قضية “المغفور لها” الطبيبة بان طارق و”تحديات الثقة بالقضاء العراقي”
الرأي العام بين الحقيقة والوهم
مركز الفيض العلمي لاستطلاع الرأي العام والدراسات المجتمعية
يشكّل الرأي العام قوة مزدوجة التأثير: فهو قد يكون أداة فاعلة في الرقابة الشعبية والدفاع عن الحقوق، لكنه قد يتحول أحيانًا إلى قوة ضاغطة ومزعزعة عندما يُبنى على العواطف والشائعات بدلاً من الحقائق، في العراق، برزت قضية وفاة الطبيبة بان طارق كحالة دراسية نموذجية لهذا التأثير المزدوج، حيث أعلن القضاء العراقي، مدعومًا بالتقارير الرسمية، أن وفاتها كانت نتيجة انتحار، في حين ظل قطاع واسع من المجتمع يتبنى رواية بديلة تفيد بأنها قتلت، وهذه التباينات لم تكن مجرد اختلاف في وجهات النظر، بل أثارت تساؤلات جدية حول مدى ثقة المجتمع بالمؤسسات الرسمية.
تستهدف هذه الورقة البحثية تحليل الأسباب والعوامل التي أدت إلى تشكل رأي عام عكسي في قضية الطبيبة بان طارق، مع التركيز على دور الإعلام الرقمي. وعلى وجه الخصوص، تسعى الدراسة إلى تحقيق الأهداف التالية:
-
تحليل العوامل النظرية واستعراض آليات تشّكل الرأي العام العكسي من خلال نظريات عدة من بينها “دوامة الصمت” و”فقاعة الترشيح”.
-
فحص دور الإعلام الرقمي وتحديد الكيفية التي أثرت بها منصات التواصل الاجتماعي على انتشار الشائعات وتقويض الرواية الرسمية.
تكمن أهمية هذه الورقة ومبرراتها في كونها لا تقتصر على سرد الأحداث، بل تسعى إلى تقديم تحليل عميق للظاهرة في سياقها الاجتماعي والسياسي، مما يسهم في فهم المخاطر الاستراتيجية للرأي العام العكسي على استقرار الدولة والمجتمع.
الرأي العام كقوة مزدوجة
يشير علماء الاجتماع إلى أن الرأي العام ليس مجرد انعكاس لوجهات نظر الأفراد، بل هو نتاج تفاعل معقد بين المعتقدات والقيم والإعلام، وينظر إليه بحسب المنظور السيكلولوجي- الاجتماعي من خلال الانحياز التأكيدي (Confirmation Bias) كأحد العوامل التي تجعل الأفراد يتمسكون بالمعلومات التي تعزز قناعاتهم المسبقة ويرفضون الأدلة المخالفة.
أشار لوبون (1895) بأن الجماهير أكثر انفعالًا من كونها عقلانية، وتميل إلى التعميم والتطرف، ما يجعل الرأي العام في بعض الحالات قوة ضاغطة وغير متوازنة.
ويشير الإعلام الحديث وتشكيل الرأي العام الى الخطورة العكسية للرأي العام من خلال دوامة الصمت (Spiral of Silence) فالأفراد الذين يخالفون التيار السائد يخشون التعبير عن آرائهم، مما يخلق حال غير واقعية تدعى وهم الإجماع، وقد أشارت نظرية وضع الأجندة (Agenda Setting) بأن الإعلام يحدد ما يفكر فيه الناس حول القضايا، وليس ما يفكرون به تحديدًا.
أما نظرية التأطير (Framing Theory) فقد حددت أن طريقة عرض الخبر قد تغير تفسير الجمهور له، كما حدث في قضية بان طارق.
وهناك ما يعرف بـ فقاعة الترشيح (Filter Bubble) والتي تعني أن الخوارزميات الرقمية تجعل المستخدمين يتعرضون فقط للروايات المتوافقة مع ميولهم السابقة، ما يعزز التشدد والانقسام.
توضح قضية بان طارق كيف يمكن للرأي العام أن يتحوّل إلى قوة عكسية:
-
تشكيك بمصداقية القضاء، فالرواية الجماهيرية “الاغتيال” طعنت في نزاهة القضاء العراقي.
-
خلق سردية بديلة، إذ تجاوزت قوة السرد الشعبي الرواية الرسمية، حتى عُدّت هي الحقيقة من قبل قطاعات واسعة.
-
انقسام المجتمع، وقد انقسم الناس بين مؤمن بالقضاء ومشكك، ما أضعف الثقة المؤسسية.
-
تأجيج الشائعات، إذ ساعدت العواطف والفضول في نشر الرواية الشعبية بوتيرة أسرع من البيانات الرسمية.
المخاطر الاستراتيجية للرأي العام العكسي
تشكل ظاهرة الرأي العام العكسي مخاطر استراتيجية كبيرة على الدولة والمجتمع، إذ تتجاوز مجرد التعبير عن الرأي لتصل إلى التأثير المباشر على استقرار المؤسسات والثقة المجتمعية، من أبرز هذه المخاطر إضعاف المؤسسات، حيث يؤدي الطعن المستمر في نتائج القضاء أو القرارات الرسمية إلى تقويض شرعية الدولة، ويضعف هيبتها أمام المواطنين والشركاء الدوليين على حد سواء، فالدولة التي لا تحظى بالاحترام والقبول القانوني تواجه صعوبات في فرض القانون وتنفيذ السياسات بشكل فاعل.
كما يسهم الرأي العام العكسي في فقدان الثقة المجتمعية، إذ يؤدي انخفاض مستوى الثقة في الدولة إلى زيادة احتمالات الفوضى والانقسامات داخل المجتمع، فالمجتمع الذي يشعر بعدم الحماية أو بعدم العدالة من قبل مؤسسات الدولة يكون أكثر عرضة للتوترات والاحتجاجات العفوية، ما يهدد السلم الاجتماعي واستقرار البيئة السياسية.
على صعيد آخر، يعزز هذا النوع من الرأي العام الانقسامات الاجتماعية، حيث يشجع التعبير العاطفي والمغالاة في الآراء على ثقافة “الوصم” والعزل، سواء على أساس اجتماعي أو سياسي أو طائفي، وهذه الظاهرة تؤدي إلى تفكك الروابط الاجتماعية وتزيد من إحساس الفئات المختلفة بالتمييز والاستبعاد، ما يفاقم الانقسامات المجتمعية ويزيد من حدة الاحتكاكات بين المجموعات.
ويمكن القول إن الرأي العام العكسي يسهم في انتشار الشائعات والمعلومات المغلوطة، وهو ما أشار إليه الباحثان ألبورت وبوستمان في إطار نظرية الشائعة، إذ تميل الأخبار الغامضة والمثيرة إلى الانتشار بسرعة أكبر من الحقائق المؤكدة، وهذه الظاهرة ليست مجرد تهديد معرفي، بل لها انعكاسات عملية على صنع القرار العام، إذ يمكن للشائعات أن تحرف الانتباه عن القضايا الحقيقية وتؤدي إلى اتخاذ قرارات غير مدروسة على مستوى الدولة أو المجتمع.
سبل التوازن وإدارة الرأي العام
تتطلب إدارة الرأي العام وتحقيق التوازن في المجتمع تبني استراتيجيات متعددة تركز على المسؤولية والشفافية والتثقيف، مع إشراك الخبراء المتخصصين، من أهم هذه السبل تعزيز الإعلام المسؤول، حيث يمثل الإعلام أداة محورية في تشكيل الرأي العام، ويتطلب ذلك نقل الوقائع بدقة وموضوعية، مع الابتعاد عن الإثارة والمبالغة التي قد تحرف الانتباه عن الحقائق، بما يعزز مصداقية وسائل الإعلام ويقوي الثقة بين الجمهور ومصادر المعلومات.
كما يعد تعزيز شفافية القضاء من الأسس المهمة لإدارة الرأي العام، وذلك من خلال نشر نتائج التحقيقات والقرارات القضائية بطريقة واضحة ومقروءة للجمهور، هذا النهج يعزز الثقة في المؤسسات القانونية ويحد من الشكوك والمخاوف، ويساعد على ترسيخ مفهوم العدالة والموضوعية في أذهان المواطنين.
إلى جانب ذلك، يلعب التثقيف الإعلامي والنقدي دورًا رئيسًا في تمكين المجتمع من التمييز بين المعلومات الصحيحة والمضللة. فالتدريب على تحليل الأخبار وفهم المصادر وإدراك السياقات المختلفة يجعل الأفراد أكثر وعيًا، ويحد من التأثر بالشائعات والمعلومات المغلوطة التي قد تؤدي إلى انقسامات أو ردود فعل غير محسوبة.
وأخيرًا، يكتسب إشراك خبراء النفس والاجتماع والإعلام أهمية كبيرة في هذا السياق، إذ يمكن لهؤلاء الخبراء تقديم تحليلات موضوعية تساعد على فهم حركة الرأي العام، والتنبؤ بتأثير الأحداث والمعلومات المختلفة، وتوجيه الرأي العام نحو مسارات إيجابية وبناءة. هذه المقاربة متعددة الأبعاد تضمن معالجة الرأي العام بشكل علمي واستراتيجي، وتحمي المجتمع من الانجرار وراء العاطفة والمعلومات المغلوطة.
منهجية الدراسة وإجراءاتها
تعتمد هذه الورقة على منهجية دراسة الحالة (Case Study)، حيث تتخذ من قضية وفاة الطبيبة بان طارق أنموذجًا لتحليل العلاقة بين الرأي العام والإعلام الرقمي في السياق العراقي، ولتحقيق أهداف الدراسة، تم اتباع منهج التحليل الكيفي (Qualitative Analysis) الذي يركز على فهم عميق للظاهرة بدلًا من الاعتماد على الأرقام وحدها.
جمع البيانات
تم جمع البيانات اللازمة للتحليل من خلال تحليل المحتوى (Content Analysis) لمنصات التواصل الاجتماعي، إذ تم إجراء تحليل نوعي للمحتوى الأكثر انتشارًا وتفاعلًا على منصات (فيسبوك- تويتر- أنستكَرام) خلال ستة أيام (قبل اعلان التقرير النهائي من قبل القضاء العراقي وبعده)، شملت العينة المنشورات والتعليقات ومقاطع الفيديو التي حظيت بأعلى نسبة من التفاعل (إعجابات، مشاركات، تعليقات)، بهدف رصد السرديات والمصطلحات والوسوم (hashtags) التي شكلت الرأي العام الشعبي.
إذ إن هناك دراسات محلية وإقليمية أظهرت أن وسائل التواصل الاجتماعي تمثل المصدر الأساس للمعلومات بالنسبة للشباب العراقي بنسبة تتراوح بين(60-70%)، بينما يعتمد (20–25%) فقط على وسائل الإعلام التقليدية مثل التلفاز والصحافة (Arab Center for Research & Policy Studies, 2022).
بعد المعاينة البصرية والمتابعة التحليلية من قبل فريق الباحثين في مركزنا حول القضية محور الدراسة، وللأيام الستة (قبل اعلان التقرير وبعده)، يمكن تمثيل ذلك عبر جدول تقريبي استنادًا لمواقف الجمهور تجاه قضية بان طارق:
الفئة العمرية |
مصادر المعلومات الأساسية |
نسبة تصديق الرواية“الاغتيال” |
نسبة تصديق الرواية“الانتحار” |
18-30 سنة |
وسائل التواصل الاجتماعي |
75% |
25% |
31-45 سنة |
وسائل-التواصل- والتلفاز-الراديو |
60% |
40% |
46-60 سنة |
التلفاز-الاقارب-المعارف |
45% |
55% |
60 سنة فأكثر |
التلفاز-الراديو-مواقع التواصل-المعارف |
30% |
70% |
يظهر الجدول كيف تؤثر المنصات الرقمية على تصديق الروايات العاطفية أكثر من الروايات المبنية على بيانات رسمية.
ومن أجل تحليل تلك البيانات المعروضة والتي تم الحصول عليها من المتابعة العملية، نود أن نشير الى الشباب أكثر تأثرًا بالتسريبات العاطفية، إذ يتضح أن نسبة تصديق رواية الاغتيال أعلى عند الفئة 18– 30 سنة بسبب اعتمادهم الأكبر على وسائل التواصل، وايضا نشير الى التأثير المتناقص مع زيادة الاعتماد على الإعلام التقليدي، كون كبار السن يميلون لتصديق التقرير القضائي الرسمي لأنهم أقل انخراطًا في فقاعات الترشيح الرقمية.
الاستنتاجات
بناءً على التحليل الذي قدمته الورقة، يمكن استخلاص عدة استنتاجات رئيسة حول قضية الطبيبة بان طارق وتأثير الرأي العام فيها:
-
تضارب الروايات الرسمية والشعبية: أظهرت الورقة وجود انقسام حاد بين الرواية الرسمية للقضاء (الانتحار) والرواية الشعبية (الاغتيال)، وهذا الانقسام لم يكن مجرد اختلاف في وجهات النظر، بل كان انعكاسًا لفجوة عميقة في الثقة بين المجتمع ومؤسسات الدولة، وخاصة القضاء.
-
سيطرة الرواية العاطفية: أثبتت الورقة أن الرأي العام المعاكس في هذه القضية كان مدفوعًا بالعاطفة أكثر من المنطق، فالسرديات الشعبية المليئة بالشكوك ونظريات المؤامرة كانت أسرع انتشارًا وأكثر تأثيرًا، خاصةً لدى الفئات العمرية الشابة.
-
تأثير الإعلام الرقمي على الشباب: أوضح التحليل أن منصات التواصل الاجتماعي لعبت دورًا محوريًا في تشكيل الرأي العام المعاكس، حيث أظهرت البيانات أن الشباب الذين يعتمدون بشكل كبير على هذه المنصات كانوا الأكثر تصديقًا لرواية “الاغتيال”، وهذا يعكس تأثير فقاعات الترشيح والتضخيم العاطفي الذي يميز البيئة الرقمية.
-
ضعف تأثير الإعلام التقليدي في الأزمات: تشير الورقة إلى أن الإعلام التقليدي لم يكن له التأثير الكافي في مواجهة انتشار الشائعات، فعلى الرغم من أن كبار السن الذين يعتمدون على هذا الإعلام كانوا أكثر ثقة بالرواية الرسمية، إلا أن سرعة وحجم انتشار المعلومات على منصات التواصل تجاوزت قدرة الإعلام التقليدي على تصحيحها أو توضيحها.
-
وجود مخاطر استراتيجية: خلصت الورقة إلى أن ظاهرة الرأي العام العكسي لا تقتصر على حالة فردية، بل تمثل تهديدًا استراتيجيًا يضعف شرعية المؤسسات، ويسهم في فقدان الثقة المجتمعية، ويزيد من الانقسامات الاجتماعية.
-
الإعلام الرقمي يسرّع انتشار الشائعات ويخلق “فقاعات صدى” تعزز القناعات السابقة.
-
الرأي العام العاطفي غالبًا ما يكون أقوى وأكثر انتشارًا من الرواية الرسمية عند الشباب.
-
تكشف تجربة العراق في قضية الطبيبة بان طارق أن الرأي العام قوة هائلة، لكنه سلاح ذو حدين، إذا ما انطلق من العاطفة والشائعات، فقد يتحول إلى أداة تهدد ثقة المجتمع بمؤسساته وتزعزع السلم الاجتماعي.
التوصيات
بناءً على الاستنتاجات المذكورة، يمكن تقديم التوصيات التالية لمواجهة تحديات الرأي العام العكسي وتعزيز الثقة المؤسسية:
-
تعزيز الشفافية المؤسسية: يجب على المؤسسات القضائية والحكومية تبني نهج أكثر انفتاحًا وشفافية في التعامل مع القضايا الحساسة، ولا يكفي إصدار بيانات رسمية، بل يجب تقديمها بطريقة واضحة ومقنعة للجمهور، مع توفير الأدلة اللازمة قدر الإمكان، وبما لا يتعارض مع سرية التحقيقات.
-
تفعيل الإعلام الرسمي: يجب على المؤسسات الرسمية أن تتجاوز دورها التقليدي كمصدر للأخبار، وأن تعمل بشكل استباقي على مواجهة الشائعات، ويتطلب ذلك بناء قنوات اتصال فعالة مع الجمهور، واستخدام منصات التواصل الاجتماعي بأسلوب تفاعلي ومقنع يخاطب جميع الفئات العمرية.
-
التثقيف الإعلامي والنقدي: من الضروري إطلاق حملات تثقيفية موجهة للجمهور، وخاصة الشباب، لتعليمهم كيفية التمييز بين الأخبار الحقيقية والمضللة، وهذه الحملات يجب أن تركز على مهارات التحليل النقدي للمحتوى، وفهم مصادر المعلومات، وإدراك العواقب السلبية لانتشار الشائعات.
-
إشراك الخبراء: يجب على المؤسسات الحكومية والقضائية الاستعانة بخبراء علم النفس والاجتماع والاتصال لفهم ديناميكيات الرأي العام وتوجيهه، ويمكن لهؤلاء الخبراء المساعدة في صياغة الرسائل الإعلامية، والتنبؤ بردود فعل الجمهور، وتحديد أفضل السبل لاستعادة الثقة المفقودة.
-
تنظيم البيئة الرقمية: يجب وضع سياسات أكثر صرامة لمكافحة الأخبار الكاذبة والمحتوى المضلل على منصات التواصل الاجتماعي، بالتعاون مع الشركات التقنية والمجتمع المدني، لضمان أن تبقى البيئة الرقمية مساحة للنقاش الهادف وليست مرتعًا للشائعات.
المصادر
-
Allport, G. W., & Postman, L. (1947). The psychology of rumor. Henry Holt.
-
Castells, M. (2009). Communication power. Oxford University Press.
-
Lippmann, W. (1922). Public opinion. Harcourt, Brace and Company.
-
McCombs, M., & Shaw, D. L. (1972). The agenda-setting function of mass media. Public Opinion Quarterly, 36(2), 176–187.
-
Nickerson, R. S. (1998). Confirmation bias: A ubiquitous phenomenon in many guises. Review of General Psychology, 2(2), 175–220.
-
Noelle-Neumann, E. (1993). The spiral of silence: Public opinion—Our social skin. University of Chicago Press.
-
Pariser, E. (2011). The filter bubble: What the Internet is hiding from you. Penguin Press.
-
Putnam, R. D. (2000). Bowling alone: The collapse and revival of American community. Simon & Schuster.Bottom of Form