سياسة السلام كخيار استراتيجي في السياق العراقي: قراءة في محددات الواقع وتداعيات تسليم السلاح
إعداد: مركز الفيض العلمي لاستطلاع الرأي والدراسات المجتمعية
أولًا: السلام كخيار مفروض في سياق الأمر الواقع
أضحى الاقتصار على خيار السلام، بوصفه المسار الاستراتيجي الوحيد، سمة بارزة في المشهد السياسي العراقي، ليس نتيجة انعدام البدائل النظرية، بل استجابةً لسياسة الأمر الواقع التي تروّج لمعادلة ثنائية مفادها: إما السلم أو الحرب، وفي ظل محدودية القدرات المادية الرسمية، وتعقيد الظروف الموضوعية الداخلية والإقليمية، يُقدَّم السلام باعتباره الخيار الأقل كلفة، والأكثر قابلية للاستمرار، في مقابل حرب لا تتوافر شروط خوضها أو ضمان نتائجها.
ثانيًا: الإرهاق المجتمعي وأثر الحروب المتراكمة
مرّ الشارع العراقي بسلسلة طويلة من الحروب والأزمات، تركت آثارًا عميقة على الفرد والمجتمع، وأسهمت في إنهاك البنية الاجتماعية والأخلاقية، وقد انعكس ذلك في بروز سلوكيات غير مقبولة اجتماعيًا، أسهمت في إضعاف اللحمة الاجتماعية، وتفكيك الهوية الوطنية الجامعة، وتراجع روح المواطنة، كما غذّت هذه الأوضاع النزعات الطائفية والمذهبية، وأنتجت حالة من انعدام الثقة المجتمعية بين الأفراد والمكونات.
ثالثًا: مرحلة ما بعد داعش وتحوّلات الثقة بالقيادات
أفرزت مرحلة الاستقرار النسبي التي أعقبت هزيمة تنظيم داعش تحوّلات ملموسة في أنماط السلوك السياسي والاجتماعي داخل المجتمع العراقي. فقد برزت قيادات سياسية وفصائلية ركزت في جزء من أنشطتها على تعظيم الموارد والنفوذ، أحيانًا بما يتعارض مع المعايير المؤسسية أو عبر ممارسات شابها الفساد أو المحسوبية الحزبية. وأسهمت هذه الممارسات في تراجع مستويات الثقة والولاء من قبل قطاعات من المجتمع تجاه بعض هذه القيادات، كما انعكس ذلك جزئيًا على التماسك الداخلي داخل الفصائل نفسها.
ورغم استمرار وجود شخصيات وطنية تسعى لتعزيز التنمية المجتمعية وبناء حياة أفضل للمواطنين، إلا أن تأثيرها شهد تراجعًا نسبيًا أمام بروز ممارسات انتهازية، ما أدى إلى ترسيخ صورة نمطية سلبية عن بعض الفصائل، وقد ولد هذا الوضع لدى قطاعات واسعة من المجتمع قناعة بأن تحسين الأوضاع العامة يتطلب إعادة هيكلة هذه الكيانات أو البحث عن بدائل سياسية واجتماعية أخرى.
ومن جهة أخرى، يلاحظ وجود تأثيرات خارجية وإعلامية تعمل على إعادة صياغة صورة الفصائل في المجال العام، بما يؤدي أحيانًا إلى تقويض الانطباع الإيجابي عن تضحياتها في الدفاع عن الوطن والمقدسات، وإنتاج رؤى مجتمعية تركز على سلبيات الأداء بدل الاعتراف بالدور الوطني الذي لعبته هذه الفصائل خلال مراحل المواجهة مع التنظيمات الإرهابية.

إقرأ أيضاً:
حين تضع القوة سلاحها .. نزع السلاح الطوعي في العراق
رابعًا: تسليم السلاح والضغط الدولي
أضحت مسألة تسليم السلاح أو دمجه أو نزعه إحدى أدوات الضغط الرئيسية في السياسة الدولية تجاه العراق، ولا سيما من قبل الولايات المتحدة، التي تمتلك هامشًا واسعًا في توجيه مسارات هذا الملف، ويجري توظيف هذه القضية عبر وضع الفصائل أمام معادلة ثنائية شديدة التعقيد، قوامها: إما الانخراط في مسار تسليم السلاح، أو مواجهة احتمالات التصعيد العسكري.
ويتعزز هذا الضغط من خلال خطاب مجتمعي وإعلامي متنامٍ، يُحمِّل الفصائل مسؤولية أي تداعيات محتملة في حال رفضها هذا المسار، بما في ذلك العقوبات أو الضربات العسكرية، الأمر الذي قد لا تقتصر آثاره على الفصائل ذاتها، بل يمتد ليصيب عموم المجتمع العراقي بتداعيات أمنية واقتصادية واجتماعية، ومن شأن ذلك أن يسهم في تكريس صورة سلبية عن فصائل المقاومة داخل الرأي العام، ويؤدي إلى تآكل قواعدها الشعبية، نتيجة تحميلها تبعات قرار الرفض وما قد يترتب عليه من أضرار عامة.
وفي ظل هذا الواقع، تجد الفصائل نفسها أمام خيار استراتيجي بالغ الصعوبة، يتمثل إما في القبول بمسار تسليم السلاح ضمن شروط وضمانات محددة، أو تحمّل كلفة الرفض بما يرافقه من ردود فعل إقليمية ودولية ومجتمعية قد تتجاوز قدرتها على الاحتواء، وتنعكس على موقعها السياسي ودورها المجتمعي في الداخل العراقي.
خامسًا: المتغيرات الإقليمية وإشكالية الفراغ الأمني
تتزامن الضغوط المتعلقة بملف تسليم السلاح مع متغيرات إقليمية متسارعة، أبرزها التحولات السياسية والأمنية في سوريا، وما رافقها من إعادة تأطير بعض القوى التي كانت تصنَّف دوليًا سابقًا ضمن جماعات إرهابية، لتصبح لاحقًا عناصر فاعلة ضمن حواضن سياسية أو مجتمعية تدعم استمرار الإرهاب، ويُعد العراق هدفًا محوريًا لهذه القوى، التي تسعى إلى استغلال أي ثغرات أمنية للتمدد أو السيطرة على مناطق محددة، لا سيما تلك التي قد تكون مهيأة اجتماعيًا، وإن لم تكن مهيأة عسكريًا بعد.
وفي هذا السياق، يطرح تساؤل مركزي يتعلق بإمكانية معالجة الفراغ الأمني المحتمل: من الجهة القادرة على ملء هذا الفراغ في حال تنفيذ خيار تسليم السلاح؟ وهل تمتلك القوات العراقية اليوم الجاهزية العقائدية، والقدرات العملياتية، والعزيمة القتالية التي ميّزت مرحلة عام 2014 وما بعدها، في ظل تحديات الدولة المعقدة على المستويين السياسي والأمني؟
كما يثير الواقع السياسي الداخلي تساؤلات إضافية حول قدرة الدولة على حماية سيادة البلاد، في ظل تشظي القرار السياسي وغياب الإجماع الوطني في عدد من القضايا الاستراتيجية، بما في ذلك الأطماع والتدخلات الإقليمية، مثل التحديات المرتبطة بميناء الفاو وخور عبد الله، والتواجد العسكري التركي في شمال العراق، وغيرها من مظاهر النفوذ الخارجي.
على صعيد الفصائل المسلحة، تتجلى إشكاليات داخلية تتعلق بتباين الرؤى والمواقف بين القيادات العليا، والقيادات الوسطية، والمنتسبين، حيث تتقاطع الاعتبارات المعيشية مع حسابات النفوذ السياسي، وتتداخل المصالح الفردية مع الأهداف العامة للفصيل. في ضوء هذه المعطيات، يُطرح تساؤل استراتيجي آخر:
هل تمتلك الفصائل القدرة السياسية والتنظيمية والمجتمعية على تحمل تبعات رفض تسليم السلاح، أو الانخراط الكامل ضمن مؤسسات الدولة، في بيئة داخلية وإقليمية معقدة وغير مستقرة؟
القوة والضعف في قرار تسليم السلاح (تحليل سوات)
أولًا: عناصر القوة
يمكن لقرار تسليم السلاح وحصره بيد الدولة، إذا ما أُدير بحكمة، أن يسهم في الحفاظ على المكاسب السياسية التي حققتها بعض القوى، ولا سيما في المسار الانتخابي، كما يتيح للفصائل التحول نحو العمل السياسي والاجتماعي، وبناء قاعدة جماهيرية جديدة عبر الاقتراب من هموم المواطن، وتقديم حلول واقعية لمعاناته.
ومن جهة أخرى، فإن تسليم السلاح بطريقة تحفظ الكيان الرمزي للمقاومة، وتضعه ضمن إطار الدولة، قد يعزز الشعور العام بأن هذا القرار جاء استجابةً للمصلحة الوطنية، ويسهم في تجنيب العراق مخاطر العقوبات أو المواجهة العسكرية، بل وقد يحوّله إلى مصدر قوة ناعمة يضمن ديمومة المشروع المقاوم بأدوات وأساليب مختلفة.
ثانيًا: عناصر الضعف
في المقابل، ينطوي تسليم السلاح على مخاطر تتعلق بتفكك بيئة المقاومة، وتراجع التنسيق بين ساحاتها، بما قد يؤثر في الحاضنة الإقليمية، ولا سيما في ظل تشابك الجبهات، كما يطرح القرار تساؤلات جدية حول الضمانات التي يمكن أن تقدمها الحكومة أو الأطراف الدولية بعدم المساس بسيادة العراق، في ظل وجود تهديدات إرهابية محتملة، وأطماع إقليمية، وتغيرات سياسية في البيئة العربية المحيطة.
ويُضاف إلى ذلك التخوف من أن يُفضي تسليم السلاح إلى نموذج من “الاستقرار المشروط”، القائم على معادلة الأمن والخبز مقابل الامتثال للإرادة الامريكية، بما يفرغ السيادة الوطنية من مضمونها.
التحديات والفرص: بين أفول المقاومة وتجددها
لا تعني عملية تسليم السلاح بالضرورة نهاية المقاومة، بقدر ما تطرح تحديًا يتعلق بإعادة إنتاجها، فالتحدي يكمن في منع تحوّل هذا المسار إلى مرحلة أفول، في حين تكمن الفرصة في إعادة إنتاج المقاومة بصيغة جديدة، تعتمد السياسة، والعمل المجتمعي، وبناء الحاضنة الشعبية، مع الحفاظ على الجاهزية الوطنية ضمن اطار الدولة، إن المرحلة الراهنة قد تفرض منطق المهادنة، لا بوصفه تنازلًا نهائيًا، بل كخيار تكتيكي يهدف إلى استدامة الوجود، واستعادة ثقة الشارع العراقي، والانخراط في مشروع وطني جامع، يوازن بين متطلبات الأمن، والسيادة، والاستقرار.
تحليل SWOT (سوات) لقرار تسليم السلاح في العراق
المحور |
العناصر |
القوة |
· تعزيز المكاسب السياسية للفصائل وتحويلها إلى شريك اجتماعي وسياسي.· إمكانية بناء قاعدة جماهيرية جديدة من خلال العمل السياسي والاجتماعي.· الحفاظ على الكيان الرمزي للمقاومـ ة ضمن إطار الدولة، وتحويل القرار إلى مصدر قوة ناعمة.· تجنيب العراق مخاطر العقوبات أو التصعيد العسكري. |
الضعف |
· احتمال تفكك بيئة المقاومة الداخلية وفقدان التنسيق بين ساحات المقاومة المختلفة.· ضعف الثقة بين القيادات الوسطى والعليا داخل الفصائل، ما قد يضعف اتخاذ القرار.· غياب ضمانات واضحة بعدم المساس بسيادة العراق من قبل الأطراف الإقليمية والدولية.· احتمال تحويل القرار إلى نموذج من الاستقرار المشروط يخضع للضغوط الامريكية. |
الفرص |
· إعادة تعريف المقاومة بصيغة سياسية ومجتمعية، تكفل استمرار دورها الوطني.· بناء حاضنة شعبية جديدة تقوي من شرعية الدولة ومؤسساتها.· تحويل التحديات الخارجية إلى حوافز لتعزيز الوحدة الوطنية والتنسيق بين الفصائل. |
التحديات |
· استمرار التدخلات الاقليمية والسعي لاستغلال الفراغ الامني.· ظهور تهديدات إرهابية تسعى للتمدد في مناطق عراقية.· فقدان الدعم الشعبي للفصائل إذا اعتُبر القرار غير عادل أو يمس المصلحة الوطنية.· احتمال احتكاك داخلي بين الفصائل والدولة يؤدي إلى تآكل المصداقية الوطنية. |
الخاتمة
يتضح من تحليل ملف تسليم السلاح في السياق العراقي أن هذه القضية تمثل أحد أهم المحاور الاستراتيجية التي تؤثر على الاستقرار الداخلي، وترابط الفصائل المسلحة مع الدولة، ومستقبل السيادة الوطنية، إن المرحلة الراهنة لا تسمح بمعالجة المسألة بمعزل عن السياق الإقليمي والدولي، حيث تتقاطع الضغوط الخارجية مع تحديات الداخل السياسي والأمني والاجتماعي.
إن خيار تسليم السلاح، إذا ما أُدير بحكمة، يمكن أن يكون أداة لتحويل الفصائل من قوة عسكرية قائمة بذاتها إلى شريك سياسي واجتماعي فعال، يحافظ على المكاسب الرمزية والمجتمعية للمقاومة، ويعزز ثقة المواطن بالدولة ومؤسساتها، وفي المقابل، يحمل القرار مخاطر تتعلق بتفكك البيئات الداخلية للفصائل، وفقدان التماسك المجتمعي، واحتمالات التدخل الإقليمي أو الدولي.
من هذا المنطلق، تبرز أهمية تبني استراتيجية متوازنة، قائمة على المناورة السياسية، وتعزيز الشرعية الداخلية للفصائل، مع الحفاظ على القدرة الدفاعية، وضمان استمرارية المشروع الوطني المقاوم ضمن إطار الدولة، بما يحقق التوازن بين الأمن، والسيادة، والاستقرار، ويعزز المشاركة الشعبية في صنع القرار.



