جمهورية القلق.. نزع السلاح في العراق بين حلم الاستقرار وكابوس الانكشاف

إعداد: مركز الفيض العلمي لاستطلاع الرأي والدراسات المجتمعية

 

 

هواجس الشارع وسيكولوجية الانكشاف

هل يجرؤ العراق في على المضي قدماً في مشروع نزع السلاح، بينما تلوح في الأفق بوادر عاصفة إقليمية قد تعصف بسيادته؟ هذا السؤال ليس أكاديمياً، بل هو صرخة قلق تتردد في المقاهي الشعبية ببغداد، وفي دواوين الجنوب، وفي أزقة الموصل وكركوك، فالمواطن العراقي اليوم يطرح تساؤلات حارقة:

 

ماذا لو قرر الجار الشمالي (تركيا) أن التوغل الحالي لم يعد كافياً، وقرر التحرك عسكرياً بقواته المدرعة وطيرانه المسير صوب الموصل أو كركوك تحت ذرائع حماية الأمن القومي أو استعادة ولايته التاريخية؟ هل ستمتلك قوات الجيش والشرطة- بمفردها وفي ظل القيود السياسية الدولية- القدرة على صد هجوم لجيش نظامي هو الثاني في حلف الناتو؟

 

وليس بعيداً عن ذلك، يمتد القلق غرباً: كيف ستواجه الدولة احتمال انفجار الخلايا النائمة في الداخل، وهي ترى خلف الحدود نظاماً جديداً في سوريا (نظام الجولاني) يمتلك الأيديولوجيا والزخم والقدرة على تصدير الفوضى؟ فهذه التساؤلات، التي نسمعها من العراقيين بمختلف اتجاهاتهم ومستوياتهم، ليست مجرد وساوس أمنية، بل هي نتاج تروما (صدمة) تاريخية جعلت المواطن يرى في نزع السلاح فخاً قد يجعله لقمة سائغة أمام أطماع الجغرافيا وتقلبات السياسة.

 

نشوء الهُوية المسلحة– من صدمة الانهيار إلى قدسية الدفاع

لفهم لماذا يرفض الشارع التخلي عن سلاحه اليوم، يجب تفكيك اللحظات التي تحول فيها السلاح من خروج عن القانون إلى شرعية وجود:

  1. انهيار 2003 وفقدان الأب الأمني: بقرار حل الجيش والمؤسسات الأمنية، فقد العراقي شعوره بالحماية الرسمية، وقد وجد نفسه في مواجهة عصابات السلب والنهب، ثم أمام صراع طائفي مرير، وهنا عاد العراقيون إلى الهويات الأولية، فاستُخرج السلاح المُخّبأ، وتحولت العشيرة إلى جيش مصغر، فالسلاح في هذه المرحلة لم يكن تمرداً، بل كان استجابة طبيعية لغياب الدولة.

  2. زلزال حزيران 2014 وسقوط وَهْم الأمن: كانت لحظة سقوط الموصل هي المنعطف الأخطر، إذ دمرت الثقة في قدرة المؤسسة العسكرية الكلاسيكية، ومع صدور فتوى الجهاد الكفائي وتشكيل الحشد الشعبي، انتقل السلاح من خارج القانون إلى داخل الشرعية الشعبية والدينية، وأصبح يُنظر إليه كـ “سلاح مقدس” أنقذ البلاد من الزوال، وهذا التاريخ هو ما يجعل المواطن اليوم يخشى نزع السلاح، فهو لا يريد أن يُكرر تجربة الانكشاف التي دفع ثمنها دماً في 2014.

 

قوات الجيش التركي على الحدود التركية العراقية
قوات الجيش التركي على الحدود التركية العراقية

 

تحدي الجغرافيا الشمالية– الموصل وكركوك في مهب الأطماع

في ظل التوترات المستمرة، يبرز التواجد العسكري التركي كأكبر مبرر شعبي لاستمرار السلاح الموازي:

 

  1. سيناريو قضم الأرض والسيادة المختبرة: يراقب العراقيون القواعد العسكرية التركية الثابتة والضربات الجوية المستمرة، ويتساءلون بمرارة: إذا كانت الدولة عاجزة عن إخراج بضع مئات من الجنود من بعشيقة، فكيف ستحمي الموصل وكركوك إذا قررت أنقرة التمدد؟ ويرى الشارع أن السلاح العقائدي يمثل قوة ردع خشنة غير مقيدة بالبروتوكولات الدبلوماسية التي تكبل يد الحكومة.

  2. الموصل وكركوك كأهداف استراتيجية: يسود اعتقاد بأن نزع السلاح في هذه المناطق تحديداً سيعطي إشارة ضعف للجوار، فالمواطن في هذه المدن يخشى أن يكون الجيش والشرطة عرضة لضغوط سياسية تمنعهم من المواجهة، مما يجعل السلاح المحلي (العشائري والفصائلي) هو الضمانة الميدانية الوحيدة لمنع تغيير هوية هذه المدن أو احتلالها.

 

أبو محمد الجولاني – أحمد الشرع

 

الخاصرة السورية– نظام الجولاني وخلايا الظل

التطورات الدراماتيكية في الجغرافيا السورية أعادت إحياء مخاوف تصدير الإرهاب:

  1. من داعش إلى الجولاني: يراقب العراقيون بحذر صعود نظام الجولاني في سوريا، ويخشون أن يتحول هذا الكيان إلى قاعدة إسناد لوجستي ومعنوي للخلايا النائمة في بعض المناطق والمحافظات، فالخوف الشعبي هو من التهديد الهجين، قوى نظامية في سوريا تدعم عصابات غير نظامية في العراق.

  2. سيكولوجية الأمن الوقائي: فيتساءل العراقيون “هل يستطيع الجيش العراقي القيام بضربات استباقية خلف الحدود دون إذن دولي؟“، وبما أن الإجابة غالباً ما تكون “لا”، فإنهم يرون في السلاح الموازي ضرورة للقيام بمهمات الأمن الوقائي التي تعجز عنها الدولة الرسمية، ونزع السلاح هنا يُفسر شعبياً على أنه فتح للأبواب أمام ريح السموم القادمة من خلف الحدود السورية.

 

الضمانات غير التقليدية– البعد الديني والاجتماعي

يحتاج العراق إلى ضمانات تتجاوز النصوص القانونية والوعود السياسية، لتلامس وجدان المواطن القلق:

  1. فشل الضمانات الورقية: المواطن العراقي لا يثق بالاتفاقيات الأمنية، لأنه رأى كيف تهاوت في لحظات الحقيقة، وهو يبحث عن ضامن عقائدي وديني، فالسلاح المرتبط بالفتوى التاريخية يمنحه شعوراً بالسكينة الروحية واليقين بأن المقدسات لن تترك مرة أخرى لقمة سائغة للإرهاب.

  2. الدولة بوصفها كفيل الكرامة: في الثقافة الاجتماعية العراقية، السلاح مرتبط بـالعرض والأرض، وإن نزع السلاح من الفرد دون تقديم دولة قوية وعادلة تحمي كرامته يجعله يشعر بالمهانة، فالدولة يجب أن تكون هي الحصن الذي يغني المواطن عن بندقيته، وليس الخصم الذي ينتزعها منه ليتركه مكشوفاً.

  3. يرى المواطن العراقي صور التخلي ووقفة المتفرج بصورة مستمرة من قبل رعاة الانسانية وحقوق المواطن الدوليين، وحتى من قبل الحكومات العربية تجاه ما يحدث في غزة فضلا عما تتعرض له كثير من الشعوب الاسلامية او الضعيفة، وذلك يؤكد غياب الضمانات الحقيقية للاستهتار بارواح الابرياء وسلب كرامتهم، لذا تتأكد رؤية المواطن العراقي في حاجته الى ضامن وطني عقائدي.

 

جدلية السلاح– بين سندان الفوضى ومطرقة الضرورة

 

بعض المواطنين العراقيين يعيش حالة من الانفصام الإجباري تجاه السلاح:

فمن الإيجابيات الملموسة هي تصريح الجمهور الاكبر من العراقيين أن لولا السلاح الموازي لما صمدت بغداد في 2014. هذا السلاح وفر توازن رعب شعبي منع استباحة الحقوق، وخلق حالة من الاكتفاء الذاتي الأمني حين كانت الدولة في أضعف حالاتها.

أما السلبيات المدمرة– كما يراها آخرون- في المقابل، فيعتقد المواطن أن هذا السلاح أدى لانتشار الجريمة، وتعطيل التنمية، وحول المدن لساحات تسلح متفاقمة والسلاح المنفلت قتل مفهوم المواطنة وجعل القوة فوق الحق ويتضح هنا الخلط بين سلاح الفتوى والجهاد وسلاح العنف والجريمة والعنف العشائري المسلح.

 

الرهان على دولة تطمئن لا دولة تجرد

إن هذه التساؤلات التي تتردد في الشارع العراقي تعكس حقيقة واحدة هي أن العراقيين يبحثون عن أمان لا عشاق فوضى، وإنهم يخشون أن يكون نزع السلاح مقدمة لضعف استراتيجي يجعل الموصل وكركوك لقمة سائغة للجوار، ويجعل الحدود الغربية مستباحة لخلايا الجولاني.

إن العبور من فخ التاريخ نحو الدولة الرشيدة يتطلب بناء دولة الضمانات الشاملة، والدولة التي يشعر فيها المواطن أن كرامته محمية بالعدل، ومقدساته مصونة بالقانون، وسيادته محروسة بجيش لا ينكسر ولا ينسحب، وما لم يتحقق هذا الضمان فوق التقليدي، سيبقى السلاح هو الرفيق الأوفى للعراقي في زمن القلق، وستبقى دعوات نزعه تُقابل بالارتياب بوصفها فخاً استراتيجياً قد يدفع العراقيون ثمنه مرة أخرى.

 

 إقرأ أيضاً : حين تضع القوة سلاحها .. نزع السلاح الطوعي في العراق

 إقرأ أيضاً : حين تضع القوة سلاحها .. نزع السلاح الطوعي في العراق

 

الأستنتاجات

  1. السلاح عقد أمني بديل: الاستنتاج الأول هو أن السلاح خارج إطار الدولة في العراق لم يعد مجرد ظاهرة عسكرية، بل تحول إلى عقد اجتماعي وأمني اضطراري، فالمواطن لا يتمسك بالسلاح رغبةً في التمرد، بل لأنه يراه الضامن الوحيد في بيئة جيوسياسية متفجرة، لذا فإن أي عملية لنزع السلاح لن تنجح إذا تم التعامل معها كإجراء أمني بحت، بل يجب التعامل معها كعملية إعادة بناء ثقة شاملة.

  2. فجوة الردع السيادي: هناك قناعة شعبية متجذرة بأن الدولة العراقية تمتلك قوة لضبط الداخل لكنها تفتقر إلى الردع الكافي للخارج، فالاستنتاج هنا هو أن التهديد التركي في الشمال، والتحولات في سوريا (نظام الجولاني) يمنحان السلاح الموازي مشروعية وظيفية، طالما بقيت الدولة عاجزة عن تقديم إجابة عسكرية مقنعة للأطماع الإقليمية، سيبقى الشارع يرى في السلاح غير النظامي ضرورة استراتيجية لا يمكن التفريط بها.

  3. خطر الانكشاف الاستراتيجي: نزع السلاح في التوقيت الخاطئ أو دون “بديل صلب” قد يؤدي إلى كارثة أمنية. الاستنتاج الاستراتيجي يحذر من أن تجريد القوى المحلية والعشائرية من سلاحها في ظل وجود خلايا نائمة ومحيط ملتهب قد يؤدي إلى تكرار سيناريو 2014، فالمواطن يخشى أن تتحول الدولة إلى دولة منزوعة الأنياب، قد تكون قوية على مواطنيها وضعيفة أمام أعدائها.

  4. الحاجة لضمانات غير تقليدية: فالاستنتاج هنا يشير إلى أن المؤسسات التقليدية (الجيش والشرطة) لم تصل بعد إلى مرحلة العقيدة الوطنية الجامعة التي تطمئن المكونات كافة، لذا يحتاج العراق إلى ضمانات غير تقليدية.

  5. التحول من نزع السلاح إلى الاحتواء والدمج: والاستنتاج النهائي يشير إلى أن فكرة نزع السلاح القسري في بيئة كالعراق هي فكرة انتحارية قد تؤدي لحرب أهلية، والخيار الاستراتيجي الأنجع هو الاحتواء والدمج الذكي، أي تحويل القدرات القتالية للمجتمع إلى طاقة نظامية تحت لواء الدولة، مع ضمان سيادة القانون بشكل لا يجعل طرفاً يشعر بالاستهداف أو الضعف أمام طرف آخر.

 

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى