الأبعاد الخفية لاحتفالات رأس السنة وكيفية تسويقها للشعوب المسلمة

اعداد: مركز الفيض العلمي لاستطلاع الرأي والدراسات المجتمعية

 

 

المقدمة

تعدّ احتفالات رأس السنة الميلادية من أكثر الظواهر الثقافية العالمية انتشاراً، وقد تحولت من مناسبة دينية حضارية مرتبطة بالسياق المسيحي الغربي إلى ممارسة اجتماعية–اقتصادية ذات طابع عالمي، ومع توسّع العولمة الإعلامية والاستهلاكية، بدأت هذه الاحتفالات تتسلل إلى مجتمعات مسلمة عديدة، محاطة بخطاب ترويجي مكثّف يقدّمها باعتبارها مناسبة “إنسانية عالمية” أو “عيداً اجتماعياً” لا يتعارض مع الهوية الثقافية والدينية المحلية، غير أنّ هذا التعميم يخفي خلفه أبعاداً ثقافية واقتصادية وقيمية، تعمل على إعادة تشكيل الذائقة الاجتماعية في الدول الإسلامية من خلال تحويل الاحتفال إلى منتج استهلاكي ورمز حداثي.

 

يهدف هذا المقال إلى تحليل هذه الأبعاد، وبيان آليات تسويقها، وقراءة تأثيراتها ضمن إطار علم الاجتماع الثقافي والدراسات الإعلامية.

 

البعد التاريخي والتحوّل من الاحتفال الديني إلى الحدث التجاري

يرتبط التقويم الميلادي تاريخياً بالنصرانية وبمولد المسيح وفق الرؤية الغربية، وقد شكّل الاحتفال برأس السنة جزءاً من الطقوس الكنسية القديمة، إلا أنّ التحولات التي عاشها الغرب منذ القرن السابع عشر، وبخاصة صعود الرأسمالية الاستهلاكية، أدّت إلى علمنة هذه المناسبة وتحويلها من طقس ديني إلى “مهرجان عالمي” يحتكم إلى قيم المتعة والترفيه والإنفاق.

هذا التحوّل هو الذي سمح بإعادة تصدير الاحتفال إلى ثقافات أخرى، ومنها الثقافات الإسلامية، بوصفه احتفالاً “محايداً” وغير مرتبط ببنية دينية محددة.

 

الأبعاد الخفية للظاهرة في السياق المسلم

  1. البعد الثقافي: إعادة تشكيل الهوية اليومية

يقوم التسويق الثقافي للاحتفال على مبدأ تطبيع الرموز (مثل شجرة الميلاد، سانتا كلوز، العدّ التنازلي) داخل الوعي الإسلامي على أنها “رموز فرح لا رموز عقيدة”، ويؤدي هذا التطبيع إلى تآكل الرموز المحلية الخاصة بالمجتمع المسلم لصالح رموز عالمية ذات منشأ غربي.

كما يعزز نموذجاً جديداً من “الاحتفالات المستوردة” التي تصبح جزءاً من الروتين الاجتماعي، بما يخلق تحولاً في الذائقة والاهتمامات.

 

  1. البعد الاقتصادي والاستهلاكي

شركات التسويق العالمية تتعامل مع رأس السنة بوصفها موسم ذروة للاستهلاك، ويتم دفع المجتمعات المسلمة إلى المشاركة من خلال:

  • التخفيضات الكبيرة

  • العروض الخاصة

  • تزيين المراكز التجارية

  • حملات إلكترونية موجهة تعتمد على تحليل البيانات

يخلق هذا نوعاً من الارتباط الشرطي بين الهوية المعاصرة والقدرة الشرائية، مما يجعل الاحتفال آلية لإدماج المجتمعات الإسلامية في الاقتصاد العالمي على أسس استهلاكية.

 

  1. البعد الإعلامي والتواصل الاجتماعي

يتم استخدام الإعلام المرئي والمنصّات الرقمية لتسويق الاحتفال بوصفه رمزاً للحداثة والانفتاح، وتعتمد الشركات والمؤسسات الثقافية على استراتيجيات الإقناع الخفي مثل:

  • ربط رأس السنة بالسعادة الأسرية.

  • عرض محتوى ترفيهي مكثّف يظهر الجميع وهم يحتفلون.

  • نشر عبارة “التهنئة لا تعني الاعتقاد” لتخفيف الحساسية الدينية.

  • استخدام المؤثرين المحليين لتجميل الصورة.

هذه الممارسات تخلق ضغطاً اجتماعياً ناعماً يدفع الأفراد للمشاركة خشية الشعور بالعزلة.

 

  1. البعد القيمي

يحمل الاحتفال – في صورته الغربية – منظومة قيمية تقوم على:

“الفردانية، النزعة الاستهلاكية، الارتباط بالمتعة اللحظية، الانفصال الجزئي عن الجذور التاريخية”

 

تسويق رأس السنة في المجتمعات الإسلامية يعمل بشكل غير مباشر على إعادة تشكيل القيم لدى الشباب بحيث تصبح هذه القيم جزءاً من السلوك الاجتماعي “الطبيعي”.

 

كيف يتم تسويق رأس السنة للشعوب المسلمة؟ (آليات الإعلام والتسويق)

  1. استراتيجية “العولمة الناعمة”

يتم تقديم رأس السنة عبر خطاب يدّعي العالمية والإنسانية، ويؤكد على وحدة البشر وبدء عام جديد، وهذه الطريقة تفصل الاحتفال عن جذوره الدينية، وتقدمه كحدث مشترك لا يحمل أي تهديد للهوية.

  1. إعادة تأطير المعنى

يعاد تعريف الاحتفال من “عيد ديني” إلى:

  • فرصة للتغيير.

  • بداية جديدة.

  • مناسبة عائلية.

  • موسم تسوق عالمي.

هذا التأطير المعرفي يجعل المتلقي المسلم أقل حساسية تجاه جذور الحدث.

 

  1. إدماج الرموز بعد “تحييدها”

يتم تمرير الرموز المسيحية بعد تجريدها من دلالاتها الأصلية، وتحويلها لرموز طفولية أو جمالية أو ترفيهية.

 

  1. الترويج عبر النخبة الثقافية والفنية

تقوم شخصيات إعلامية، فنية، ومؤثرون على المنصّات بتقديم الاحتفال باعتباره “تسامحاً ثقافياً” أو “ممارسة حضارية عصرية”.

 

  1. خلق شعور بالنقص الاجتماعي

يُقدَّم عدم الاحتفال على أنه علامة “انغلاق” أو “رجعية“، مما يدفع الشباب للمشاركة حتى لو لم يؤمنوا به.

 

 

انعكاسات الظاهرة على المجتمعات الإسلامية

  1. التحول التدريجي في الهوية الرمزية: تأخذ المجتمعات رويداً رموزاً جديدة وتهمّش رموزها الأصلية، ما يخلق تحولاً هادئاً في الثقافة العامة.

  2. ارتفاع النزعة الاستهلاكية: تصبح المناسبة جزءاً من دوامة الإنفاق السنوي، مترافقة مع ضغوط اجتماعية واقتصادية.

  3. إعادة تشكيل العلاقة مع المناسبات الدينية: تؤدي كثافة الترويج للاحتفال إلى تغيير سلم الأولويات الاحتفالية لدى الجيل الشاب، وأحياناً وضع المناسبات الدينية في مرتبة أقل حضوراً ثقافياً.

  4. زعزعة الهوية القيمية: القيم الغربية المصاحبة يتسرب بعضها إلى الحياة اليومية دون وعي، ما يؤثر على منظومات الأسرة والانضباط والسلوك الديني.

 

كيف يمكن للمجتمعات الإسلامية التعامل مع الظاهرة؟

  1. الوعي النقدي: إنشاء برامج تربوية وإعلامية تُعرّف الشباب بالأبعاد الثقافية والاقتصادية للظاهرة دون فرض أحكام قسرية.

  2. تعزيز البدائل المحلية: تقوية الاحتفالات والمناسبات الإسلامية بطريقة جذابة وشبابية تحفظ الهوية دون صدام ثقافي.

  3. تقوية الذائقة الثقافية الأصيلة: تشجيع المحتوى الإعلامي المحلي الذي يعزّز قدسية الأعياد الإسلامية ويبرز خصوصيتها.

  4. بناء خطاب متوازن: خطاب يحترم التعدد الثقافي لكنه يوضح بوعي أنّ الرموز ليست محايدة دائماً وأن العولمة تحمل دائماً أبعاداً قيمية. وهنا يمكن طرح سؤال مهم ومحوري والمتمثل في:

 

لماذا لم تستطع الشعوب المسلمة جعل التقويم الهجري أو ميلاد النبي محمد (صلى الله عليه واله) يوماً عالمياً؟

ويمكن الإجابة عن هذا السؤال بالقول: رغم القدسية العالية للتقويم الهجري ولذكرى ميلاد النبي محمد (صلى الله عليه وآله) في الوعي الإسلامي، فإن هذه المناسبات لم تتحول إلى أحداث عالمية كما حدث مع رأس السنة الميلادية، ويعود ذلك إلى مجموعة من العوامل التاريخية والثقافية والسياسية التي تداخلت عبر قرون، ويمكن تلخيصها في النقاط الآتية:

 

  1. غياب مركز حضاري موحد

نشأ التقويم الميلادي داخل إطار الإمبراطورية الرومانية ثم داخل أوروبا المسيحية التي تمتعت بوحدة سياسية وثقافية مكّنتها من فرض تقويمها على العالم، وفي المقابل، لم يحظَ العالم الإسلامي بعد القرون الأولى بمركز سياسي واحد قادر على تصدير رموزه، خاصة بعد تفكك الخلافة العثمانية.

 

  1. نشأة التقويم الهجري كأداة إدارية لا كطقس احتفالي

التقويم الهجري وُضع في عهد الخلافة الراشدة لتنظيم الدواوين، لا بهدف صناعة طقس عالمي، لذلك لم يترافق مع طقوس اجتماعية احتفالية يمكن تسويقها عالمياً.

 

  1. اختلاف الدول الإسلامية حول المناسبات نفسها وتفاوت المواقف تجاه:

“الاحتفال بالمولد النبوي، طريقة اعتماد رؤية الهلال، اختلاف المناهج الفقهية” أدى إلى غياب صورة موحدة للمناسبة، ما أضعف إمكانية تقديمها للعالم كرمز ثقافي متفق عليه.

 

  1. ضعف القوة الناعمة وصناعة الرموز

الغرب يمتلك أدوات ضخمة لتسويق احتفالاته عبر السينما، الإعلام، الشركات العابرة للقارات، وثقافة الاستهلاك، أما العالم الإسلامي فتنقصه:

  • صناعة إعلامية منافسة

  • شركات ترفيه قادرة على الترويج

  • سردية ثقافية موحدة

مما جعل رموزه أقل حضوراً على المسرح العالمي.

 

  1. الطبيعة الروحانية للاحتفالات الإسلامية

المناسبات الإسلامية تقوم على: “العبادة، الذكر، قراءة السيرة، الصيام”، وهي ممارسات روحية غير قائمة على “الفرجة” أو “الاستعراض التجاري”، ومن ثم أقل قابلية للعولمة وفق النموذج الغربي الذي يرتكز على: الحفلات، الإنفاق، الهدايا، السياحة، وهي عناصر ساعدت رأس السنة على الانتشار.

 

  1. الصورة الذهنية العالمية عن الإسلام

التشويه الإعلامي والسياسي جعل الإسلام يُرى بوصفه “مغلّفاً بالجدية”، مما قلّل من قابلية تقبل العالم لأي طقس إسلامي كاحتفال إنساني عالمي، بعكس الصورة الاحتفالية المبهجة التي يقدّم بها الغرب رأس السنة.

 

  1. هيمنة النظم الاقتصادية الغربية

التجارة العالمية، الأسواق المالية، شركات التكنولوجيا، وشبكات الطيران تعتمد التقويم الميلادي، ما يجعله تقويماً وظيفياً عالمياً، في المقابل، يظل التقويم الهجري تقويماً دينياً يستخدم في مواسم محددة، وليس جزءاً من النظام المالي الدولي.

ويمكن القول إن عدم تحوّل المناسبات الإسلامية إلى أيام عالمية يعود إلى غياب الوحدة السياسية والثقافية، الاختلاف الفقهي، ضعف القدرة الإعلامية والاقتصادية على تصدير الرموز، الطبيعة الروحانية غير الاستهلاكية لهذه المناسبات، والصورة الذهنية السلبية التي تصنعها القوى الغربية، ومن ثم لم تتوفر الشروط الحضارية التي تجعل التقويم الهجري أو المولد النبوي جزءاً من “الذاكرة العالمية المشتركة”.

 

الخاتمة

تبيّن من خلال المقال أن احتفالات رأس السنة الميلادية ليست مجرد ممارسة اجتماعية عابرة، بل هي نتاج تراكم طويل من التحولات الدينية والرمزية والاقتصادية، حيث انتقلت من طقوس وثنية رومانية إلى شعيرة مسيحية، ثم إلى حدث عالمي تقوده صناعة إعلامية واقتصادية ضخمة، وقد أسهم هذا الامتزاج بين القوة الدينية في الماضي والقوة الاقتصادية والثقافية في الحاضر في تحويل المناسبة إلى رمز كوني تتبنّاه الشعوب بجميع أطيافها، بما في ذلك المجتمعات المسلمة، عبر آليات تسويق ناعمة تجعل الرمز يبدو إنسانياً عاماً.

 

المصادر
  1. ابن هشام. (1990). السيرة النبوية. بيروت: دار المعرفة.
  2. المسيري، عبد الوهاب. (2002). العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة. القاهرة: دار الشروق.
  3. Miles, C. A. (1912). Christmas in ritual and tradition, Christian and pagan. T. Fisher Unwin.
  4. Nissenbaum, S. (1996). The battle for Christmas. Random House.
  5. Tomlinson, J. (1991). Cultural imperialism. Johns Hopkins University Press.

 

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى