يعزز جودة الحياة الحضرية ويقلل الفجوة بين الحاجات الإنسانية والقدرات البيئية. لقد جسدت عدة مشاريع حضرية في أوروبا هذا النموذج، مثل مشروع Freiburg في ألمانيا المعتمد على الطاقة الشمسية، ومدينة Vaexjo في السويد التي طورت منظومات لإنتاج الطاقة من النفايات، فضلاً عن مشروع BedZED في بريطانيا. وتشترك هذه النماذج في هدفها الرامي إلى تقليص الاعتماد على الوقود الأحفوري وتعزيز استقلالية المجتمعات الحضرية.
يشير الباحثون إلى خمسة عشر مبدأ أساسيًا للتحضر الأخضر، تشمل: إدماج المناخ والسياق الحضري، الاعتماد على الطاقات المتجددة، بناء مدن خالية من النفايات، تعزيز الكفاءة المائية، الحفاظ على التنوع البيولوجي، تطوير النقل المستدام، استخدام المواد المحلية منخفضة الطاقة، إعادة تأهيل الأحياء القائمة، إدماج المباني الخضراء، تحقيق مجتمعات صحية، دعم الاكتفاء الغذائي المحلي، الحفاظ على الهوية الثقافية، تحسين الإدارة الحضرية، الاستثمار في البحث والتعليم، وأخيرًا تطوير استراتيجيات خاصة بالمدن النامية.
من الناحية السوسيولوجية، يشكّل التحضر الأخضر عملية إعادة إنتاج حضرية تتجاوز البعد البيئي الضيق، لتلامس البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمدينة، فهو يطرح رؤية شمولية للفضاء الحضري بوصفه منظومة متكاملة من العلاقات التفاعلية بين الإنسان والموارد والطبيعة، وهذا ما يفسر توجه بعض المدن الكبرى – مثل طوكيو ولندن – نحو إدماج البنى الارتكازية البيئية الخضراء والزرقاء كجزء من استراتيجياتها العمرانية، من خلال إقامة شبكات من المتنزهات والمسطحات المائية والمناطق المفتوحة، التي لا تؤدي وظائف بيئية فقط، بل تساهم في تحسين الصحة النفسية والاجتماعية للسكان، وتوفير مساحات للاندماج المجتمعي، وتعزيز الهوية المحلية، وبذلك يمكن اعتبار التحضر الأخضر إطارًا للتخطيط الاجتماعي-البيئي يسعى إلى إعادة تعريف الحداثة الحضرية، ليس كتكثيف للعمران فحسب، بل كبناء لنمط حياة جديد يعيد التوازن بين متطلبات التنمية الاقتصادية وحاجات المجتمع والطبيعة، ويرسم ملامح مدينة القرن الحادي والعشرين بوصفها فضاءً إيكولوجيًا-إنسانيًا.
أزمة السكن والتحولات الحضرية في بغداد: مقاربة سوسيولوجية
شهدت المدن العراقية، وبالأخص العاصمة بغداد، تحولات حضرية عميقة منذ عام 2003 نتيجة الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أعقبت الغزو الأمريكي، فقد تراكمت التحديات المرتبطة بالتحضر السريع والعجز المؤسسي في إدارة النمو السكاني، ما أنتج أزمة سكن خانقة وانعكس سلبًا على النسيج العمراني والاجتماعي للمدينة.
-
النمو السكاني والهجرة الداخلية
ارتفع عدد سكان بغداد بما يقارب 40% خلال العقدين الأخيرين ليصل إلى نحو ثمانية ملايين نسمة، هذا النمو يعود إلى عاملين أساسيين:
-
الهجرة الداخلية من الريف والمناطق المتضررة بالصراع، حيث تحولت بغداد إلى مركز جاذب لفرص العمل والخدمات.
-
النزوح القسري الناتج عن الصراعات المسلحة والاضطرابات الأمنية.
هذا التدفق السكاني أدى إلى تضخم الطلب على المساكن دون قدرة الجهاز الحكومي على توفير بدائل حضرية منظمة، الأمر الذي فتح المجال أمام التوسع العشوائي.
-
التوسع العمراني غير الرسمي
غياب التخطيط الحضري وضعف المؤسسات الإدارية وتفشي الفساد جعل من التوسع العمراني غير الرسمي القاعدة بدل الاستثناء، فقد شُيّدت آلاف الوحدات السكنية على أراضٍ زراعية أو مملوكة للدولة دون التزام بالقوانين أو المعايير الفنية، مما أفرز أحياء غير مهيأة لاستيعاب الكثافة السكانية ولا تمتلك الحد الأدنى من الخدمات الأساسية، ومن منظور سوسيولوجي، يمثل هذا النمط من العمران إنتاجًا حضريًا هشًّا يفتقر إلى الاستدامة ويعكس تفكك العلاقة بين الدولة والمجتمع في إدارة الفضاء العمراني.
-
تجزئة الوحدات السكنية وتغيّر الثقافة المعيشية
إحدى الظواهر المستجدة بعد 2003 هي تجزئة الوحدات السكنية أو تقسيمها إلى مساحات أصغر استجابة لارتفاع أسعار العقارات والإيجارات، هذا التحول غيّر من طبيعة البنية الاجتماعية للعائلة البغدادية، إذ اختفت الفيلات ذات الحدائق التي كانت رمزًا للهوية الحضرية لبغداد، وحلّت محلها مساكن مكتظة تفتقر إلى المساحات الخضراء والخصوصية، هذا التغير العمراني ارتبط بتداعيات سوسيولوجية واضحة مثل تراجع جودة الحياة، ضعف التهوية والإضاءة الطبيعية، وضغط متزايد على شبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي، وهو ما انعكس بدوره على الصحة النفسية والجسدية للسكان.
-
تآكل الأراضي الزراعية والحزام الأخضر
شكّل التوسع العمراني غير المنظم اعتداءً مباشرًا على الأراضي الزراعية المحيطة ببغداد، إذ تعرض أكثر من نصفها للتجريف أو البناء خلال الفترة 2010–2015. هذا التآكل لم يكن مجرد مسألة بيئية، بل مسألة اجتماعية–اقتصادية، إذ ترتبت عليه زيادة التصحر، تفاقم العواصف الترابية، وانحسار الحزام الأخضر الذي كان يوفر حماية طبيعية وصحية للمدينة.
-
البعد الاقتصادي والفساد المؤسسي
أدت سياسات الدولة بعد 2003 إلى تفشي الفساد في القطاع العقاري والإنشائي، حيث أُسندت مشاريع إسكانية وتنموية إلى مقاولين مرتبطين بمراكز القوى السياسية والعسكرية دون نتائج ملموسة، ونتيجة لذلك ارتفعت أسعار الأراضي والعقارات إلى مستويات قياسية جعلت السكن اللائق بعيد المنال عن غالبية الأسر. ومن منظور سوسيولوجي، مثّل ذلك إعادة إنتاج للفوارق الطبقية، حيث حُرم ذوو الدخل المحدود من حقهم في السكن، بينما استفادت أقلية نافذة من استغلال الأراضي والمشاريع العقارية.
انعكاسات الأزمة على الهوية الحضرية
أدت العشوائيات وتجزئة الأراضي إلى تدمير متدرج لهوية بغداد العمرانية التي تميزت تاريخيًا بعمارتها وحدائقها وحزامها الأخضر، ومع غياب سياسات حضرية شاملة، تحولت المدينة إلى فضاء مأزوم يعاني من تفكك النسيج الاجتماعي–العمراني وضغوط بيئية وصحية متزايدة.
ثقافة الفرد العراقي البيئية
مدينة بغداد بدات تهيمن عليها المباني، إذ تتجلى فيها بحدة الكثافة الحضرية ونقص المساحات الخضراء والمفتوحة، وتكاد الفضاءات الخضراء المهيئة تكون رمزية لا تذكر، او بدأت تتلاشى امام حركة البناء والاستثمار المستمر دون النظر أو لفت الانتباة الى ضرورة الحفاظ على المناطق والمساحات الخضراء التي تخفف من حدة التغيرات المناخية، في حين معظم العواصم العالمية كانت ومازالت تضع الخطط والبرامج من اجل استدامة المساحات الخضراء والعمل على زيادتها، فعلى سبيل المثال مقارنة مع مدريد وكوبنهاغن وبرلين ولندن. إذ بفضل اعتماد معايير واضحة، حققت غالبية المدن الأوروبية الكبرى نسبًا مهمة من المجالات الخضراء داخلها، ففي فرنسا، حددت دورية صادرة في 8 فبراير 1973 بشأن سياسة المساحات الخضراء هدف بلوغ مساحة 25 مترا مربعًا من المجالات الخضراء للفرد الواحد في المناطق المحيطة بالمدن و 10 أمتار مربعة للفرد في وسط المدينة، وفي السياق نفسه، توصي المكسيك باحترام مساحة خضراء بالمدن تتراوح ما بين 9 و 12 مترا مربعًا للفرد الواحد، وفي حين كانت مدينة مكسيكو تسجل قبل سنة 2000 مساحة قدرها 4 أمتار مربعة من المساحة الخضراء للفرد، فقد ارتفعت هذه النسبة إلى 7 أمتار مربعة بفضل إنشاء حدائق حضرية جديدة، وفي تونس، تطورت حصة الفرد من المساحات الخضراء في المناطق الحضرية تطورًا مهمًا، إذ انتقلت من 4,4 متر مربع سنة 1994 إلى 14,65 متر مربع سنة 2007 وبغض النظر عن نسبة المساحات الخضراء، فإن المدن الخضراء تعتمد جملة من المعايير تهم الإطار القانوني والمعياري المتعلق بحماية البيئة، كما تهم استعمال الطاقات المتجددة، وتعزيز نمط حياة مراعي للبيئة، وإنشاء شركات التكنولوجيات النظيفة، ونظام حكامة قائم على الابتكار في ما يتصل باعتماد إستراتيجيات مبتكرة غايتها إرساء مجتمع أخضر، أما على المستوى الوطني، فإن معايير التوزيع المجالي للمساحات الخضراء تتسم بالضعف، ومعرضة لغزو الإسمنت بصفة نهائية، تحت ذريعة عدم امتلاك شاغليها القدرة على استدامة زراعتها؛ بسبب قلة المياة مع تراجع دعم مؤسسات الدولة للفلاح، مما فسح المجال امام تجريف هذه المساحات الخضراء بحجة تشييد مباني دون الرجوع الى مخططات التصميم الاساس للمدينة، وانما بدات هذه العمليات باجتهاد شخصي من قبل شاغليها أو مالكيها والتصرف بها وفق ما تراتأية مصالحهم الشخصية، وفي ظل تمدد التصحر حتى وصل بحسب وزارة التخطيط إلى نحو 60% من الأراضي العراقية التي تعاني من التصحر، وهناك مخاوف من توسعه الى المناطق الأخرى بسبب فقدان البساتين والمياه، وقالت منظمة البنك الدولي في نهاية العام 2022 ان العراق يواجه تحديًا مناخيًا طارئًا ينبغي عليه مواجهته من خلال التوجه نحو نموذج تنمية أكثر اخضراراً ومراعاة البيئة، لا سيما عبر تنويع اقتصاده وتقليل اعتماده على الكاربون، وكان المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان بالعراق قد افاد في مطلع العام 2025 بأن العراق فقد نحو 30% من الاراضي الزراعية المنتجة؛ بسبب التغيرات المناخية خلال السنوات الثلاثين الاخيرة، وكان تقرير سابق لوكالة شفق نيوز اشار إلى انه على الرغم من اهمية القطاع الزراعي في العراق لتنمية اقتصاد البلاد والحفاظ على امنه الغذائي، لكنه يواجه الكثير من التحديات واهمها التطرف المناخي والتجاوز على الاراضي الخضراء وقلة المياه، وواضح التقرير نقلًا عن مختصين ان المساحات الخضراء في العراق تقلصت من 50 الى 17% نتيجة التغيرات المناخية وتقصير المواطنين والجهات المسؤولة عن توافر المساحات الخضراء، وتؤكد وزارة الزراعة ان العراق بحاجة الى زراعة 15مليار شجرة لتأمين غطاء نباتي يقضي على التصحر.

كما كشف مرصد العراق الأخضر البيئي، أن معدلات استهلاك الفرد العراقي للمياه تُعَدُّ الأعلى، لا على المستوى العربي فقط، بل على مستوى العالم، محذرًا من أن العراق يتصدر اليوم قائمة الدول الأكثر هدرًا للمياه، رغم الأزمة المائية الحادة التي تمر بها البلاد، وقال المرصد في بيان له، إن “معدل استهلاك المواطن العراقي من الماء يبلغ 400 لتر يوميًا، مما يؤكد أنه الأعلى استهلاكًا عالميًا، متجاوزًا حتى دولًا تتمتع بوفرة مائية دائمة، في وقتٍ يواجه فيه العراق تحديات غير مسبوقة في ملف المياه تهدد أمنه البيئي والغذائي”. وأضاف البيان أن “المواطن العراقي يتفنن في هدر المياه، عبر ممارسات يومية مثل غسل الشوارع والأرصفة والعمارات، والسقي العشوائي للحدائق العامة والخاصة، فضلًا عن الاستخدام المكثف في مرائب غسل السيارات والمولدات الأهلية والمبردات وغيرها من الأساليب المنتشرة، دون أي رادع أو رقابة حقيقية من الجهات المختصة”. وأشار المرصد إلى أن هذا الهدر المفرط يحدث في ظل أزمة مائية خانقة يعاني منها العراق منذ سنوات، ويُذكر أن تقارير بيئية دولية صنّفت العراق خلال السنوات الأخيرة ضمن أكثر الدول هشاشة في مواجهة تغيّر المناخ، فيما تشير بيانات وزارة الموارد المائية إلى أن الخزين المائي الحالي أقل بنسبة 50% مقارنة بالسنوات السابقة، ما يزيد من خطورة الموقف ويضع ملف المياه على رأس أولويات الأمن الوطني.
وفي ذات السياق يواجه العراق مشكلة متفاقمة في إدارة النفايات، إذ تشير أحدث الإحصائيات الصادرة عن وزارة التخطيط إلى أن كمية النفايات المرفوعة سنويًا بلغت نحو 11 مليون طن. وتسلط الأرقام الضوء على التحديات البيئية المتزايدة التي تواجه البلاد في ظل التوسع السكاني السريع وقلة الوعي البيئي بين الأفراد. ويصل معدل المخلفات المتولدة من كل فرد عراقي يصل إلى 1.5 كغم يوميًا، وهو ما يضع ضغطًا كبيرًا على أنظمة إدارة النفايات الضعيفة، فضلًا عن ان هذه النفايات باتت تشكّل مصدر قلق سوسيو- بيئي كبير ويشير خبراء البيئة الى أن العراق يعاني من نقص حاد في البنية التحتية المخصصة لمعالجة النفايات وإعادة تدويرها، ويشير أصحاب الاختصاص إلى أن كمية النفايات الكبيرة تعكس مشكلة بيئية متزايدة، وأن التوسع العمراني والتحضر السريع يزيد من حجم النفايات المتراكمة، خاصة في غياب أنظمة فعالة للتخلص منها. ويؤدي الحرق العشوائي للنفايات، إلى انبعاث الأبخرة السامة التي تسبب اختناقاًت وأمراضًا تنفسية للسكان في المناطق المتضررة، ويشكو أحد المواطنين ويقول، إن الدخان الناتج عن حرق النفايات أصبح جزءًا من حياتهم اليومية، وإنهم يخشون على صحة أطفالهم؛ بسبب تزايد الأمراض التنفسية في المنطقة مشيرًا إلى أن الحرق يتم بشكل عشوائي؛ لأن السلطات المحلية لا توفر حلولًا فعالة للتخلص من النفايات.
وعلى الرغم من بعض المحاولات الحكومية السابقة لإنشاء معامل لإعادة تدوير النفايات وتحويلها إلى مواد قابلة للاستخدام، إلا أن هذه المشاريع توقفت في العام 2014 نتيجة الأزمات المالية والحرب ضد تنظيم داعش. وأدى التوقف إلى العودة إلى الطرق التقليدية في طمر النفايات، وفي العاصمة بغداد، يتم طمر كميات كبيرة من النفايات، حيث تقدر النفايات الصلبة والمخلفات الطبية التي تُطمر يوميًا بحوالي 30 ألف طن، ما يجعل البيئة الحضرية أكثر عرضة للتلوث وانتشار الأمراض، وتستمر الأرقام في التزايد وسط دعوات لتبني استراتيجيات جديدة للتعامل مع النفايات، مثل تعزيز الوعي البيئي بين المواطنين وتفعيل برامج إعادة التدوير، ناهيك عن حالات التلوث المنبعثة من استعمالات المولدات الكهربائية وعوادم السيارات فضلًا عما تتركه من تلوث بصري وسمعي بحاجة إلى وضع معالجات حقيقية للحد من ابنعاثات التلوث، وهذا كله يتوقف على سياسة الدولة في اعادة وضع الخطط والاستراتيجيات التي تسهم في الحد من تجريف الاراضي الزراعية وتحويلها الى اراض سكنية لخلق مدن خضراء مستدامة تنعم بها الاجيال القادمة فالمساحات الخضراء من ارض وبساتين وحدائق عامة ليست مجرد فضاء للترفيه أو للممارسة الرياضية أو مورد اقتصادي، وإنما هي بالأساس حق من حقوق الإنسان مرتبط بنموه وتطوره وتنشئته الاجتماعية، فضلًا عن ان المساحات الخضراء تشكل أحد الدعائم التي لا غنى عنها لممارسة الأنشطة الاجتماعية والثقافية والترفيهية والرياضية والسياحية ومن ثم، فمن غير المقبول أن تتعرض هذه الفضاءات لغزو الإسمنت لاعتبارات مرتبطة بـ »النصوص التنظيمية » أو لمحاباة السلطة القائمة، لذلك يتعن المحافظة على ديمومة المرافق المخصصة للصالح العام مثل الطرق والساحات ومواقف السيارات والمساحات الخضراء، وينبغي أن يمثل الفضاء العام، بما فيه المساحات الخضراء، فضاء اجتماعيا مثاليا له «قدسيته »، مما يقتضي اتخاذ تدابير خاصة تهم الجانب النفسي والاجتماعي والسياسي، ويتعن على المدينة الخضراء، المنشود استعادة ألقها أو إحداثها، الحرص على المحافظة على طابعها الإنساني، من خال ضمان التوازن المجالي والبيئي، غير أن إضفاء «القدسية » على هذا الجانب، لا يعني بأي حال التسامح مع التخطيط التعسفي، كما ينبغي أن تحول مبادئ الإنصاف العقاري والتضامن الحضري دون الشطط في استعمال السلطة والمخاطر الاجتماعية.
التوصيات
-
إعادة النظر بقوانين تمليك الاراضي الزراعية وقرارات الاصلاح الزراعي بشكل يتلائم مع المتغيرات المناخية للحفاظ على بيئة خضراء، والحد من التجاوز على المساحات الخضراء.
-
تفعيل دور المؤسسات الاعلامية والثقافية والمنظمات المجتمعية بأهمية تعزيز الوعي الثقافي البيئي لأفراد المجتمع.
-
استحداث قوانين تدعم الحفاظ على البيئة وتجريم كل من ينتهك القوانين والنظم البيئية.
-
حث المواطنين على ترشيد استهلاك المياه وايجاد آلية تحد من استنزاف استخدامات المياه.
خلاصة
تكشف أزمة الإسكان في بغداد عن علاقة جدلية بين التحولات السياسية–الاقتصادية والواقع العمراني–الاجتماعي. فالتوسع العشوائي وتجزئة الأراضي وتآكل الحزام الأخضر ليست مجرد مشكلات تقنية، بل هي مؤشرات على أزمة حضرية شاملة تعكس ضعف الحوكمة، تفشي الفساد، وضغط النمو السكاني. ومن منظور سوسيولوجي، فإن معالجة هذه الأزمة تتطلب رؤية متكاملة تعيد الاعتبار لدور الدولة في التخطيط الحضري، وتدمج البعد البيئي والاجتماعي في سياسات الإسكان، لضمان حق السكان في فضاء حضري عادل وصحي ومستدام.
المصادر
-
آل يوسف، ابراهيم جوادو حسين، محمد مهدي، المدن الذكية المستدامة آفاق وتطلعات على خطى مدن القرن الحادي والعشرون، https://www.researchgate.net/publication/322745960
-
الجلبي، اياد بشير، اقتصاديات المدن المستدامة في الدول النامية (دراسة نظرية تحليلية)، المجلة الاكاديمية لجامعة نوروز، اقليم كوردستان العراق.
-
الدالي، شيماء و رخا، حازم، دور المدن الذكية في تحقيق ابعاد التنمية المستدامة، مجلة كلية الاداب، جامعة الفيوم، مجلد 16، عدد1، 2024.
-
سهام، العقون و صليحة، عشي، فرص وتحديات بناء مدن مستدامة: نماذج دراسة مختارة، مجلة العلوم الاقتصادية والتسيير والعلوم التجارية، مجلد 12، العدد 3، 2020.
-
عايدة، مصطفاوي، مفهوم المدن المستدامة، مجلة القانون العقاري، جامعة البليدة 2، الجزائر.
-
وآخرون، داليا محمد محمد فتحي، المدن البيئية المستدامة بين النظرية والتطبيق(دراسة تحليلية مقارنة للتجارب العربية والعالمية)، كلية التخطيط العمراني والإقليمي – جامعة القاهرة، مجلة البحوث العمرانية، المجلد 24، أبريل 2017
-
/ المسلة العراق مشكلة متفاقمة في إدارة النفايات منشور على الموقع الالكتروني في 222024/
-
https://almasalah.com › archives
-
شفق نيوز منشور بتاريخ 4-25-2025https://shafaq.com ›
-
دينا عبد الرزاق، التغيرات الحضرية في بغداد وتجزئة الاراضي السكنية في فترة ما بعد الحرب
https://fanack.com › Home ›