إعداد: مركز الفيض العلمي لاستطلاع الرأي والدراسات المجتمعية
يعد الشباب العراقي شريحة حيوية في المجتمع، إذ يمثلون غالبية القوة الفكرية والطاقات الإنتاجية، وهم المحرك الأساسي للتغيير الاجتماعي والسياسي والثقافي، غير أن هذه الفئة، وبسبب ما مرت به البلاد من صدمات سياسية، وحروب متعاقبة، وأزمات اقتصادية متواصلة، أصبحت عرضة لتبني أفكار لا عقلانية تؤثر على تفكيرهم وسلوكهم.
إن الأفكار اللاعقلانية وفق تعريف ألبرت إيليس (Ellis, 1962) في إطار العلاج العقلاني الانفعالي السلوكي، هي “معتقدات جامدة وغير منطقية يتشبث بها الفرد، وتؤدي إلى انفعالات شديدة وسلوكات غير فاعلة”، وهي تختلف عن الأخطاء المعرفية العابرة، إذ تمتاز بالجمود والتكرار، وتصبح جزءًا من نمط التفكير اليومي، كذلك يشير عالم النفس آرون بيك (Beck, 1976) إلى أن التشوهات المعرفية، مثل التعميم المفرط، والتهويل، وقراءة الأفكار، تعمل على تشويه الواقع وتحويله إلى مصدر قلق دائم، فتعيق قدرة الفرد على التفكير الموضوعي واتخاذ القرارات الصائبة، وفي هذا السياق، ويمكن القول إن “المعاناة الإنسانية غالبًا تنشأ من إسقاط المخاوف والخيالات على الواقع، بدل النظر إليه كما هو”، وهو ما يتضح في حالة الشباب العراقي الذين يتأثرون بسهولة بالخبر الزائف أو بالتوقعات المبالغ فيها.
وفي السياق الاجتماعي، يُظهر إميل دوركهايم أن الأزمات الجماعية والتغيرات الهيكلية تؤدي إلى شعور باللايقين والانفصال الاجتماعي، وهو ما يزيد قابلية الشباب لتبني أفكار لا عقلانية كرد فعل نفسي واجتماعي لحماية الذات من الغموض والخطر المتوقع، وهذا يتجلى في عراق اليوم حيث يشهد عدد كبير من الشباب انعدام الاستقرار النفسي والاجتماعي، ولاسباب عدة منها تراجع التعليم تفشي الجهل بسبب ارتفاع معدلات البطالة، وتأثيرات الحروب السابقة، مما يجعلهم أكثر عرضة لتفسير الأحداث بأسلوب متطرف وغير موضوعي.
تتغذى هذه الأفكار اللاعقلانية من عدة مصادر منها التنشئة التقليدية التي تعزز الطاعة على السؤال، ووسائل الإعلام التقليدية والجديدة التي تقدم محتوى مثيرًا أكثر من كونه موضوعيًا، والتجارب الحياتية المليئة بالصدمات، والتي تؤدي إلى تعزيز الخوف وعدم اليقين، فيقول جون ديوي: “التجربة الحية هي أفضل معلم، لكن عندما تُستبدل الخبرة بالتخوف والفرضيات المسبقة، يتحول التفكير إلى وهم يحاصر العقل”، ومن خلال هذا الإطار، يصبح من الممكن فهم الشباب العراقي كمجتمع معرض للأفكار اللاعقلانية، ليس فقط على مستوى الفرد، بل على مستوى الثقافة الجمعية التي تنتج نمطًا من التفكير يخلط بين الواقع والتوقعات المبالغ فيها، ويؤثر على القرارات الفردية والجماعية.
المظاهر المعرفية للأفكار اللاعقلانية لدى الشباب العراقي
تُعد المظاهر المعرفية من أبرز علامات التفكير اللاعقلاني، حيث تتجلى في الطريقة التي يُفسّر بها الشباب الأحداث والظواهر المحيطة بهم، وهذه المظاهر تشوّه إدراك الواقع وتولد قلقًا مستمرًا، كما يوضح آرون بيك Beck, 1976 “التشوهات المعرفية ليست مجرد أخطاء مؤقتة، بل نمط ثابت يسيطر على تفسير الفرد للأحداث”.
-
التفكير التآمري (Conspiratorial Thinking): يميل بعض الشباب العراقي إلى تفسير الأحداث الكبرى والصغيرة على أنها جزء من مؤامرة ضدهم، وعلى سبيل المثال فان ارتفاع أسعار السلع أو تغييرات في سياسات الدولة يُفسَّر على أنها مؤامرة ضد الشباب، دون النظر للعوامل الاقتصادية أو الإدارية الواقعية، والتفسيرات الشعبية السريعة حول القرارات الحكومية غالبًا ما تحمل طابعًا تآمريًا، مما يعزز الشعور بعدم الأمان والخوف المستمر.
إن “الإنسان يميل إلى اختلاق قوى خفية تفسر ما يراه خارج سيطرته”، وهو ما يفسر انتشار فكرة المؤامرة بين الشباب الذين يشعرون بعدم القدرة على التأثير في محيطهم.
-
التفكير الثنائي (All-or-Nothing Thinking): يمثل هذا النمط أحد أكثر المظاهر شيوعًا كرؤية الأمور على أنها أبيض أو أسود، نجاح أو فشل مطلق، خير مطلق أو شر مطلقن وعلى سبيل المثال يقول بعض الشباب: “نعمل على اصلاح كل شي بالتغيير التام، أو كل شيء يضيع وينهار”، متجاهلين التحسن الجزئي أو الجهود التدريجية للإصلاحن وهذا النوع من التفكير يجعل الشباب غير قادرين على تقبل التغيير التدريجي أو النجاحات الصغيرة، مما يولد الإحباط المستمر.
إن هذا النمط من التفكير، والذي يسمى “الواجب الصارم” (Musturbation)، هو أحد أهم أسباب القلق والانفعال المفرط، حيث يُقيد الفرد بمعايير مثالية مستحيلة.
-
الاستنتاج بدون دليل (Jumping to Conclusions): يمثل هذا النمط التسرع في الحكم على الأشخاص أو الأحداث دون التحقق من الواقع، كما في افتراض أن زميلًا رفض المشاركة في مشروع ما لأنه “ضدي” أو “ضدنا”، مع أن السبب قد يكون موضوعيًا بحتًا (ضغط العمل أو عدم التفرغ)، وفي البيئة العراقية هذا يُغذي سوء الفهم بين الشباب ويزيد الانقسامات الاجتماعية.
إن هذا النمط من التفكير يتعارض بشكل مباشر مع المنهج القرآني الذي يدعو إلى التثبت والتحقق قبل الحكم أو النشر، حيث يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ (الحجرات: 6)، وهذا النص يمثل أساساً راسخاً لضرورة التفكير الايجابي في تلقي الأخبار.
وفق كل من بيك وإيليس، هذا النمط يؤدي إلى قراءة نوايا الآخرين بشكل سلبي دائمًا، ويولد التوتر والعدائية في العلاقات.
-
التهويل والتشاؤم العام (Catastrophizing): التهويل هو عادة فكرية يرى صاحبها أسوأ النتائج دائمًا محتملة وواقعة، حتى لو لم تكن احتمالية حدوثها كبيرة، مثلا “إذا فشلت في امتحان الجامعة، سينتهي مستقبلي بالكامل”، أو “أي تغيير في الحكومة يعني انهيار البلد”
هذه الظاهرة شائعة لدى الشباب العراقي بسبب خبراتهم المتراكمة مع الصدمات الاجتماعية والسياسية، كما يشير دوركهايم إلى أن الأزمات الاجتماعية تؤدي إلى شعور دائم باللايقين ويزيد من ميل الأفراد لتفسير الأحداث بشكل متطرف.
-
الاعتماد على القصص الشعبية والاساطير بدل البيانات (Overreliance on Anecdotes): يلجأ الشباب أحيانًا إلى القصص غير المؤكدة أو الشائعات، بدل الاعتماد على البيانات الموثوقة، كمثل تصديق أخبار عن “فرص العمل المخفية” أو “التعيينات الحكومية السرية” دون الرجوع إلى المصادر الرسمية.
هذا النمط يعزز الشعور بالغموض وعدم اليقين ويقود إلى اتخاذ قرارات خاطئة، فجون ديوي يقول: “عندما تحل المخاوف والافتراضات محل الخبرة المباشرة، يصبح التفكير وهميًا ومحاصرًا بالأوهام”، وهو ما يفسر تأثير الشائعات والمعلومات غير الدقيقة على الشباب العراقي.
يمكن أن نستخلص الى: تتضح المظاهر المعرفية للاعقلانية في ميل الشباب العراقي إلى التفسير المبالغ فيه، التعميم السريع، والتمسك بالأساطير أو التفسيرات التآمرية، وهذه الأنماط تعزز الخوف المستمر، وتقلل قدرة الشباب على التفكير الموضوعي واتخاذ القرارات الواقعية، مما يجعلهم عرضة للضغط الاجتماعي والتأثير الإعلامي السلبي.

المظاهر العاطفية للأفكار اللاعقلانية لدى الشباب العراقي
تتجلى الأفكار اللاعقلانية ليس فقط في المعالجة المعرفية للأحداث، بل في استجابات الشباب العاطفية، حيث تلعب المشاعر دورًا مركزياً في تكريس التفكير المشوه وتأجيج الخوف والقلق، كما يشير ألبرت إيليس، “الأفكار السلبية والمعتقدات اللاعقلانية تولد الانفعالات المفرطة التي تعيق القدرة على التصرف العقلاني”.
-
الخوف المفرط من الفشل: يُعد الخوف من الفشل من أبرز مظاهر التفكير اللاعقلاني العاطفي لدى الشباب العراقي، ومثال ذلك أن كثير من الشباب يترددون في البدء بمشاريع صغيرة أو التقدم لوظائف جديدة، معتبرين أي خطوة غير مضمونة نوعًا من المخاطرة الكارثية، وهذا بالرغم من وجود فرص حقيقية للنجاح.
من منظور نظرية بك المعرفية، هذا الخوف يأتي من التوقعات غير الواقعية للنتائج، حيث يبالغ الفرد في تقدير احتمالية الفشل ويقلل من قدرته على التكيف مع النتائج المتنوعة، كما يشير بعضهم: “الخوف من تجربة الواقع يعطل التعلم من التجربة نفسها”، ما يعني أن التردد المستمر يحول الشباب إلى جمهور سلبي يعتمد على التوقعات السلبية بدل المبادرة العملية.
-
الإحباط السريع والقلق المستمر: يظهر الإحباط السريع عندما يواجه الشباب عراقيل أو تأخيرات، حتى لو كانت طبيعية أو متوقعة، كمثال تأخر إعلان نتائج امتحان أو مشروع جامعي يُفسَّر على أنه “فشل مطلق” أو “دليل على الظلم الاجتماعي”، مما يزيد القلق والتوتر.
يصف بعضهم هذا الميل إلى التهويل بأنه انعكاس “لإسقاط الخوف الداخلي على العالم الخارجي”، حيث يحوّل العقل الحدث الطبيعي إلى تهديد كبير يتطلب انفعالًا مستمرًا.
-
الغضب والانفعال المفرط: تمثل الانفعالات المبالغ فيها جزءًا أساسيًا من التفكير اللاعقلاني، فهي تظهر كرد فعل فوري لأي حدث سلبي، كمثال غضب الشباب عند سماع شائعة عن فساد أو ظلم في المؤسسات الحكومية، دون انتظار التحقيق أو التحري عن الحقائق، مما يؤدي أحيانًا إلى تفاقم النزاعات بين الأفراد أو الجماعات.
وفي هذا الصدد، يؤكد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) على قيمة العقل والروية في مواجهة الانفعال، حيث يرد عنه: “العَقلُ حِسامٌ قاطِعٌ، فَأَحْمِلْهُ عَلى مُنازَلَةِ الهَوى وَمُشاتَمَةِ العَصبِيَّةِ” وهذا الحديث يشير إلى أن العقل هو الأداة الفعالة التي يجب استخدامها لمواجهة الانفعالات المفرطة (الهوى والعصبية).
إن الانفعالات المفرطة نتيجة التشوهات المعرفية تجعل الفرد “يعيش في حلقة من التوتر المستمر، ويصعب عليه اتخاذ القرارات الهادئة”.
-
التعلق العاطفي بالمنقذ الفردي: يميل بعض الشباب إلى البحث عن شخصية سياسية أو اجتماعية تُنقذهم دفعة واحدة، بدلاً من تبني أسلوب تفكير مستقل، كمثال: تبني آراء شخصية مشهورة على وسائل التواصل الاجتماعي بشكل أعمى، أو الاعتماد على وعود مؤسساتية غير قابلة للتحقق.
يرى العلماء أن هذا السلوك يعكس حاجة الإنسان للأمان النفسي والاعتماد على الآخرين لتخفيف القلق، لكنه يؤدي إلى ضعف التفكير النقدي والاستقلالية الذهنية.
-
الانفعال الجمعي (Herd Emotional Response): تتأثر مشاعر الشباب أيضًا بالسلوك الجماعي، خاصة في البيئات الافتراضية، كمثال الانخراط في حملات إلكترونية ضد مؤسسة أو فرد بناءً على شائعة واحدة، أو نشر أخبار بلا تحقق لمجرد أنها متداولة بين الأصدقاء، مما يضخم التوتر الجماعي.
وقد أشير إلى أن الأزمات الجماعية تزيد من ميل الأفراد للانفعالات المشتركة، ويصبح من الصعب تمييز العاطفة الشخصية عن العاطفة الجمعية، مما يعزز اللاعقلانية في السلوك الجماعي.
يمكن أن نستخلص أن: تتضح المظاهر العاطفية للأفكار اللاعقلانية في الخوف المفرط، الإحباط السريع، الغضب والانفعال المبالغ فيه، التعلق بالمنقذ الفردي، والانفعال الجمعي. هذه المظاهر تُضعف قدرة الشباب على التفاعل العقلاني مع الأحداث اليومية، وتزيد من ميلهم لتبني الحلول السريعة وغير الواقعية، ما يعزز بدوره انتشار الأفكار اللاعقلانية في بيئتهم الاجتماعية.
المظاهر السلوكية للأفكار اللاعقلانية لدى الشباب العراقي
تظهر الأفكار اللاعقلانية ليس فقط في المعرفة أو العاطفة، بل في السلوكات اليومية للشباب العراقي، حيث تؤثر على قراراتهم، ممارساتهم الاجتماعية، وطريقة تفاعلهم مع البيئة المحيطة، كما يوضح ألبرت إيليس: “المعتقدات اللاعقلانية لا تبقى حبيسة الذهن، بل تتجسد في أفعال وخيارات غير فعالة، وتولد سلسلة من النتائج السلبية“.
-
الهروب من القرار (Avoidance of Decision-Making): من أبرز السلوكات الناتجة عن الأفكار اللاعقلانية هو تأجيل أو تجنب اتخاذ القرارات المهمة، كمثال يظل الشباب مترددين بين السفر أو البقاء في العراق، أو بين اختيار تخصص جامعي أو مهني، بسبب شعور دائم بعدم اليقين أو الخوف من الفشل.
آرون بيك يشير إلى أن تجنب القرار يعكس “التشوه المعرفي المتمثل في توقع أسوأ النتائج”، ما يمنع الفرد من تجربة الواقع واكتساب الخبرة العملية.
-
الانجراف وراء السلوك القطيعي والجماعي (Herd Behavior): يميل الشباب إلى اتباع ما تفعله الجماعة دون تحليل أو تقييم شخصي، كمثال الانخراط الأعمى في تريندات وسائل التواصل الاجتماعي، أو المشاركة في حملات جماعية ضد مؤسسات أو أشخاص بناءً على شائعة.
هذا السلوك يبرز أثر الضغط الاجتماعي ويزيد من انتشار المعلومات المضللة والشائعات، ودوركهايم يؤكد أن الانفعال الجمعي في أزمات المجتمعات يعزز تصرفات غير عقلانية، ويضعف القدرة على النقد الفردي.
-
الاندفاع والمغامرات غير المحسوبة (Impulsive Behavior): ينتج عن التفكير اللاعقلاني سلوكيات متهورة أو غير مدروسة، كمثال الشباب الذين يدخلون مشاريع مالية أو تجارية دون دراسة، أو يشاركون في فعاليات احتجاجية دون تخطيط، مدفوعين بالانفعال اللحظي أو الشائعات.
إن هذا السلوك يرتبط بالتصورات المبالغ فيها والخوف من فقدان الفرص، ما يؤدي إلى قرارات سلبية وتكرار الأخطاء.
-
التكرار السلوكي للأفكار اللاعقلانية (Behavioral Reinforcement): بعض الشباب يمارسون السلوكيات اللاعقلانية بشكل دوري ومستمر، مثل مشاركة كل خبر مثير دون تحقق، أو الحكم على الأحداث بتهويل دائم.
هذا التكرار يخلق حلقة مغلقة بين الفكر والعاطفة والسلوك، بحيث يصبح الخوف والتشوهات المعرفية جزءًا من روتينهم اليومي، كما يلاحظ جون ديوي أن “التكرار السلوكي للأوهام يعززها ويحولها إلى نمط مستمر من التفكير، يصعب كسره إلا بالتجربة العملية والتحليل العقلاني”.
خلاصة المظاهر السلوكية: تظهر المظاهر السلوكية للأفكار اللاعقلانية في: تجنب القرار، الانجراف خلف الجماعة أو الترندات، التعلق بالمنقذ الفردي، الاندفاع والمغامرات غير المحسوبة، تكرار السلوكيات اللاعقلانية بشكل دوري، وكل هذه السلوكات تعكس تفاعل العقل مع الخوف والضغط النفسي والاجتماعي، وتزيد من صعوبة مواجهة المشاكل بطريقة موضوعية وعقلانية، كما أنها تعكس أثر البيئة العراقية المضطربة على عقلية الشباب.
مصادر تغذية الأفكار اللاعقلانية لدى الشباب العراقي
تتعدد العوامل التي تغذي التفكير اللاعقلاني لدى الشباب العراقي، فهي ليست مرتبطة بالفرد فقط، بل تشمل البيئة الاجتماعية والسياسية والثقافية والتعليمية والإعلامية. كما يؤكد دوركهايم، الفرد لا يعيش منعزلاً عن مجتمعه، فالظروف الاجتماعية تُشكل وعيه وسلوكه، وتزيد من ميله لتبني أنماط تفكير مشوهة في أوقات الأزمات.
-
التنشئة الاجتماعية والثقافية: كثير من الشباب يتربون في بيئات تشجع الطاعة على السؤال، وتقلل من حرية التفكير البناء أو التعبير عن الآراء المخالفة.
كما يشير جون ديوي: “التربية التي لا تعلّم التفكير الحر تُنتج أفراداً عرضة لتصديق كل ما يصل إليهم من دون تقييم منطقي”.
-
الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي: تلعب وسائل الإعلام التقليدية والجديدة دورًا مركزيًا في تشكيل الأفكار والمشاعر، وغالبًا ما تكون محتوى الإثارة والخوف أكثر من كونه موضوعيًا.
يوضح العلماء أن التعرض المستمر للمحفزات المثيرة للخوف والقلق يعزز تبني المعتقدات اللاعقلانية ويجعل الفرد أكثر انفعالًا تجاه الأحداث.
-
التجربة السياسية والاقتصادية: الاضطرابات السياسية المتكررة، الحروب، البطالة المرتفعة، وانعدام الاستقرار الاقتصادي، تجعل الشباب يشعرون بالعجز والقلق المستمر، ما يفضي إلى تبني أفكار لا عقلانية.
وفق دوركهايم، الأزمات الجماعية تؤدي إلى شعور بالانفصال الاجتماعي، فيزداد ميل الشباب للبحث عن حلول سريعة أو الانخراط في تفسيرات مبالغ فيها، مما يغذي التفكير اللاعقلاني.
-
الصدمات الحياتية والذاكرة الجمعية: الصدمات السابقة، مثل الحروب والأزمات الإنسانية، تؤثر على الذاكرة الجمعية للشباب، مما يعزز تفسير الأحداث المستقبلية بشكل سلبي.
يرى بعض الباحثين أن العقل البشري يميل إلى “إسقاط المخاوف القديمة على الواقع الجديد”، وهذا يفسر التشاؤم المستمر لدى فئات واسعة من الشباب.
-
ضعف المهارات التحليلية والعلمية: التعليم الذي لا يركز على التفكير النقدي والتحليل العلمي يترك الشباب عرضة لتصديق المعلومات المشوهة والخرافات.
جون ديوي يؤكد أن “التفكير الناقد هو درع العقل ضد الأفكار المضللة، وغيابه يجعل الفرد ضحية للخوف والقلق الجماعي”.
خلاصة مصادر تغذية الأفكار اللاعقلانية: يمكن القول إن التفكير اللاعقلاني لدى الشباب العراقي نتاج تفاعل معقد بين الفرد وبيئته، ويغذيه: التنشئة التقليدية والتعليم غير النقدي، الإعلام والمحتوى المثير للقلق، الخبرات السياسية والاقتصادية المضطربة، الصدمات الحياتية والذاكرة الجمعية، وضعف المهارات النقدية والعلمية. هذه العوامل تتفاعل مع بعضها لتخلق بيئة مثالية لنمو الأفكار اللاعقلانية، مما يؤثر على المعرفية، العاطفة، والسلوك اليومي للشباب.
الآثار النفسية والاجتماعية للأفكار اللاعقلانية لدى الشباب العراقي
الأفكار اللاعقلانية لا تبقى حبيسة الذهن أو المشاعر، بل تترجم إلى آثار ملموسة على المستوى النفسي والاجتماعي، تؤثر على سلوكيات الشباب، علاقاتهم بالمجتمع، وقدرتهم على التأقلم مع الواقع، كما يشير ألبرت إيليس: “المعتقدات اللاعقلانية تُولّد انفعالات مفرطة وسلوكيات مضطربة تؤدي إلى تفاقم المشكلات بدلاً من حلها”.
أولاً: الآثار النفسية:
-
القلق المستمر والخوف المتزايد: تفسير الأحداث بطريقة مبالغ فيها أو تآمرية يولد شعورًا دائمًا بالتهديد، مثال ذلك الشباب العراقي يبالغون في تقييم المخاطر اليومية، مثل السفر أو الانخراط في وظائف جديدة، مما يزيد شعورهم بالعجز النفسي، آرون بيك يشير إلى أن التشوهات المعرفية تجعل الفرد يعيش في حلقة من القلق المستمر، ويقلل من قدرته على التعامل مع الواقع بفاعلية.
-
ضعف الثقة بالنفس: المعتقدات اللاعقلانية، مثل التفكير الثنائي أو التهويل، تقلل من قدرة الشباب على تقييم قدراتهم الحقيقية. مثال: رفض المشاركة في مسابقات أكاديمية أو تدريبية بسبب “الخوف من الفشل المطلق” وأن التجربة الواقعية تبني الثقة، لكن إذا استبدل الفرد المخاوف بالخبرة، يظل شعور العجز مستمرًا.
-
الإحباط المستمر والاكتئاب الجزئي: تفسير الأحداث السلبية على أنها كارثة دائمة يولد شعورًا بالإحباط، مما قد يؤدي إلى أعراض اكتئابية أو فقدان الحافز، مثال ذلك تأخر إعلان نتائج امتحانات الجامعة أو المشاريع الجامعية يفسره بعض الشباب على أنه “فشل شامل”، مما يزيد من التوتر النفسي.
ثانيًا: الآثار الاجتماعية:
-
ضعف القدرة على التواصل الفعال: التفكير اللاعقلاني يؤدي إلى سوء الفهم وتفسير نوايا الآخرين بشكل سلبي، مثال ذلك النزاعات بين الأصدقاء أو الزملاء نتيجة افتراضات غير صحيحة حول نوايا الآخرين. بيك وإيليس يوضحان أن التشوهات المعرفية تؤثر مباشرة على جودة العلاقات الاجتماعية.
-
انتشار الشائعات والمعلومات المضللة: الاعتماد على القصص الشعبية والشائعات يؤدي إلى تداول معلومات غير دقيقة بين الشباب، ما يفاقم التوتر الاجتماعي ويضعف الثقة بين الأفراد. مثال ذلك انتشار شائعات عن فرص العمل أو القرارات الحكومية دون تحقق من المصادر الرسمية.
-
تراجع المشاركة المجتمعية الإيجابية: الانفعال المستمر والخوف من الفشل أو الخسارة يدفع الشباب إلى الانسحاب من العمل التطوعي أو المشاريع المجتمعية، وان الانفصال الاجتماعي الناتج عن الأزمات يزيد من العزلة الفردية ويقلل من قدرة الشباب على المشاركة الفاعلة في المجتمع.
-
الانقسامات والانفعالات الجماعية: الانفعال الجمعي المرتبط بالشائعات والأخبار المثيرة يؤدي إلى تضخيم التوتر الاجتماعي بين الجماعات الشبابية، مثال ذلك المشاركة العاطفية المفرطة في حملات إلكترونية احتجاجية دون تخطيط مسبق أو تقييم موضوعي، مما يؤدي أحيانًا إلى تصاعد النزاعات أو الانقسامات.
خلاصة الآثار النفسية والاجتماعية: الأفكار اللاعقلانية تُولّد حلقة متشابكة من القلق والخوف، ضعف الثقة بالنفس، الإحباط، نزاعات العلاقات، وتراجع المشاركة المجتمعية، وهذه الآثار تجعل الشباب العراقي أكثر عرضة للضغط النفسي والاجتماعي، ويزيد من صعوبة اتخاذ قرارات عقلانية أو مواجهة تحديات الحياة اليومية. كما يؤكد ألبرت إيليس، مواجهة هذه الأفكار مبكرًا ضروري لتقليل الأضرار النفسية والاجتماعية، وإعادة بناء قدرة الشباب على التفكير المستقل والفاعل.
الاستراتيجيات العقلانية للتعامل مع الأفكار اللاعقلانية لدى الشباب العراقي
تواجه المجتمعات تحديًا مزدوجًا: الوعي بوجود الأفكار اللاعقلانية لدى الشباب، وتطوير أدوات عملية للتقليل من آثارها على المستوى الفردي والجماعي. كما يشير ألبرت إيليس، “التدخل العقلي المبكر وإعادة الهيكلة المعرفية هما السبيل لتقليل الانفعالات السلبية وتحسين السلوك”.
-
تعزيز التفكير التحليلي والمنهجي: تعليم الشباب طرائق التحليل الناقد للمعلومات، وتشجيعهم على التحقق من الأخبار والشائعات قبل تصديقها أو مشاركتها.
إن الدعوة للتفكير العميق والتأمل هي ركن أساسي في المنهج الإسلامي، حيث يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ (آل عمران: 190)، وهذا يؤكد على أن العقل (الألباب) هو أداة النظر والتفكر والتحليل، وهو ما يسعى المقال إلى تعزيزه لمواجهة السطحية واللاعقلانية.
إن “التربية التي تعزز التفكير الناقد تمنح الفرد القدرة على مواجهة الأفكار المشوهة بموضوعية وثقة”.
-
التعرف على التشوهات المعرفية ومواجهتها: تعليم الشباب تمييز الأفكار اللاعقلانية مثل التهويل، التفكير الثنائي، أو الانفعال المفرط، وتقديم أدوات للتعامل معها.
إن “الوعي بالتشوهات المعرفية هو الخطوة الأولى لتغيير الانفعالات والسلوكيات السلبية”.
-
إدارة الانفعالات العاطفية: تعليم الشباب طرائق التحكم في الانفعالات الناتجة عن الأفكار اللاعقلانية، مثل القلق، الغضب، أو الخوف المفرط.
إن “التحكم في الانفعال لا يعني قمع المشاعر، بل تحويلها إلى استجابة عقلانية مدروسة”.
-
تعزيز السلوكات الإيجابية والمبادرة العملية: تشجيع الشباب على المبادرة في المشاريع الصغيرة، التطوع، والمشاركة المجتمعية بدل الانسحاب أو الاعتماد على الآخرين كمنقذين.
إن “التجربة العملية المباشرة تبني القدرة على التفكير المستقل والثقة بالنفس، وتقلل تأثير الأفكار اللاعقلانية”.
-
بناء بيئة داعمة ومعلوماتية: توفير بيئة تعليمية وإعلامية شفافة تدعم الحقائق العلمية وتشجع على النقاش المفتوح، مع الحد من الأخبار المضللة والمحتوى التحريضي.
إن البيئة الاجتماعية والثقافية تؤثر مباشرة على سلوك الفرد، وبالتالي تعزيز بيئة معلوماتية عقلانية يقلل من التفكير اللاعقلاني.
خلاصة الاستراتيجيات العقلانية: يمكن للشباب العراقي مواجهة الأفكار اللاعقلانية من خلال: تعزيز التفكير النقدي والمنهجي للتحقق من المعلومات، التعرف على التشوهات المعرفية ومواجهتها باستخدام أدوات علمية، إدارة الانفعالات العاطفية بالطرق العقلانية، تشجيع المبادرات العملية والسلوك الإيجابي بدل الاعتماد على المنقذ الفردي، وبناء بيئة داعمة ومعلوماتية شفافة تقلل تأثير الشائعات والخوف الجماعي، وتطبيق هذه الاستراتيجيات لا يعزز قدرة الشباب على مواجهة الأفكار اللاعقلانية فحسب، بل يسهم في تطوير عقلية أكثر نضجًا، ووعيًا، وقدرة على التكيف مع تحديات الحياة في العراق.
المصادر
القرآن الكريم
-
إيليس، أ. (2000). العلاج العقلاني الانفعالي السلوكي: مبادئ وتطبيقات. ترجمة: د. محمد خيري. القاهرة: دار الفكر العربي.
-
بيك، أ. (2001). العلاج المعرفي واضطرابات الانفعال. ترجمة: د. أحمد عبد الله. عمان: دار الفكر.
-
دوركهايم، إ. (2003). الانتحار: دراسة سوسيولوجية. ترجمة: د. علي حسن. بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
-
ديوي، ج. (2007). التربية والتفكير النقدي. ترجمة: د. سامي خليل. القاهرة: دار المعارف.
-
شوبنهاور، أ. (2005). العالم كإرادة وتمثل. بغداد: دار الكتب العلمية.
-
Ellis, A. (1962). Reason and emotion in psychotherapy. New York: Lyle Stuart.
-
Beck, A. T. (1976). Cognitive therapy and the emotional disorders. New York: International Universities Press.
-
Dewey, J. (—). Democracy and education. New York: Macmillan.
-
Durkheim, É. (1997). Suicide: A study in sociology (J. A. Spaulding & Simpson, Trans.). New York: Free Press.
-
Schopenhauer, A. (1969). The world as will and representation (E. F. J. Payne, Trans.). New York: Dover Publications.
Loading...
زر الذهاب إلى الأعلى