اغتيال السمعة … من التسقيط الى ردغة الخبال

بقلم: د. مصطفى سوادي جاسم/ باحث في مركز الفيض العلمي لاستطلاع الرأي والدراسات المجتمعية

 

المقدمة

في السنوات الأخيرة، تصاعدت ظاهرة “التسقيط الأعمى” للمختلفين في الرأي في المجتمع العراقي، ولا سيما عبر وسائل التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك، الذي تحوّل من مساحة للتفاعل إلى ساحة لحملات التشهير والطعن بالناس من دون بيّنة أو ضوابط، ولم يعد الاختلاف في الرأي يُنظر إليه بوصفه تعبيرًا عن التعدد، بل بات يُعامل كجريمة تستوجب العقاب المعنوي والتشويه الاجتماعي، وهذه الظاهرة تُعبر عن اختلال أخلاقي ونفسي واجتماعي، كما أنها تتعارض كليًا مع المبادئ الإسلامية الأصيلة، التي تدعو إلى حفظ كرامة الإنسان واحترام سمعته.

وتزداد خطورة الظاهرة عندما تُمارَس ضمن أطر منظمة، كأن تكون جزءًا من الحملات الانتخابية، أو أدوات لتصفية الخصوم السياسيين أو الإعلاميين، أو حتى ضمن النزاعات الشخصية، إذ تُسخّر وسائل التواصل لنشر معلومات خاصة أو مختلقة بقصد الإيذاء النفسي والاجتماعي، وهنا تبرز الحاجة إلى دراسة متعددة الزوايا لفهم أعمق للأسباب والنتائج والوسائل، واستشراف المعالجات الممكنة.

 

أولاً: الجذور النفسية والاجتماعية لظاهرة التسقيط

  1. نظرية الهوية الاجتماعية (Tajfel & Turner, 1979):

ترى النظرية أن الأفراد يصنفون أنفسهم ضمن جماعات (In-groups) ويعدون الآخرين خارجها (Out-groups)، مما يولد تعصبًا جماعيًا، وفي العراق، تظهر هذه النزعة في المواقف الطائفية والحزبية التي ترى في الرأي المخالف تهديدًا يستوجب الإقصاء والتسقيط لا النقاش، وغالبًا ما يتم تعزيز الانتماء إلى الجماعة من خلال الهجوم على الخصم، حتى وإن كان بريئًا أو ذا موقف مستقل.

 

  1. الإسقاط الدفاعي (Defensive Projection – Freud):

يشير التحليل النفسي إلى أن الأفراد الذين يشعرون بالضعف أو الإحباط الداخلي يلجؤون إلى إسقاط مشاعرهم السلبية على الآخرين المختلفين، فيتهمونهم بالخيانة أو الجهل أو الفساد، وفي البيئة العراقية، حيث تعاني فئات واسعة من الإحباط المزمن نتيجة الظروف الاقتصادية والسياسية، يُعدّ التسقيط وسيلة نفسية للتنفيس عن الغضب المكبوت، وتبرير مواقف متعصبة أو متطرفة.

  1. التحيز المعرفي والانغلاق الذهني (Confirmation Bias & Need for Cognitive Closure):

يفضّل الناس الآراء التي تؤكد معتقداتهم السابقة، ويرفضون الآراء المختلفة، وفي البيئة الرقمية العراقية، يُترجم هذا الرفض إلى تسقيط مباشر للمخالفين بدل مناقشة أفكارهم، كما أن الحاجة إلى “إغلاق معرفي” سريع، تجعل من الناس أسرى للحكم السريع والقطيعة، بدل التروي والتفكير النقدي.

 

  1. فيسبوك والتسقيط الرقمي:

تحول “فيسبوك” في العراق إلى منصة رئيسة للتشهير الجماعي، حيث يتم استخدام صفحات مجهولة أو حسابات حزبية لنشر صور مفبركة أو اقتباسات مجتزأة أو منشورات كاذبة، لغرض تسقيط الشخصيات المعارضة أو المستقلة، ويتّسم هذا التسقيط الرقمي بميزات خطيرة:

  • سهولة النشر والتداول دون تحقق.

  • استخدام الصور الشخصية والمعلومات العائلية في الإيذاء.

  • غياب الرقابة الفاعلة أو المساءلة القانونية.

  • انتشاره بين فئات الشباب الذين يفتقرون أحيانًا إلى الوعي الإعلامي.

 

ثانيًا: الأثر الاجتماعي والسياسي لظاهرة التسقيط

  1. تفكك الثقة الاجتماعية: تؤدي حملات التسقيط إلى تآكل الثقة المتبادلة بين أفراد المجتمع، وزيادة العزلة بين المكونات، ويصبح كل فرد عرضة للتشهير عند التعبير عن رأي مستقل، ما يخلق مناخًا من الخوف والشك.

  2. قمع الأصوات الحرة: يخشى الكثير من المثقفين والناشطين التعبير عن آرائهم خوفًا من الاستهداف، ما يؤدي إلى انكماش المجال العام، بل إن بعض الشخصيات الأكاديمية أو الدينية أصبحت تتردد في النشر، تفاديًا لحملات التسقيط التي قد تُشوّه سمعتها.

  3. التحزّب القطيعي: شكل من أشكال الانتماء الجماعي غير الواعي، حيث ينخرط الأفراد في جماعة أو حزب أو تيار بدون تفكير نقدي، ويُظهرون ولاءً أعمى لرموز تلك الجماعة أو قراراتها، بغضّ النظر عن صوابها أو خطئها، وتتحول المواقف إلى ولاءات مطلقة، بحيث يُكافأ الانتماء الأعمى ويُعاقب الاختلاف بالعزل أو التشهير، وتتحول القيم الأخلاقية إلى أدوات نسبية تُستخدم ضد الخصم، ويُغض النظر عنها حين تصدر عن “الأصدقاء”.

  4. العنف الرمزي: كما يطرحه بورديو، يتم استخدام اللغة والمنشورات وسيلة للعدوان غير المباشر، مما يخلق مناخًا من الإرهاب الثقافي، ويُمارس هذا العنف غالبًا دون مساءلة، لأن مرتكبيه مختبؤون خلف الشاشات أو الصفحات الوهمية.

 

 

ثالثًا: الرؤية الإسلامية في رفض التسقيط

في ضوء الرؤية الإسلامية الشاملة، تُعدّ ظاهرة التسقيط أو التشهير بالآخرين – سواء أكان ذلك عن طريق الغيبة أو البهتان أو النميمة أو نشر الشائعات – من السلوكيات المحرمة والمحظورة شرعًا، والمستهجنة أخلاقيًا، والخطيرة اجتماعيًا وسياسيًا؛ فالإسلام، المستقى من القرآن الكريم وسنة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأقوال أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، يؤسس لرؤية متكاملة تحترم كرامة الإنسان وتصون سمعته وتجرّم أي انتهاك لحرمة الفرد، معتبرًا ذلك عدوانًا على القيم المجتمعية وأساسًا لانهيار العلاقات بين الناس وتفكك النسيج الاجتماعي.

 

الرؤية القرآنية – حماية الكرامة الإنسانية

لقد شدد القرآن الكريم على احترام الإنسان، وحرمة الخوض في عرضه، فنهى بشكل صريح عن الغيبة بقوله تعالى: ﴿وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾ (الحجرات: 12)، ففي هذا التصوير القرآني البليغ، تُشبّه الغيبة بأكل لحم الميت، في إشارة إلى بشاعتها ورفضها الفطري، كما حذّر من السخرية واللمز والتنابز بالألقاب في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ… وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ﴾ (الحجرات: 11)، وهو توجيه رباني للحفاظ على التقدير المتبادل والكرامة الجماعية، وفي سياق مواجهة نشر الفاحشة والشائعات، أشار القرآن إلى خطورة هذه السلوكيات التي تهدف إلى إسقاط الناس اجتماعيًا، مبينًا أن من يحب ترويج الفاحشة بين المؤمنين مستحق لعذاب أليم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (النور: 19).

 

أحاديث الرسول وأهل بيته – حفظ العرض فريضة

أما السنة النبوية، فهي تؤكد على خطورة الطعن في أعراض الآخرين، وتحذر من الإفك والبهتان، حيث قال النبي محمد (صلى الله عليه واله): “من رمى مؤمنًا بما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال حتى يخرج مما قال.”- ردغة الخبال” هي صديد أهل النار، أي العُصارة التي تخرج من أجسادهم بسبب العذاب، وهو شيء خبيث قذر، والحديث يُصور عقوبة من يفتري على الآخرين أو يتهمهم زورًا، بأن يُحبس في هذا الصديد المهين والعفن، عذابًا له على ما قال-، وكما قال: “كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعِرضه.” ، وهذه الثلاثية (الدم، المال، العرض) تمثل أركان الأمان المجتمعي، والاعتداء على أي منها يُعد عدوانًا سافرًا على الإنسان وحقوقه الشرعية.

وفي عهد الامام علي عيله السلام لمالك الأشتر، بيّن الإمام خطورة الوشاة قائلاً: “وأشْدِدْ على القائلين بالوشاية، فإنهم مفسدون بين الناس، مجترئون على الخيانة.”، وهو توجيه سياسي وإداري يُبرز أن التسقيط لا يهدد الأفراد فحسب، بل يفتك بالمجتمعات ويخرّب العلاقات والمؤسسات، وورد عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) قوله: “من روى عن أخيه المؤمن رواية يريد بها شينه وهدم مروته ليسقطه من أعين الناس، أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان، فلا يقبله الشيطان.”، وهذا القول الشريف يعبّر بوضوح عن خطورة التسقيط، لا سيما حين يكون بنقل رواية أو إشاعة هدفها تشويه سمعة المؤمن وإسقاط مكانته بين الناس فالإمام (ع) يبيّن أن من يفعل ذلك يُسلب من عناية الله ويُطرد من ولايته، بل ويُصبح في معسكر الشيطان، مع أن الشيطان نفسه لا يثق بمن خان أخاه المؤمن، وهذه دلالة بالغة على بشاعة هذا الفعل وخطورته، إذ يخرج صاحبه من دائرة الإيمان والأمان الأخلاقي، ليكون عرضة للذل في الدنيا والعقوبة في الآخرة.

إن التسقيط في الرؤية الإسلامية لا يُعد مجرد مخالفة شخصية، بل هو تهديد لأمن المجتمع وسلامه الداخلي، إذ يفضي إلى نشر الكراهية، وتمزيق العلاقات، وفقدان الثقة، وتهيئة الأجواء للفتن والاضطراب، كما أن منصات التواصل الاجتماعي اليوم أصبحت بيئة خصبة لهذا النوع من السلوك، مما يفرض على المؤسسات الدينية والثقافية والإعلامية، وعلى الأفراد أنفسهم، مسؤولية التصدي لهذه الظاهرة من خلال التوعية، والتربية الأخلاقية، وبناء ثقافة الاحترام المتبادل، ومن ثم، فإن الإسلام يدعو إلى حفظ الكرامة، وصيانة السمعة، ويضع قواعد صارمة ضد التسقيط، ويربط بين استقامة اللسان وسلامة المجتمع، ويجعل من ستر العيوب لا فضحها، دليلًا على الوعي الإيماني والرقي الأخلاقي.

 

رابعًا: المعالجات المقترحة

  1. إدخال التربية الأخلاقية والرقمية في المدارس والجامعات لترسيخ أدب الاختلاف والتفكير النقدي.

  2. تفعيل القوانين النافذة التي تجرّم التشهير الإلكتروني والتسقيط الرقمي، يجب تحديث التشريعات لتشمل جرائم الإعلام الرقمي، خاصة تلك التي تمس السمعة والحياة الخاصة.

  3. دعم خطاب الاعتدال والتسامح من قبل المرجعيات الدينية والفكرية. من خلال خطب الجمعة، والمنابر الدينية، والمحتوى الإعلامي الهادف.

  4. رصد الصفحات والمنصات التي تبث الكراهية والتسقيط، وإخضاعها للمساءلة القانونية والمجتمعية. وتأسيس حملات توعية تطوعية للتبليغ عن هذه الصفحات.

  5. إشراك مؤسسات المجتمع المدني في حملات توعية حول خطاب الكراهية والتشهير الإلكتروني، خاصة بين فئة الشباب.

  6. تشجيع الإنتاج الإعلامي المضاد للتسقيط، كإنتاج محتوى رقمي يروج لأخلاقيات الحوار، وقبول الآخر.

  7. التثقيف الاخلاقي (الانساني والديني) للتنظيمات الحزبية والجماهيرية.

 

الخاتمة

تعد ظاهرة التسقيط الأعمى إحدى أبرز مظاهر الانحراف الثقافي في المجتمع العراقي، والتي تتقاطع مع المبادئ الإسلامية والإنسانية، إن مواجهتها تتطلب تضافر الجهود النفسية والتربوية والاجتماعية والدينية، لصناعة بيئة تُحترم فيها الكرامة الإنسانية، وتُفصل فيها الآراء عن الأشخاص، ويُصان فيها حق الإنسان في الاختلاف دون خوف من الاغتيال المعنوي، كما أن الرؤية الإسلامية تقدم إطارًا متينًا للأخلاق العامة، يمكن استثماره في حملات تربوية ودعوية لحماية المجتمع من الانهيار القيمي.

 

 

المصادر والمراجع

أولاً: المصادر العربية

القرآن الكريم

التميمي الآمدي، عبد الواحد بن محمد. (2001). غرر الحكم ودرر الكلم (تحقيق السيد مهدي الرجائي). قم: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين.

الطاهر، عبد الجليل. (1955). التركيب الاجتماعي في العراق. بغداد: مطبعة الحكومة.

الشريف الرضي. (2007). نهج البلاغة (تحقيق صبحي الصالح). بيروت: دار المعرفة.

الكليني، محمد بن يعقوب. (2009). الكافي (تحقيق علي أكبر الغفاري، ج2). بيروت: دار الكتب الإسلامية.

المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية. (2004). نهج الفصاحة: مجموعة من أحاديث الرسول الأكرم محمد (ص) (ترتيب وتصنيف أحمد الحسيني). القاهرة: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية.

الوردي، علي. (1970). لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث (الجزء الأول). بغداد: مطبعة الأديب.

ثانيًا: المصادر الأجنبية

  1. Bourdieu, P. (1991). Language and symbolic power (J. B. Thompson, Ed.; G. Raymond & M. Adamson, Trans.). Cambridge, MA: Harvard University Press.

  2. Freud, S. (1960). The ego and the id (J. Riviere, Trans.). New York: W. W. Norton. (Original work published 1923)

  3. Goleman, D. (1995). Emotional intelligence: Why it can matter more than IQ. New York: Bantam Books.

  4. Tajfel, H., & Turner, J. C. (1979). An integrative theory of intergroup conflict. In W. G. Austin & S. Worchel (Eds.), The social psychology of intergroup relations (pp. 33–47). Monterey, CA: Brooks/Cole.

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى