صُنَّاع المحتوى الهادف في العراق والعالم العربي
“دراسة في التحديات والفرص”
مركز الفيض العلمي لاستطلاع الرأي والدراسات المجتمعية
في خضم التحولات التي فرضها عصر الاقتصاد المعرفي، لم يعد الفضاء الرقمي مجرد منصة للتواصل العابر، بل تحوّل إلى ساحة ثقافية واجتماعية، تُعاد فيها صياغة المفاهيم وتُشكل فيها الرؤى، وبينما يزخر هذا الفضاء بموجات من المحتوى الترفيهي والسطحي الذي يستهلك الوعي ولا يثْريه، تتجلى أهمية المحتوى الهادف كقوة ناعمة، قادرة على كسر احتكار المعرفة وتيسير الوصول إليها، وإنها ليست مجرد صناعة، بل هي حركة فكرية تُعزّز من قيم التنوير والتغيير الإيجابي.
تستمد هذه الدراسة جوهرها من حقيقة أن صُنَّاع المحتوى الهادف لا يقتصر دورهم على الإنتاج المعرفي، بل يتجاوزونه إلى الإسهام في بناء مجتمع المعرفة الذي تُنادي به الرسالات الدينية والانسانية وتكون فيه الكلمة أمانةً ومسؤوليةً عظيمةً، فمن منظور علم النفس، يُعدّ انجذاب الجمهور لهذا المحتوى إشباعًا لحاجات معرفية ووجدانية عميقة، تتجاوز مجرد التسلية إلى البحث عن الذات والتطوير، أما سوسيولوجيًا (في علم الاجتماع)، فيُمكن النظر إليه كأداة للتغيير الاجتماعي، قادرة على محاربة الجهل والارتقاء بالوعي العام.
في ضوء هذه الأهمية، تسعى هذه الورقة البحثية إلى تحليل المشهد الرقمي في العراق والعالم العربي، للإجابة على تساؤلات محورية حول أبرز التحديات التي تُعيق هذه الصناعة، والفرص الكامنة التي يمكن استثمارها، و آليات التأثير التي تُحدثها في الجمهور، ومن خلال هذا التحليل، تهدف الدراسة إلى تقديم استنتاجات عام وتوصيات استراتيجية تسهم في دعم هذه الحركة التنويرية، وتعزيز دورها في التنمية المجتمعية.
جدلية التأثير وصناعة الوعي
إن صناعة المحتوى الهادف ليست مجرد عملية فنية، بل هي ظاهرة إنسانية عميقة تتقاطع فيها أبعاد النفس البشرية، والدين، والفلسفة، وتسهم في إعادة تكوين الشخصية وتغيير الاتجاهات وصياغة المشهد الاجتماعي بشكله العام، ولفهم هذه الجدلية المعقدة، يجب الخوض في أعماق النظريات التي تُفسر دوافع الإنسان وسلوكه، ونستلهم من الأدبيات التي كرست الكلمة والوعي كأمانة ومسؤولية.
من منظور علم النفس الاجتماعي، يُمكننا أن نرى أن الجمهور ليس مجرد وعاء فارغ يُملأ بالمحتوى، كما افترضت نماذج الاتصال المبكرة مثل “أنموذج الحقنة تحت الجلد([1])، بل هو كيان فاعل يبحث عن إشباع حاجاته العميقة، فالجمهور الذي ينجذب إلى محتوى يُثري عقله، لا يُقدم على ذلك لمجرد التسلية، بل هو في رحلة بحث عن الحقيقة والمعرفة، وعن التطوير الذاتي الذي يُعزز من قيمته ووجوده.
وهنا تتجلى أهمية فهم دوافع الجمهور وحاجاتهم وميولهم التي تتجاوز مجرد الاستهلاك السلبي، وتؤكد على أن المتلقي يختار رسالته لإشباع رغباته النفسية والفكرية.
من جانبه، يُقدّم لنا علم الاجتماع بُعدًا آخر، إذ يرى أن صانع المحتوى الهادف ليس فردًا منعزلًا، بل هو عامل تغيير يُسهم في تشكيل الرأي العام، فالكلمة التي تُقال في الفضاء الرقمي لا تختفي، بل تنتقل وتتفاعل، وتُشكل وعيًا جمعيًا جديدًا، وإن هؤلاء الصُنّاع، وبما يُقدّمونه من رؤى وقيم، يعملون كـقوة ناعمة تُنافس الإعلام التقليدي، وتُغيّر سلوك المجتمع من الداخل، من خلال إسهامهم في تشكيل الأجندة العامة للمجتمع.
إنهم يشجعون على تحديث أساليب التفكير وأنماطه، ويُحاربون الجهل، ويُعزّزون من قيم التعاطف والإيجابية، ويُشكلون بذلك مصدرًا معرفيًا جديدًا يؤثر في المتلقي ويُحدث التغيير المنشود.
أما الأدبيات الدينية لا سيما الإسلامية منها، فتُضيف إلى هذا الإطار بُعدًا أخلاقيًا عميقًا، وإنها تُعلي من شأن الكلمة وتعدها أمانة ومسؤولية عظيمة، في هذا السياق، يُصبح المُرسِل -وهو صانع المحتوى الهادف- وارثًا لرسالة العلم والوعي، وهذا يفرض عليه نوعًا من المسؤولية المعرفية؛ حيث يلتزم بالتحقق من الصدق والمصداقية، ويُقدّم محتواه كنوع من الجهاد المعرفي ضد الجهل والأخبار الزائفة، محققًا بذلك الغاية السامية من العلم، وهي الإصلاح والتغيير الإيجابي.
مشهدية المحتوى الهادف في العراق والعالم العربي
إن الفضاء الرقمي في العراق والعالم العربي ليس مساحةً محايدة، بل هو مرآة تعكس تعقيدات الواقع الاجتماعي والسياسي، وبينما يزخر هذا الفضاء بمحتوى ترفيهي سطحي، تبرز أصواتٌ جديدة من صُنّاع المحتوى الهادف الذين يحملون على عاتقهم مسؤولية التغيير، ومع ذلك، فإن رحلتهم نحو صناعة الوعي ليست سهلة، إذ يواجهون تحدياتٍ كبيرة، بينما تلوح في الأفق فرصٌ واعدة.
تحديات الصراع نحو الوعي
إن صناعة المحتوى الهادف في العراق والعالم العربي ليست مجرد عملية إبداعية، بل هي خوض معركة حقيقية في فضاء رقمي تُهيمن عليه المصالح التجارية والاجتماعية، ويواجه صُنّاع هذا المحتوى تحديات مُتداخلة تُعيق وصول رسالتهم وتُضعف تأثيرها، مما يُحوّل مهمتهم من مجرد نشر المعرفة إلى صراع مستمر من أجل البقاء.
اولاً: التحديات الاقتصادية
تكمن أكبر التحديات في البعد الاقتصادي للمنصات الرقمية الذي يعتمد على اقتصاد الانتباه، وهذه المنصات تُصمم خوارزمياتها لزيادة وقت بقاء المستخدم عليها، وبالتالي زيادة فرص ظهور الإعلانات، ولتحقيق ذلك، تُعطي الخوارزميات الأولوية للمحتوى الذي يُثير المشاعر القوية، سواء كانت إيجابية أو سلبية، والمحتوى الذي يُنتج بسرعة وبكميات كبيرة.
في هذا السياق، يجد المحتوى الهادف نفسه في منافسة غير متكافئة، فبينما يعتمد المحتوى الهادف على العمق، والدقة، والبحث المعمق الذي يستغرق وقتًا وجهدًا كبيرين، فإن المحتوى الترفيهي أو السطحي يُحقق انتشارًا أوسع بجهد ووقت قليلين، والنتيجة هي أن صانع المحتوى الهادف لا يحصل على عائد مادي كافٍ يُمكّنه من الاستمرار، مما يضطره غالبًا إلى التوقف أو تقليل إنتاجه، في حين يُجني صُنّاع المحتوى التافه أرباحًا طائلة من الإعلانات والتفاعلات السريعة.
ثانياً: التحديات الاجتماعية- السياسية
المحتوى الهادف ليس مجرد معلومات، بل هو في جوهره سردية بديلة تُقدم رؤية مختلفة للواقع، وعندما يتناول هذا المحتوى قضايا اجتماعية أو سياسية حساسة، فإنه يُهدد السرديات التقليدية التي رسختها المؤسسات أو السلطات القائمة، وهذا ما يُطلق عليه “صراع السرديات”[2]، حيث تُحاول كل جهة فرض روايتها وتهميش الروايات الأخرى.
في هذا الصراع، يُصبح صانع المحتوى الهادف هدفًا للانتقاد والمضايقات، وقد تصل الأمور إلى التهديد المباشر، والجمهور الذي اعتاد على سرديات معينة قد يرفض هذا المحتوى بدافع عدم الارتياح أو الخوف من التغيير، بينما قد تستخدم السلطات والأطراف المتضررة من هذا المحتوى أدواتها لتقويض مصداقيته أو إبعاده عن الأضواء، وهذا الصراع لا يقتصر على المنصات الرقمية فقط، بل يمتد إلى الواقع، مما يضع صانع المحتوى في موقع حرج ويُهدد أمنه الشخصي.
ثالثاً: التحديات الفنية
يواجه صُنَّاع المحتوى الهادف تحديًا فنيًا كبيرًا يتمثل في ضرورة تحقيق جودة إنتاجية عالية تتناسب مع المعايير الاحترافية، ولم يعد يكفي أن تكون الرسالة قوية وموثوقة، بل يجب أن تكون مقدمة بشكل جذاب بصريًا وسمعيًا لجذب انتباه الجمهور في ظل هذا المحتوى الغزير.
يتطلب إنتاج المحتوى الهادف أدوات ومعدات احترافية مثل الكاميرات عالية الدقة، وأنظمة الإضاءة، والمونتاج المتقدم، وهذه الأدوات والمهارات باهظة الثمن وتتطلب وقتًا للتعلم والإتقان، مما يُشكّل حاجزًا ماديًا وفنيًا كبيرًا أمام المبدعين.
كذلك، ليس كل شخص يمتلك موهبة التعليق الصوتي أو القدرة على التقديم السلس والمؤثر، فالمحتوى الهادف بحاجة إلى شخص قادر على تبسيط الأفكار المعقدة، وتقديمها بأسلوب قصصي وجذاب، مع نبرة صوت تعكس الثقة والخبرة.
رابعاً: القيود المفروضة من قبل شركات المنصات
يمتد الصراع إلى سياسات الشركات المالكة للمنصات الرقمية نفسها، ففي محاولة لموازنة المصالح التجارية، والضغوط الحكومية، والمسؤولية الاجتماعية، تفرض هذه الشركات قواعد صارمة على المحتوى، وهذه القواعد، التي تُعرف بـمعايير المجتمع (Community Standards)، تهدف في أصل وجودها إلى مكافحة خطاب الكراهية، والتحريض على العنف، ولكنها غالبًا ما تكون غامضة وغير شفافة، مما يُعرّض المحتوى الهادف للتقييد أو الحذف.
كما في القيود السياسية والدينية، وربما يواجه المحتوى الهادف الذي يتناول قضايا سياسية أو دينية حساسة قيودًا كبيرة، فسياسات المنصات قد تُصنّف بعض الصور، أو الأفكار، أو الفيديوهات المتعلقة بجهات معينة أو قادة ومقاومين أو أحداث معينة على أنها مخالفة، حتى وإن كانت وثائقية أو نقدية.
خامسا: التحديات الثقافية العملية
يُعاني قطاع المحتوى الهادف في العراق والعالم العربي من تحدٍ داخلي جوهري يتمثل في ضعف ثقافة العمل الجماعي (Teamwork) والاعتماد على الجهود الفردية، فبينما تُبنى المشاريع الإعلامية الناجحة عالميًا على عمل الفرق المتخصصة، يغلب على صناعة المحتوى في منطقتنا الأنموذج المنفرد الذي يحاول القيام بكل شيء بمفرده.
وضعف الإنتاج الفردي، فلا يمكن لشخص واحد أن يتقن كل جوانب إنتاج المحتوى، إذ إن الشخص الذي يبحث عن المحتوى ثم يكتبه ويقدمه، قد لا يكون جيدًا في المونتاج أو التعليق الصوتي، مما يؤدي إلى إنتاج عمل ضعيف وغير متكامل.
وتبرز ايضا بهذا السياق غياب الاستمرارية، كون الاعتماد على الجهد الفردي يجعل المشروع هشًا، حيث يمكن أن يتوقف بالكامل إذا مرّ صانعه بظروف شخصية أو مهنية.
سادساً: الغزو الثقافي المتزايد
يُشكّل الغزو الثقافي أحد أخطر التحديات التي يواجهها صُنّاع المحتوى الهادف، وهذا الغزو ليس ظاهرة عفوية، بل هو عملية منهجية ومنظمة تهدف إلى تسطيح الوعي في المجتمعات العربية والإسلامية والتقليل من شأن الفكر الجاد.
تعتمد هذه العملية على ضخ كميات هائلة من المحتوى الذي يُروّج للثقافة الاستهلاكية، والترفيه السطحي، والمفاهيم التي تُناقض الهُوية الثقافية والدينية للمجتمع، وإن الهدف من ذلك هو إلهاء الجمهور وتشتيت انتباهه، مما يجعله أقل قدرة على التفكير النقدي، وأقل رغبة في استهلاك المحتوى العميق والهادف، وفي هذا السياق، لا يُنافس صُنّاع المحتوى الهادف مجرد محتوى ترفيهي عادي، بل يُواجهون تيارًا استراتيجيًا يهدف إلى تهميش رسالتهم وإظهارها على أنها غير مهمة أو مملة، وقد يصبح عملهم بذلك شكلاً من أشكال المقاومة الفكرية ضد هذا الغزو.
بوابات مشرعة للتغيير
على الرغم من التحديات، فإن المشهد الرقمي يُقدّم فرصًا فريدة لصناع المحتوى الهادف، منها:
-
جمهور متعطش للمعرفة، إذ يوجد في المنطقة جيل شاب كبير متعطش للمعرفة والتعلم، يبحث عن إجابات لأسئلته ويُؤمن بالتغيير، وهذا الجمهور يُشكل بيئة خصبة للمحتوى الهادف، كما أن تطور وسائل الدفع الرقمي يُمكن أن يُشجّع على نموذج الاشتراكات أو الدعم المباشر، ما يُعطي صانع المحتوى استقلالية مالية.
-
بناء مجتمعات متخصصة، فان المنصات الرقمية تقدم الفرصة لـصانع المحتوى لبناء مجتمعاته الخاصة بعيدًا عن ضغوط الخوارزميات، وذلك من خلال تأسيس قنوات اعلامية خاصة مثلا (يوتيوب- تيليكرام) أو عبر منصات أخرى رصينة، حيث يمكنه التواصل مباشرة مع جمهوره الداعم.
-
تزايد وعي المؤسسات، فقد بدأت المؤسسات والمنظمات، وحتى بعض العلامات التجارية، تُدرك القيمة الإيجابية للمحتوى الهادف، مما يُتيح فرصًا جديدة للتعاون والدعم، وهذا التلاقي مع المسؤولية الاجتماعية للشركات يُمكن أن يكون مصدرًا للتمويل والدعم.
أصوات ملهمة من الجيل الرقمي
على الرغم من التحديات، برزت في العالم العربي أصواتٌ أحدثت تغييرًا ملموسًا في فضاء المعرفة، فمنهم الذي اتجه إلى تبسيط العلوم المعقدة بأساليب متعدد ومتنوع منها الحواري ومنها القصصي والفكاهي ليصل بـرسالته إلى قطاع واسع (احمد الغندور-برنامج الدحيح) و(محمود ابو زيد-برنامج دروس اونلاين)، ومنهم من استخدم التوثيق الميداني وتشبيك العلوم ونظرياته بالواقع واحتياجاته ليُلهم كثير من الشباب نحو التطوير الذاتي (د. حازم العتابي- برنامج دروس للتنمية البشرية)… وغيرهم من الشخصيات التي حاولت تقديم محتويات دينية وثقافية وتربوية هادفة أمثال (الأستاذة ريم الوريمي، والشيخ سلامة عبد الحق، والأستاذ احمد الشقيري) كما ظهرت أصواتٌ نسائية رائدة تُقدم محتوى ثقافيًا وفنيًا بعمق، وأصواتٌ أخرى تناولت قضايا المجتمع المسكوت عنها بجرأة وصدق، لتكون منبرًا للضعفاء والمهمشين.
الاستنتاجات والتوصيات
بعد أن قدمنا هذا التحليل لصناعة المحتوى الهادف، يمكننا أن نخلص إلى مجموعة من الاستنتاجات التي تُشكل صورة المشهد الحالي، ونُقدم بناءً عليها توصيات عملية لتعزيز هذه الصناعة.
-
ينظر الى المحتوى الهادف كاستجابة لفراغ معرفي، وإن بروز صناع المحتوى الهادف ليس ظاهرة عابرة، بل هو استجابة مباشرة لفراغ تركه الإعلام التقليدي، الذي غالبًا ما يُعاني من الجمود أو البيروقراطية، وقد تحوّل الجمهور من مجرد متلقٍ سلبي إلى باحث فاعل عن المعرفة، وهو يبحث عن رسالة تُلامس عقله وتُغذي روحه، وهذا ما يفسّر نجاح النماذج التي قامت على أساس تبسيط العلوم أو التوثيق الهادف.
-
تجديد النظر الى صناعة الوعي كفعل مقاومة فكرية في مواجهة التحديات المالية والاجتماعية والسياسية، وبهذا تُعدّ صناعة المحتوى الهادف فعلًا من أفعال المقاومة الفكرية، وإن المُرسِل الذي يلتزم بتقديم محتوى قيم، هو في الحقيقة يُقاوم ضغوط خوارزميات المنصات التي تُفضّل المحتوى السريع، ويُقدم أنموذجًا للاستمرارية والإيمان بالتأثير طويل المدى، مما يُعيد الاعتبار للقيمة على حساب الكم.
-
تأسيس رأس المال الاجتماعي عبر المحتوى، وإن المحتوى الهادف لا يقتصر دوره على نشر المعرفة، بل يُسهم في بناء ما يُعرف بـرأس المال الاجتماعي، فهو يُنشئ روابط من الثقة والمسؤولية المشتركة بين الأفراد، ويُعزّز شعورهم بالانتماء إلى مجتمع فكري واحد، وهذا يُسهّل من تحقيق الأهداف المشتركة والتغيير الإيجابي.
-
تحوّل سلطة المعرفة من المؤسسات إلى الأفراد، فقد نجح صانعو المحتوى الهادف في كسر احتكار المعرفة الذي كان حكرًا على المؤسسات الأكاديمية والإعلامية التقليدية، وبذلك، أصبح الفرد قادرًا على إعادة تشكيل سلطة المعرفة، حيث لم يعد المتلقي مجرد وعاء يُملأ، بل أصبح بإمكانه الوصول إلى مصادر معرفة متنوعة تُقدم بأسلوب جذاب وعصري، مما يُسهم في ديمقراطية المعرفة وانتشارها.
بناءً على الاستنتاجات السابقة، نُقدم التوصيات التالية لتعزيز صناعة المحتوى الهادف ودعم صُنّاعه،
وعلى النحو الآتي:
-
يجب على الحكومات ووزارات الثقافة و(الإعلام الموجودة في بعض الدول) إنشاء صناديق دعم متخصصة لتمويل المحتوى الهادف، مع ضمان استقلالية المبدعين، كما ينبغي على الشركات الكبرى إدراك دورها في المسؤولية الاجتماعية ودعم هذه المشاريع من خلال الرعاية أو التعاون المشترك.
-
يجب على الحكومات توفير حماية قانونية واضحة لصناع المحتوى الذين يتناولون القضايا الحساسة، وذلك لحمايتهم من المضايقات والتهديدات.
-
ينبغي على صناع المحتوى أنفسهم التركيز على تحقيق الاستقلالية المالية عبر نماذج التمويل البديلة مثل التمويل الجماعي، مما يحرّرهم من ضغوط الإعلانات التقليدية.
-
يجب على صناع المحتوى بناء شبكات تضامن قوية فيما بينهم لتبادل الخبرات، والتعاون في المشاريع المشتركة، وتقديم الدعم النفسي والمهني، مما يُعزّز من استمراريتهم.
-
ينبغي على مقدمي خدمات الإنترنت تحسين جودة الشبكة وتوفير باقات إنترنت خاصة لصناع المحتوى بأسعار معقولة، لتلبية متطلبات الإنتاج عالي الجودة.
-
يجب على المؤسسات الإعلامية تنظيم ورش عمل ودورات تدريبية -مجانية- متخصصة في صناعة المحتوى الهادف بالتعاون مع المبدعين، لنقل الخبرات العملية للجيل الجديد.
-
يمكن للمؤسسات الدينية توفير الدعم المعنوي- وحتى المادي- لصناع المحتوى واعتبار عملهم امتدادًا للرسالة الدينية في العلم والفضيلة والإصلاح، كما يمكنها التعاون معهم لإنتاج مواد تُبسط المفاهيم الدينية والأخلاقية بأسلوب عصري.
-
تُعدّ منظمات المجتمع المدني شريكًا أساسيًا، حيث يمكنها تقديم منح صغيرة للمشاريع التي تُركز على قضايا اجتماعية، والعمل كجسر يربط صناع المحتوى بالخبراء، وتوظيفهم في حملاتها التوعوية.
-
يمكن لهذه المؤسسات أن تُقيم شراكات مع صناع المحتوى لتزويدهم بالبيانات والأبحاث الموثوقة، مما يُعزز من مصداقية المحتوى ويُثريه، كما يمكنها تنظيم ورش عمل متخصصة في توضيح الأبحاث العلمية وتبسيطها.
-
دور الوزارات والهيئات ذات العلاقة:
-
وزارة الشباب: يمكنها إطلاق برامج احتضان للمواهب الشابة في صناعة المحتوى الهادف، وتوفير استوديوهات مجهزة بأسعار رمزية، وتنظيم مسابقات سنوية لتشجيع الإبداع.
-
وزارتا التربية والتعليم العالي: يمكنها تضمين ورش عمل حول استراتيجيات التفكير المنتج وإنتاج المحتوى الهادف ضمن دورات تدريبية صيفية للطلبة الراغبين، فضلا عن دعم البحوث الأكاديمية التي تتناول هذه الظاهرة.
-
وزارة الشؤون الاجتماعية: يمكنها التعاون مع صناع المحتوى لإنتاج مواد تُعالج قضايا اجتماعية حساسة، مثل العنف الأسري، والتهميش، والإعاقة، مما يُسهم في رفع الوعي العام وتقديم حلول عملية.
-
يمكن لوزارة الداخلية أن تلعب دورًا حيويًا في دعم صناع المحتوى عبر إنشاء وحدة متخصصة لحماية المحتوى الرقمي، تتولى مهمة تلقي ومعالجة بلاغات التعدي على الملكية الفكرية، وحماية صُنّاع المحتوى من التهديدات الإلكترونية مثل الابتزاز أو انتحال الشخصية، فضلا عن تنظيم حملات توعية مشتركة حول الأمن السيبراني.
-
يمكن للهيئات المستقلة كدواوين الأوقاف وهيئات الحج والعمرة أن تقوم بإنشاء برامج دعم متكاملة لتمكين صناع المحتوى المتخصصين، من خلال توفير الوصول إلى الارشيف التاريخي، وتقديم الدعم اللوجستي لتوثيق المواقع الدينية والتراثية، وتوفير المُنح لإنتاج محتوى عالي الجودة يبرز الجانب الروحي والثقافي، مما يسهم في إنتاج محتوى موثوق وعميق يعكس الهُوية الدينية والثقافية.
-
المصادر
-
شحرور، فراس. (2018). صناعة المحتوى الرقمي: الدليل الشامل للمحتوى الهادف. دار الفكر.
-
الزبيدي، علي، والصاوي، هدى. (2022). دور صناعة المحتوى الهادف في تعزيز الوعي الثقافي على منصات التواصل الاجتماعي. مجلة الدراسات الإعلامية الرقمية، 12(3)، 45-60.
-
القاضي، ريم. (2021). الفضاء الرقمي وصناعة المحتوى: دراسة حالة . المجلة العربية للإعلام والاتصال، 8(2)، 112-130.
-
النجار، محمد. (2020). المحتوى الرقمي: كيف تنجح في عالم الإنترنت؟. دار النشر والتوزيع.
-
Chen, Haifeng, & Lin, Chih. (2020). The role of social media influencers in promoting pro-social behavior through digital content. Journal of Interactive Marketing, 52, 1-15.
-
Pulizzi, Joe. (2018). Content Inc.: How Entrepreneurs Use Content to Build Massive Audiences and Succeed in a Digital World. McGraw-Hill Education.
-
Ritzer, George, & Jurgenson, Nathan. (2019). The Digital Transformation: A Comprehensive Guide to Content Creation. Routledge.
-
Zhuravleva, Olga. (2021). The impact of purposeful content on online engagement and user trust. International Journal of Communication, 15, 425-442.
([1]) مصطلح واتجاه نظري يشير إلى طريقة توصيل المادة الاعلامية في علم الاتصال ووسائل الإعلام، فيفترض هذا الأنموذج أن الرسائل الإعلامية تتلقى مباشرة من قبل الجمهور وتؤثر فيهم بشكل فعال، مثل الحقن الذي يدخل الدواء مباشرة إلى جسم المستلم، ومع ذلك، فقد تم تحدي هذا الأنموذج باعتباره قديمًا، حيث تشير الأبحاث الحديثة إلى أن تأثير وسائل الإعلام على الأفراد يتأثر بعوامل أخرى، مثل العلاقات الشخصية وتأثير قادة الرأي في العصر الحديث.
([2]) صراع السرديات يمثل اشتباك معرفي يتم فيه تنافس تفسيرات مختلفة لنفس الأحداث بهدف تشكيل الرأي العام وتأثيره على تصورات الناس، وغالبًا ما يستخدم في سياق الحروب والمعلومات والسياسة، حيث يحاول كل طرف فرض روايته للأحداث لخدمة مصالحه وتحقيق أهدافه الاستراتيجية.