“هندسة القيم الاسرية” بين الشريعة الإسلامية واتفاقية سيداو

بقلم: د. مصطفى سوادي جاسم

باحث في مركز الفيض العملي لاستطلاع الرأي والدراسات المجتمعية

 

يمر العراق في مرحلة تحوّل اجتماعي عميق، يتقاطع فيها الماضي العريق مع ضغوط التحولات الحديثة، حيث تتصارع فيه قوى متعددة من أجل صياغة الهوية الاجتماعية والثقافية والقانونية للمجتمع، وفي هذا السياق، برزت اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) كأحد المحركات الدولية التي تسعى إلى إعادة هندسة القيم الاجتماعية، عبر فرض نماذج غربية تُعلي من مبادئ المساواة المطلقة بين الجنسين، وتعزيز حقوق المرأة في شتى المجالات.

تتزامن هذه الدعوات مع واقع عراقي يتسم بخصوصية دينية وثقافية عميقة، حيث يعد القران المرجع الديني الأساس الذي يلعب دورًا محوريًا في رسم البنية الاجتماعية والقانونية، والشريعة الإسلامية وهو المصدر الأساس في التشريعات القانونية، وفي تنظيم العلاقات الأسرية والمجتمعية، وهذا التداخل بين الفقه الديني ومتطلبات التحول الاجتماعي أدى إلى جدل مستمر حول مدى ملاءمة تطبيق اتفاقية سيداو في العراق، التي تُنظر إليها من قبل فئات واسعة على أنها محاولة لإعادة تشكيل القيم الاجتماعية بآليات خارجية قد تتعارض مع التراث الإسلامي.

وهنا يكمن التوتر الأساس: بين دعوات تعزيز حقوق المرأة عبر الاتفاقية الدولية التي تعتمد على مفهوم المساواة الكاملة والحرية الفردية، وبين رؤية الشريعة التي تؤسس العلاقات الاجتماعية على التكامل والعدل وليس النسخ الحرفي لمعايير الغربيّة، هذا التباين أفرز نقاشًا مركّزًا حول “هندسة القيم الاجتماعية” في العراق، والتي لا يمكن فهمها إلا ضمن سياق الصراع بين الحفاظ على الهوية الدينية والقبول بالإصلاحات الاجتماعية الحديثة.

في هذه الورقة، سنحاول تفكيك هذا الصراع من خلال دراسة اعتراضات المرجعيات الدينية على بنود اتفاقية سيداو، وفهم كيف يرى الفقه الإسلامي تلك البنود التي يُعد بعضها تهديدًا مباشرًا للهوية التشريعية والاجتماعية للعراق، في محاولة لفهم عميق لتشابك القيم الدينية والحقوقية في هذا الملف الشائك.

 

سياق النشأة والتبني للاتفاقية سيداو

اتت الخطوات الأولى لتلك “الاتفاقية”، عام 1963، عندما اعتمدت “الجمعية العامة” (GA) القرار رقم 1921، والذي طلبت فيه المجلس الاقتصادي والاجتماعي دعوة اللجنة المعنية “مركز المرأة” لإعداد مشروع إعلان الذي يجمع في معايير دولية صك واحد يعبر عن المساواة في الحقوق بين الرجال والنساء. وبالرغم من إعلان الجمعية العامة الرامي إلى تنفيذ الأحكام ذات الصلة من ميثاق الأمم المتحدة، الذي ينص على المساواة في الحقوق بين جميع الأشخاص بغض النظر عن جنسهم. وزيادة الوعي بأهمية وضع المرأة في المجتمع، إلا أنه لا يزال هناك على الرغم من تلك الصكوك المختلفة، تمييز واسع النطاق ضد المرأة، إذ يشكل انتهاكا لمبدأين المساواة في الحقوق واحترام كرامة الإنسان، بل ويعد عقبة في ممارسة حقوقها السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها.

وقد تم إقرار المعاهدة الملزمة عام 1972 لأحكام الإعلان، وبعد سبع سنوات، اعتمدت الجمعية العامة اتفاقية “القضاء على جميع أشكال التمييز” ضد المرأة، ودخلت حيز النفاذ في 3 سبتمبر 1981، بعد أن تم التصديق عليها من قبل عشرين دولة، كما هو منصوص عليه في المادة (27) من الاتفاقية، والتي هدفت إلى تنظيم جميع جوانب حياة المرأة مقارنة بالمعاهدات السابقة، حيث أقرت بحقوق الإنسان والحريات الأساسية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية، مع ضرورة الحفاظ على هذه الحقوق وفقاً للمادة (1) من الميثاق.

 

الدول المنظمة والموقعة

حتى عام 2025، انضمت إلى الاتفاقية 189 دولة من أصل 193 دولة عضو في الأمم المتحدة، مما يجعلها من أكثر المعاهدات التي حظيت بقبول عالمي، وتشمل الدول المنظمة:

  • غالبية دول أوروبا والأمريكتين وآسيا وأفريقيا.

  • معظم الدول العربية والإسلامية، مثل: العراق، مصر، الأردن، السعودية، الكويت، المغرب، تونس، الجزائر، باكستان، إندونيسيا، وتركيا، لكن العديد منها أبدى تحفظات على بعض المواد.

التحفظات الدولية على الاتفاقية:

تُعد اتفاقية سيداو من أكثر الاتفاقيات التي تلقت تحفظات من الدول الموقّعة، لا سيما تلك ذات المرجعيات الدينية أو الثقافية الخاصة، واهم الدول التي أبدت تحفظات هي: جمهورية كوريا، وفرنسا، وبنغلاديش، الدانمرك، وبريطانيا، وايرلندا الشمالية، ألمانيا والمكسيك والنرويج، العراق، مصر، السعودية، الإمارات، البحرين، قطر، الجزائر، المغرب، الأردن، باكستان، ماليزيا وغيرها، وتحليل التحفظات على اتفاقية القضاء على أشكال التمييز ضد المرأة، والدول عند انضمامها للاتفاقية، ففي الفترة من عام 1980 إلى عام 1990، أصبحت مائة دولة طرفا في الاتفاقية، منها 38 دولة أبدت تحفظا، خمسة عشر أخرى أبدت تحفظات تتعلق فقط بالمادة 29 (1) من الاتفاقية، وبالمقارنة، من عام 2002 إلى عام 2012، أصبحت 20 دولة طرفاً في “الاتفاقية”، التي لا تقل عن نصف أبدت تحفظًا.

فالعديد من الدول، على سبيل المثال، وضعت تحفظاً على المادة 29 (1) فيما يتعلق بالإحالة إلى التحكيم، وقد سمحت محكمة العدل الدولية للدول إبداء التحفظات على تلك الفقرة، مثال التحفظ في المملكة العربية السعودية، حيث تقول أنه “في حالة التناقض بين أي من أحكام الاتفاقية وقواعد الشريعة الإسلامية، فإن المملكة ليست ملزمة بالامتثال لأحكام الاتفاقية”، وهنا بالرغم من أن اللجنة المعنية بالقضاء على التمييز ضد المرأة (سيداو) اعترفت بالتحفظات التي قدمت من الدول العربية والإسلامية إلا أنها لم تقبلها لأنها غير مقبولة من وجهة نظر الاتفاقية، لتعارضها مع الطبيعة العالمية، ومن ثم كان من الضروري مراعاة خصوصية الدولة وثقافتها، لا سيما وإن هناك من يرى ان اتفاقيات حقوق الانسان ذات رؤية غربية، وإن الدول المستقلة لم يتم أخذ رأيها في تلك الاتفاقيات.

 

أسباب التحفظ:

  • عدم توافق بعض المواد مع أحكام الشريعة الإسلامية.

  • التعارض مع الدستور المحلي أو النظام الاجتماعي.

رفض مواد تتعلق بـ:

  • المساواة الكاملة في قوانين الأسرة (الزواج والطلاق والإرث).

  • الحريات الجنسية وحقوق المثليين.

  • تحديد سن الزواج وتقييد القوامة والولاية.

 

الدول المعارضة كليًا أو غير الموقعة

رغم الانتشار الواسع للاتفاقية، هناك دول لم تصادق عليها حتى الآن، أبرزها:

  • الولايات المتحدة الأمريكية: رغم توقيعها، لم تصادق عليها حتى اليوم لأسباب تتعلق بالسيادة والتشريع المحلي.

  • الفاتيكان (الكرسي الرسولي): لم يوقّع عليها لأسباب دينية.

 

موقع العراق من الاتفاقية:

انضم العراق إلى الاتفاقية في 13 آب 1986، أثناء النظام السابق، وأبدى العراق تحفظات على عدد من المواد، وقد نص التحفظ على:

 1- لا يعني قبول هذه الاتفاقية والانضمام إليها أن جمهورية العراق ملزمة بأحكام الفقرتين الفرعيتين (و) و (ز) من المادة 2، أو الفقرتين 1 و 2 من المادة 9، أو المادة 16 من الاتفاقية، ولا تخل التحفظات المبداة على هذه المادة الأخيرة بأحكام الشريعة الإسلامية التي تمنح المرأة حقوقا معادلة لحقوق زوجها من أجل ضمان توازن عادل بينهما، كما يبدي العراق تحفظا على الفقرة 1 من المادة 29 من هذه الاتفاقية بشأن مبدأ التحكيم الدولي فيما يتصل بتفسير أو تطبيق هذه الاتفاقية.

2- ولا ينطوي هذا القبول ضمنا على أي اعتراف بإسرائيل أو الدخول في أية علاقات معها.

 

مواد اتفاقية سيداو محل الخلاف والرفض من منظور الشريعة الإسلامية

1– المادة (2) إلغاء جميع أشكال التمييز

تنص المادة على التزام الدول بإلغاء كل القوانين التي تميّز بين الرجل والمرأة.

وجه الاعتراض: الشريعة الإسلامية تفرّق بين الجنسين في بعض الأحكام باعتبارات تكليفية وفطرية، مثل:

الإرث: قال تعالى”: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ} (النساء:11).

الطلاق: قال تعالى: (فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنۢ بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ (البقرة: 230)  فهذه إشارة واضحة ان الطلاق بيد الزوج غالبًا، مع منح المرأة وسائل كالخلع والتفريق.

القوامة: قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} (النساء:34) باعتبار النفقة والحماية.

إلغاء هذه الفوارق يمسّ نصوصًا قطعية ويغيّر أحكامًا ثابتة.

2- المادة (5) الأدوار النمطية للجنسين

تلزم بتغيير الأنماط الاجتماعية والثقافية لإزالة أي أدوار نمطية للرجل والمرأة.

وجه الاعتراض: الاتفاقية تعد القوامة وولاية الرجل “أدوارًا نمطية” يجب إلغاؤها، بينما الإسلام يراها مسؤوليات تكليفية وليست تمييزًا.

إزالة هذا التمايز يهدد استقرار الأسرة ويخالف الفطرة والتكوين الاجتماعي.

  1. المادة (9) جنسية الأبناء

تنص على منح المرأة الحق المساوي للرجل في جنسية أبنائها.

وجه الاعتراض: النسب في الإسلام للأب {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} (الأحزاب:5)، ولا يجوز مساواة نسب الأم بنسب الأب في أصل التشريع.

4- المادة (10/ج) التعليم المختلط وإزالة المفاهيم النمطية

تلزم بالقضاء على أي مفهوم نمطي لدور الرجل والمرأة في التعليم، وتشجع التعليم المختلط.

وجه الاعتراض: اعتبار الفصل بين الجنسين تمييزًا يخالف ما تقرره الشريعة في مسألة الاختلاط وحماية الضوابط الشرعية.

5- المادة (13/أ) الاستحقاقات العائلية

تنص على المساواة في الحقوق العائلية، بما يشمل الميراث.

وجه الاعتراض: المساواة الكاملة في الميراث تناقض نصوصًا قطعية في القرآن.

6- المادة (13/ج) الأنشطة الترفيهية والرياضية

تمنح المرأة الحق في المشاركة الكاملة في الأنشطة الترفيهية والرياضية دون ولاية أو وصاية.

وجه الاعتراض: النص قد يشمل المشاركات المختلطة والمخالفة للضوابط الشرعية، حتى في البيئات المغلقة، مما يلغي سلطة ولي الأمر في منع ما يخالف الأحكام.

7- المادة (15/2) الأهلية القانونية

تعطي المرأة أهلية قانونية مساوية للرجل في الشؤون المدنية.

وجه الاعتراض: تتعارض مع القاعدة القرآنية: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} (البقرة:282) في الشهادة، ومع بعض الفوارق التشريعية التي يقرها الإسلام.

8- المادة (16) الزواج والعلاقات الأسرية (أخطر مواد الاتفاقية)

تشمل بنودًا عديدة تخالف أحكام الشريعة، منها:

  • إلغاء ولاية الرجل على المرأة في الزواج.

  • منع تعدد الزوجات.

  • إلغاء عدة المرأة بعد الطلاق أو الوفاة.

  • إسقاط قوامة الرجل على الأسرة.

  • منح المرأة حرية التصرف في جسدها (تحديد النسل، الإجهاض).

  • اعتبار المعاشرة الزوجية دون رضا الزوجة “اغتصابًا زوجيًا”.

  • جعل الطلاق حقًّا مشتركًا بين الزوجين.

وجه الاعتراض: هذه البنود تمسّ أحكامًا قطعية وتغيّر بنية الأسرة الإسلامية، ما يؤدي إلى اضطراب اجتماعي وتشريعي.

9- التوصيات العامة: الحرية الجنسية وحقوق المثليين

تفسيرات اللجنة تدرج “التوجه الجنسي والهوية الجندرية” ضمن أشكال التمييز.

وجه الاعتراض: الإسلام يحرّم المثلية ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِۦۤ أَتَأْتُونَ ٱلْفَٰحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍۢ مِّنَ ٱلْعَٰلَمِينَ ‎﴿٨٠﴾‎ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلرِّجَالَ شَهْوَةًۭ مِّن دُونِ ٱلنِّسَآءِۚ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌۭ مُّسْرِفُونَ﴾ (الأعراف: 80-81)ويرى الهوية الجندرية مفهوماً مخالفًا للفطرة، إذ يحدد الجنس بيولوجيًا لا نفسيًا.

 

موقف المرجعيات الدينية من اتفاقية سيداو

لم يصدر عن المرجعيات الدينية في العراق وايران ودول إسلامية اخرى بشكل عام بيانات رسمية مخصصة باتفاقية سيداو، لكنهم أكدوا مرارًا في أجوبتهم على الاستفتاءات واللقاءات والخطب أهمية الحفاظ على البنية الإسلامية للأسرة، ورفض الانسياق وراء قوانين دولية تخالف الشريعة، ووجهة نظرهم تتمثل في:

  • القبول الجزئي: يرون أن بعض مواد الاتفاقية، مثل تلك التي تدعو إلى المساواة في التعليم والعمل، تتفق مع مبادئ الإسلام، لكنهم يرفضون بشكل قاطع المواد التي تتعارض مع الشريعة الإسلامية.

  • الرفض العام: يرون أن الاتفاقية تتبنى مفاهيم غربية عن حقوق المرأة، مثل المساواة المطلقة بين الجنسين، وهذا يتعارض مع القيم الإسلامية.

  • المخاوف من التفكك الاجتماعي: يرون أن تطبيق الاتفاقية قد يؤدي إلى تفكك الأسرة وزعزعة الاستقرار الاجتماعي، بسبب تهميش دور المرأة في الأسرة وتربية الأبناء.

  • المفاهيم الغربية: يعدون أن الاتفاقية تروج لمفاهيم غربية حول حقوق المرأة لا تتناسب مع الثقافة والقيم الإسلامية، وان وضع الانحلال الاسري في اوروبا وامريكا لا يعد مثالا مشجعا او يحتذى به لتطبيق هكذا اتفاقيات على المجتمعات الإسلامية.

  • التحذير من التبعية: يحذرون من التبعية للغرب في مجال حقوق المرأة، ويؤكدون على ضرورة استلهام التشريعات من الشريعة الإسلامية.

وباختصار، يرون أن اتفاقية سيداو تتضمن بعض النقاط الإيجابية، لكنهم يرفضها بشكل عام بسبب تعارضها مع الشريعة الإسلامية، ويرون أنها تروج لمفاهيم غربية عن حقوق المرأة قد تؤدي إلى تفكك الأسرة والمجتمع.

 

مواقف الأحزاب والتيارات الدينية العراقية

موقف الأحزاب والتيارات الدينية العراقية لا سيما حزب الدعوة الإسلامية، المجلس الأعلى الإسلامي، والتيار الصدري، وحزب الفضيلة، هو موقف مشابه ومتناغم مع الرأي المرجعي والشريعي والذي يرى أن اتفاقية سيداو “تتناقض مع الدستور العراقي الذي يقر أن الإسلام مصدر أساس للتشريع”، ودعوا إلى مراجعة شاملة للاتفاقية من منظور الهوية الإسلامية الدستورية، وقد تحفظوا بشكل واضح على المواد التي تدعو للمساواة المطلقة، وتحديدًا المادة 16، إذ عبرت قيادات هذه الأحزاب في البرلمان عن رفضها المطلق لرفع التحفظات العراقية تحت ضغط المنظمات الدولية.

 

مقترحات بديلة من الفقه الإسلامي الشيعي لحماية حقوق المرأة

  • تشريع قوانين مستمدة من الفقه الجعفري تحفظ كرامة المرأة دون خرق ثوابت الشريعة.

  • تعزيز دور المرأة في التعليم والسياسة والاقتصاد ضمن إطار المسؤولية لا النسخ الغربي.

  • نشر الوعي بحقوق المرأة في الإسلام، لا عبر القوالب الجاهزة لاتفاقيات دولية، بل من داخل النصوص القرآنية والحديثية.

  • الحوار مع المنظمات الدولية لتوضيح الخصوصية الدينية والثقافية للمجتمعات الإسلامية، وتثبيت حقها في التحفظ دون تصنيفها كدول “رجعية”.

تحليل نهائي للموقف الاسلامي

يظهر جليًّا أن الاعتراض الاسلامي على سيداو لا ينبع من عداء لحقوق المرأة، بل من رفض “الهندسة الاجتماعية الغربية” التي تُفرض على المجتمعات الإسلامية باسم التقدم، وان التيار الديني– سواء عبر المرجعيات أو القوى السياسية أو الأكاديمية– يرى في الاتفاقية تغريبًا للهوية وسلخًا عن الإرث التشريعي، والمرجعيات تطالب بـ”إصلاح داخلي” عادل ومتدرج، يراعي النصوص ويستفيد من التجارب دون مخالفة العقيدة.

 

الخاتمة

تُظهر مراجعة دقيقة لنصوص اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) أن عددًا من موادها، لا سيما حين تُقرأ بمعزل عن الخصوصيات الثقافية والدينية، تُثير إشكالات عميقة تتعلق بهوية المجتمعات الإسلامية، ومنها العراق، الذي يُعد الدين– وخصوصًا المذهب الشيعي– أحد الركائز الأساسية في تشكيل منظومته القيمية والتشريعية، وبناء الأسرة والعلاقات الاجتماعية.

إن الاعتراضات التي صدرت من المرجعيات الدينية الشيعية لم تكن في جوهرها رفضًا لمبدأ إنصاف المرأة أو إنكارًا لحقوقها، بل جاءت تأكيدًا على أن العدالة لا تتحقق باستنساخ نماذج ثقافية غريبة، بل بمواءمة تلك الحقوق مع الرؤية الإسلامية التي ترى في المرأة إنسانًا مكرّمًا، له دور تكاملي في الحياة، وليس نسخة مكرّرة من الرجل.

ويُعد موقف الشيعة في العراق من الاتفاقية نموذجًا لممانعة ثقافية مشروعة، تستند إلى أسس دينية وفلسفية واضحة، وتُعبّر عن رفضٍ لما يُعرف بـ “العولمة التشريعية” التي تسعى إلى فرض رؤى موحّدة للعلاقات الجندرية تحت شعارات مثل “التمكين” و”المساواة”، من دون مراعاة التنوع الحضاري والديني.

ولعل من المفارقات البارزة أن دولًا كبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية ودولة الفاتيكان لم تُصادق على الاتفاقية، بسبب تحفظات جوهرية على مضامينها، فيما يُطلب من دول كالعراق– برغم هشاشته المؤسسية وتعقيده الثقافي أن يطبّق الاتفاقية كاملة دون تحفظات! كما أن العديد من الدول الإسلامية وغير الإسلامية أبدت تحفظات رسمية على عدة بنود من الاتفاقية، وهو ما يضع تساؤلات مشروعة حول مدى حيادية وضمانات احترام الخصوصية الثقافية في إطار القانون الدولي لحقوق الإنسان.

وتُظهر التجربة العراقية أن التحدي الأكبر اليوم لا يكمن في رفض الآخر، بل في صياغة خطاب عقلاني عالمي، يُبيّن أن المرأة في الإسلام ليست بحاجة إلى إنقاذ من دينها، بل إلى فهم حقيقي لإنسانيتها من داخله.

 

المصادر

  • القرآن الكريم.

  • اتفاقية سيداو– النص الكامل.

  • تحفظات العراق الرسمية على الاتفاقية (وزارة الخارجية العراقية).

  • الاستفتاءات العامة للسيد السيستاني.

  • موقع مركز الأبحاث العقائدية (النجف).

  • كتب الفقه المقارن: (الشيخ الطوسي، السيد الحكيم، السيد الخوئي).

  • تقارير من مجلس النواب العراقي حول موقف الكتل السياسية من سيداو.

  • دراسات نقدية لمركز دراسات المرأة– جامعة بغداد.

  • بيانات وخطب من ممثلي المرجعية في خطب الجمعة (كربلاء)

  • Marijke De Pauw , “Women’s rights: from bad to worse? Assessing the evolution of incompatible reservations to the CEDAW Convention”, Utrecht journal of International and European Law (Brussel: Igitur Publishing ,Volume 29/Issue 77, Article), pp. 51-65.

  • file:///C:/Users/mtm/Downloads/49-49-1-PB.pdf

 

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى