هوس السياسة وفكر الوصول .. “نظرة في التوجهات الحالية”

مركز الفيض العلمي لاستطلاع الرأي والدراسات المجتمعية

 

في “الكوفي أو الكيّا”[1] يتعالى الجدل هذا يتحدث عن رئيس الحكومة وكأنه زميل دراسة، وذاك يخطط لإصلاح البرلمان بلهجة الخبير، وثالث يلعن “الكرسي ومن يعتليه” لكنه يترك في داخله أملًا سرّيًا أن يجلس عليه يومًا ما، مشهد يتكرر كل يوم ربما كل ساعة، حتى في السوبر ماركت وصالون النساء والبيوت، الجامعات، وحتى المجالس العشائرية، فالسياسة هنا ليست شأنًا عامًا بل هوسًا يوميًا، أشبه بمرآة يرى فيها العراقي نفسه ومصيره.

 

الهوس السياسي يتجسد فيما نسميه “فكر الوصول” فهناك عقلية ترى في السلطة غاية بحد ذاتها، ومفتاحًا للثروة والنفوذ، لا مسؤولية عامة.

 

 

السياسة كآلية تعويض نفسي

السياسة في العراق بعد 2003 لم تعد مجرد إدارة للشأن العام، بل صارت فضاءً للتعبير عن الذات وتحقيق الاعتبار الشخصي والاجتماعي، وما نستفيده من آراء علماء النفس ومنهم إريك فروم، أن الإنسان حين يفقد معنى الحياة الأعمق يبحث عن بدائل تمنحه وهم القوة والسيطرة، وهكذا، صار التعلق بالسياسة أقرب إلى تعويض نفسي عن فقدان السيطرة على الواقع الاقتصادي والاجتماعي، فتحولت ساحات النقاش إلى مسارح لإثبات الذات أكثر منها قنوات للخدمة العامة.

ومنهم الذي يوضح أن الإنسان يلجأ إلى آليات تعويض عند شعوره بالعجز في تحقيق ذاته، وهو ما يمكن رؤيته بوضوح في العراق كالبطالة والفقر وانسداد الأفق السياسي خلقوا حيزًا واسعًا لتغذية الهوس بالسلطة، حتى بين من لا يمتلكون أدوات حقيقية للتأثير، وهي تتجلى بإشارات الاحليل النفسي الحديث إلى غريزة التسلط الكامنة في اللاوعي، والتي تجد في هذا السياق بيئة مثالية للانفجار والتجلي.

هذا الهوس السياسي يتجسد فيما نسميه “فكر الوصول” فهناك عقلية ترى في السلطة غاية بحد ذاتها، ومفتاحًا للثروة والنفوذ، لا مسؤولية عامة، كما لاحظ ماكس فيبر بأن السياسي الذي يعيش على السلطة يتجاوز السياسي الذي يعيش من أجل السياسة، وفي العراق أصبح الطالب الجامعي يحلم بالمنصب أكثر من حلمه بشهادة رصينة، والموظف يسعى للتقرب من مسؤول نافذ بدل تطوير مهارته، ويمثل هذا التوجه تطبيقًا عمليًا لفكرة فروم عن “الهروب من الحرية”، إذ يجد الفرد في امتلاك السلطة أو الاقتراب منها متنفسًا لتخفيف قلق المسؤولية الفردية.

 

السلطة وسُلّم الوجاهة

علماء الاجتماع يلفتون إلى أن البنية التقليدية للمجتمع العراقي جعلت السياسة بعد 2003 أعلى سلّم للوجاهة الاجتماعية، والدخول إلى البرلمان أو تولي منصب وزاري لا يعني مجرد أداء وظيفة عامة، بل يعني نيل اعتراف اجتماعي يرفع صاحبه فوق محيطه.

كما يوضح علي الوردي في وصفه للازدواجية العراقية، بين الزهد في القول والجشع في الممارسة، أن السياسة صارت معيارًا للنجاح الاجتماعي، وهنا يظهر دور مفهوم الرأس المال الرمزي، حيث الموقع السياسي يمنح صاحبه وجاهة تفوق أي مكاسب مادية أو علمية، ما يجعل السياسة محور حياة العراقيين، حتى من خارج ممارستها الرسمية.

 

الهيمنة السياسية على المجالات الأخرى

هيمنة الهوس السياسي انعكست على الفنون، الأدب، العلوم والتعليم، والخوف الأبرز لدينا هو تحول الجامعة نفسها إلى ساحة استقطاب حزبي أكثر من كونها مصنع معرفة، وكأن كل مجال إنتاجي يخضع لطقوس صراع على النفوذ السياسي.

في هذا السياق، يمكن الإشارة الى فكرة متفق عليها ترى أن السياسة تقوم على تمييز الصديق من العدو، وهذا التمييز صار يهيمن على العقل الجمعي العراقي، حتى في ميادين يفترض أن تبقى محايدة ومستقلة.

الهوس السياسي يعكس بوضوح ارتدادًا اجتماعيًا سلبيًا، وفق ما يمكن فهمه من منظور دوركهايم في أن المجتمع الذي يختزل المعنى في مجال واحد يصبح عرضة للاضطراب والانهيار الرمزي حين يتحول كل حديث وطموح إلى السياسة، يفقد المجتمع توازنه ويعيش حالة إنهاك مستمر، ويزداد شعور الأفراد بعدم جدوى أي فعل خارج دوائر السلطة.

 

استعادة التوازن

رغم عمق الأزمة، يبقى هناك مخرج محتمل، ومن المنظور النفسي، يمكن تعزيز الفاعلية الذاتية والثقة بالفرد على التأثير في مجالات الحياة خارج السياسة، مثل العمل، العلم، الفن، والمبادرات المدنية.

ومن المنظور الاجتماعي، إعادة بناء مؤسسات المجتمع المتنوعة وتفعيل دور الطبقة الوسطى كحاضنة للإنجاز والوجاهة خارج السياسة يوفر مسارات جديدة للهُوية والتقدير الاجتماعي.

والمنظور السياسي والفكري يرى ضرورة إعادة تعريف السياسة كخدمة عامة لا كغنيمة، مع إصلاح الخطاب الإعلامي والثقافي والديني، يسهم في استعادة معنى المواطنة والقيم المشتركة، مشاريع اقتصادية وثقافية وفنية مستقلة عن الولاء الحزبي أو التبعية السياسية تخلق بدائل للنجاح والاعتراف الاجتماعي، ما يقلل من هيمنة “فكر الوصول” على الطموح الفردي والجماعي.

التحول ليس سهلاً ولا سريعًا، لكنه ممكن، إذا تمكن المجتمع العراقي من إعادة توزيع الاهتمام والطموح بين السياسة والعلم والعمل والإبداع المدني والفني، فسوف يعيد للعقل العراقي توازنه، وتصبح السياسة فضاءً للحياة، لا وسيلة للغواية اليومية أو مصدر وجاهة رمزية بحتة، وعندها يتحول الحلم السياسي وما يتخلله من لهث ومطاردة فردية للتعلق بالمنصب إلى مشروع جماعي يخدم الجميع، ويعيد للسياسة معناها الحقيقي كأداة لإدارة الشأن العام والارتقاء بالمجتمع.

 

المصادر

  • الوردي، علي. (1995). لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث. دار الوراق للنشر.

  • إسماعيل، طارق عزيز. (2008). صعود وسقوط الحزب الشيوعي العراقي. دار المدى للثقافة والنشر.

  • فرح، إلياس. (2009). الهوية، المجتمع، والسلطة السياسية في العراق. ضمن سياسات الشرق الأوسط (تحرير: هنبوش، ريتشارد، وزاتمان، إي. لويز). دار رينر للنشر.

  • Ali, Layla. (2021). Social Hierarchy and Symbolic Capital: A Study of Political Power in Modern Iraq. Iraqi Sociological Review.

  • Schmitt, Carl. (2007). The Concept of the Political. University of Chicago Press.

  • Smith, John. (2020). The Psychological Roots of Political Obsession in Post-2003 Iraq. Journal of Middle Eastern Studies.

([1]) الكوفي.. اشارة الى المقاهي والكوفي شوب المنتشرة في كل أحياء بغداد وشوارعها، والكيّا.. هي سيارة باص الأجرة المعروفة لدى العراقيين.

 

 

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى