حين تضع القوة سلاحها .. نزع السلاح الطوعي في العراق

نزع السلاح الطوعي في العراق بوصفه انتقالًا من منطق الصراع إلى منطق الدولة في ظل تحديات الردع والسيادة

إعداد: مركز الفيض العلمي لاستطلاع الرأي والدراسات المجتمعية

 

 

المقدمة

ظلّ السلاح، في التجربة العراقية المعاصرة، يحمل دلالة مركّبة تتجاوز كونه أداة مادية للصراع، ليغدو رمزًا سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا تشكّل عبر سياقات تاريخية متعاقبة من الاحتلال، والانهيار المؤسسي، وصعود الإرهاب، وتراجع قدرة الدولة على احتكار العنف المشروع، ففي لحظات الانكسار الأمني التي أعقبت عام 2003، ثم في ذروة التهديد الوجودي لتنظيم داعش بعد عام 2014، برز السلاح بيد الفصائل بوصفه استجابة اضطرارية لحماية الكيان الوطني والمجتمعي، واكتسب بذلك شرعية رمزية واسعة مستمدة من منطق الضرورة التاريخية والتعبئة الشعبية، قبل أن يكون مستندًا إلى أطر قانونية ومؤسسية مستقرة.

غير أنّ هذه الوظيفة الدفاعية، على مركزيتها في سياقها الزمني، سرعان ما اصطدمت بإشكالية بنيوية تتصل بجوهر مشروع الدولة الحديثة، القائم– وفق الأدبيات السياسية الكلاسيكية، ولا سيما عند ماكس فيبر–على احتكار الاستخدام المشروع للقوة بوصفه شرطًا لبسط السيادة، وإنفاذ القانون، وبناء العقد الاجتماعي،  ومع انحسار موجات الخطر الوجودي المباشر، تحوّل السلاح خارج “إطار الدولة” إلى قضية خلافية مركزية في النقاش العام العراقي، يتقاطع فيها الأمن بالسياسة، والشرعية الثورية بالشرعية الدستورية، ومنطق الضرورة بمنطق المؤسسات.

وفي هذا السياق المركّب، يكتسب إعلان بعض الفصائل العراقية استعدادها المبدئي لنزع السلاح أو حصره بيد الدولة دلالة مفصلية، ليس فقط من حيث نتائجه الأمنية، بل بوصفه مؤشرًا على تحوّل أعمق في الوعي السياسي والاستراتيجي لهذه الفواعل، واستجابتها لمتطلبات مرحلة ما بعد “الحرب الوجودية” ضد الإرهاب، ولمسار إعادة بناء الدولة واستعادة هيبتها، غير أن هذا الاستعداد لا يأتي في فراغ، بل يتزامن مع بروز أصوات فصائل أخرى متحفظة أو رافضة، تستند في موقفها إلى جملة هواجس واقعية تتصل باستمرار التهديدات الخارجية، من الاعتداءات الإسرائيلية، والوجود العسكري الأميركي، والتوغلات التركية في شمال العراق، فضلًا عن هشاشة البيئة الإقليمية مع بقاء بؤر الإرهاب في الساحة السورية، واستحضار تجارب دولية سابقة أفضى فيها نزع السلاح إلى تفريغ قوى محلية من أدوات الردع، وتركها عرضة للضغط أو الاستهداف.

ومن هنا، لم يعد الجدل حول السلاح يدور فقط بين منطق الدولة ومنطق الفصائل، بل بين رؤيتين للأمن والسيادة:  رؤية ترى في حصر السلاح بيد الدولة شرطًا لبناء دولة قوية قادرة على الردع عبر مؤسساتها، وأخرى تخشى أن يتحول هذا الحصر، في ظل اختلال موازين القوى الإقليمية والدولية، إلى ثغرة في منظومة الحماية الوطنية، ما لم يُقترن بضمانات سيادية حقيقية وقدرة ردع موثوقة، وعليه، يغدو السؤال الجوهري الذي تؤسَّس عليه هذه الدراسة:

 

هل يمثّل الاستعداد المبدئي لنزع السلاح انتقالًا واعيًا من “قوة السلاح” إلى “سلاح الدولة”، أم مغامرة غير محسوبة في بيئة لم تغادر بعد منطق الصراعات المفتوحة؟

وكيف يمكن التوفيق بين مطلب بناء الدولة ومقتضيات الردع في سياق إقليمي شديد الاضطراب؟

 

 

وعليه، تسعى هذه المقالة إلى تحليل الإطار النظري لمفهوم نزع السلاح وبناء الدولة، والكشف عن نقاط القوة الكامنة في القبول الطوعي به، ومناقشة منطق الهواجس الأمنية للفصائل المتحفظة في ضوء التهديدات الإقليمية والتجارب المقارنة، فضلًا عن بيان الكيفية التي يمكن من خلالها تحويل هذا التحول إلى نصر معنوي وسياسي مستدام، وذلك كله بهدف الإسهام في بلورة مقاربة وطنية متوازنة تجعل من السلاح، لا عنوانًا لانقسام الشرعية، بل ركيزة لقوة الدولة من داخل مؤسساتها، ومن السيادة إطارًا جامعًا لا مجالًا للصراع.

 

أولًا: الإطار النظري لمفهوم نزع السلاح وبناء الدولة

يُعد احتكار الدولة لاستخدام القوة أحد المرتكزات المفاهيمية في تعريف الدولة الحديثة، كما صاغه عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، الذي رأى أن الدولة هي الكيان الذي “يحتكر الاستخدام المشروع للعنف داخل إقليم محدد”، ولا يُقصد بهذا الاحتكار مجرد التفوق العسكري، بل القدرة المؤسسية على تنظيم القوة ضمن إطار قانوني، يجعل من العنف وسيلة استثنائية لحماية النظام العام، لا أداة تنازع بين الفواعل الاجتماعية والسياسية، ومن ثم، فإن احتكار القوة يرتبط ارتباطًا وثيقًا ببناء الشرعية، وترسيخ سيادة القانون، وتكوين العقد الاجتماعي الذي يربط المواطنين بالدولة بوصفها الضامن للأمن والحقوق.

وفي الأدبيات المعاصرة لبناء الدولة (State-building)، يُنظر إلى مسألة السلاح خارج إطار الدولة بوصفها أحد أهم معوّقات الانتقال من “الدولة الهشة” إلى “الدولة القادرة”، إذ يؤدي تعدد مراكز القوة المسلحة إلى ازدواجية في السلطة، وتآكل الثقة بالمؤسسات الرسمية، وإدامة منطق التعبئة والصراع بدل منطق المواطنة والمؤسسات، لذلك، تُعد عملية حصر السلاح بيد الدولة خطوة تأسيسية لأي مشروع إصلاح سياسي أو إداري أو اقتصادي، لأنها تمس جوهر السلطة لا مظاهرها فقط.

وفي سياق الدول الخارجة من النزاعات، تطوّر في حقل دراسات السلام مفهوم برامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج (Disarmament, Demobilization, and Reintegration – DDR)، بوصفها آلية انتقالية تهدف إلى تفكيك البنى المسلحة غير النظامية، وتحويل المقاتلين السابقين إلى فاعلين مدنيين أو مؤسسيين ضمن الدولة، ولا تُختزل هذه البرامج في بعدها الأمني، بل تشمل أبعادًا سياسية واجتماعية واقتصادية ونفسية، إذ تفترض أن السلاح ليس مجرد أداة، بل هو جزء من هوية جماعية تشكّلت في سياق الصراع، وأن التخلي عنه يتطلب بدائل رمزية ومادية تعيد تعريف الدور والمكانة والوظيفة داخل المجتمع.

 

وتشير الأدبيات النقدية لبرامج  DDR إلى أن نجاح هذه العمليات مشروط بجملة عوامل، أبرزها:

  • وجود إرادة سياسية وطنية جامعة.

  • ضمانات قانونية وأمنية للفواعل المنخرطة في العملية.

  • إدماج فعلي في مؤسسات الدولة أو في سوق العمل.

  • سردية وطنية جامعة تبرّر الانتقال من منطق السلاح إلى منطق الدولة.

فمن دون هذه الشروط، قد يتحول نزع السلاح إلى مصدر هشاشة جديدة بدل أن يكون مدخلًا للاستقرار.

 

وفي هذا الإطار، يكتسب مفهوم نزع السلاح بعدًا معياريًا يتجاوز البعد الإجرائي، فهو لا يعني فقط “تجريدًا” مادّيًا من السلاح، بل انتقالًا رمزيًا من شرعية الثورة أو الضرورة إلى شرعية القانون والمؤسسات، ومن هوية “المقاتل” إلى هوية “المواطن” أو “الفاعل السياسي”، وهذا الانتقال، كما تشير دراسات التحول الديمقراطي، هو من أعقد التحولات، لأنه يمس البنية العميقة للولاءات والتمثلات والذاكرة الجمعية، أما في السياق العراقي، فإن هذا الإطار النظري يكتسب خصوصية مركّبة، لأن السلاح لم ينشأ فقط في فراغ الدولة، بل ارتبط تاريخيًا بوظيفة دفاعية– وجودية في مواجهة تهديدات حقيقية، وفي مقدمتها الإرهاب التكفيري الذي مثّل خطرًا مباشرًا على كيان الدولة والمجتمع بعد عام 2014  وقد أسهم هذا السياق في إضفاء شرعية أخلاقية وشعبية على حمل السلاح خارج الأطر التقليدية، بوصفه استجابة لنداء الواجب الوطني والديني، ووسيلة لسدّ عجز الدولة في لحظة استثنائية.

ومن هنا، فإن الانتقال من منطق السلاح إلى منطق الدولة في العراق لا يمكن أن يُقارب بوصفه مسألة تقنية أو إدارية فحسب، بل هو انتقال محمّل بدلالات رمزية وثقافية عميقة، تمس معنى النصر والهزيمة، والوفاء للتضحيات، وتعريف الوطنية ذاتها، فالسلاح في الوعي الجمعي ليس مجرد أداة قتال، بل رمز للكرامة والدفاع عن الوجود، ما يجعل التخلي عنه، إن لم يُحسن تأطيره، عرضة لأن يُفهم بوصفه إنكارًا للتجربة أو تفريطًا بثمارها.

 

تحرير المناطق والمدن العراقية من سيطرة داعش على ايدي فصائل المقاومـ ة الإسلامية

 

ثانيًا: نقاط القوة الكامنة في القبول الطوعي بنزع السلاح

يمثل القبول الطوعي من قبل بعض الفصائل العراقية بمبدأ نزع السلاح أو حصره بيد الدولة تحوّلًا نوعيًا في مسار العلاقة بين الفواعل المسلحة والدولة، ويكشف عن جملة من نقاط القوة البنيوية والرمزية التي يمكن، إذا ما أُحسن توظيفها، أن تشكّل رافعة أساسية في مشروع بناء الدولة وترسيخ الاستقرار، ولا تنبع أهمية هذه الخطوة من بعدها الإجرائي فحسب، بل من دلالاتها السياسية والأخلاقية والاستراتيجية العميقة.

 

  1. ترسيخ مبدأ سيادة الدولة واحتكار القرار الأمني

يمثل القبول المبدئي بنزع السلاح اعترافًا عمليًا بأن الدولة هي المرجعية العليا في إدارة الشأن الأمني، وأن قرار السلم والحرب واستخدام القوة يجب أن يظل حكرًا على المؤسسات الدستورية، وتكمن قوة هذه الخطوة في أنها لا تأتي نتيجة هزيمة عسكرية أو فرض قسري، بل بوصفها خيارًا طوعيًا، ما يمنحها شرعية مضاعفة ويعيد الاعتبار لمفهوم “القانون فوق القوة”، ومن شأن ذلك أن يسهم في إعادة بناء هيبة الدولة في الوعي العام، وتعزيز ثقة المواطنين بمؤسساتها، بعد سنوات من ازدواجية السلطة الأمنية التي أضعفت مفهوم السيادة وأربكت علاقة الفرد بالدولة، فكلما كان الاحتكار نابعًا من توافق وطني لا من إكراه، كان أكثر رسوخًا واستدامة.

 

  1. تعبير عن نضج سياسي وتحول وظيفي للفصائل

يعكس هذا القبول انتقال الفصائل من دور استثنائي فرضته ظروف انهيار الدولة والتهديد الوجودي، إلى دور طبيعي ضمن منظومة سياسية تتجه نحو الاستقرار النسبي، وهذا التحول يدل على تطور في الوعي السياسي والاستراتيجي، قوامه إدراك أن استمرار الأدوار الاستثنائية بعد زوال شروطها قد يحوّل الفاعل من عنصر حماية إلى عنصر إرباك، وكما يشير إلى استعداد للانتقال من منطق “الفاعل العسكري” إلى منطق “الفاعل السياسي– المجتمعي”، بما يتطلبه ذلك من أدوات جديدة في التأثير، قائمة على البرامج، والتمثيل الشعبي، والعمل المؤسسي، بدل الاعتماد على منطق الردع بالقوة. وبهذا المعنى، فإن نزع السلاح يصبح مؤشرًا على النضج لا على الانكفاء.

 

  1. حماية منجز الانتصار على الإرهاب وصون رمزيته

أسهمت الفصائل المسلحة بدور حاسم في مواجهة الإرهاب، ولا سيما في معركة الوجود ضد تنظيم داعش، وهو منجز وطني كبير يحمل قيمة عسكرية ورمزية وأخلاقية، غير أن استمرار السلاح خارج “إطار الدولة” بعد انتهاء المعركة يعرّض هذا المنجز لخطر التحول إلى عبء سياسي، أو إلى ذريعة لتشويه التجربة واتهامها بتقويض الدولة التي دافعت عنها، ومن هنا، فإن نزع السلاح الطوعي يسهم في صون الانتصار من الاستهلاك السياسي، ويعيد تأطيره بوصفه خطوة في مسار استعادة الدولة لعافيتها، لا بداية لصراع جديد معها، فالتخلي عن السلاح في لحظة الدولة هو، في هذا المنظور، استكمال لمعنى النصر لا تراجعًا عنه.

 

  1. سحب ذرائع التدخل والضغط الخارجي

شكّل وجود السلاح خارج إطار الدولة إحدى أبرز الذرائع التي استُخدمت إقليميًا ودوليًا للضغط على العراق، أو للتدخل في شؤونه تحت عناوين دعم الاستقرار أو حماية السيادة، ويمنح القبول الطوعي بنزع السلاح الدولة العراقية فرصة استراتيجية لإعادة تموضعها خارجيًا، عبر إضعاف هذا الخطاب وتجريده من مبرراته، كما يوفّر هذا التحول ورقة قوة تفاوضية في العلاقات الإقليمية والدولية، إذ يُظهر العراق بوصفه طرفًا يبادر إلى معالجة إشكالاته البنيوية من الداخل، لا استجابة لإملاءات الخارج، ما يعزز صورته كدولة ذات قرار سيادي ومسار إصلاحي مستقل.

 

  1. تعزيز السلم الأهلي والاستقرار الداخلي

من أبرز نقاط القوة في هذه الخطوة أنها تفتح المجال لتقليل احتمالات الاحتكاك بين الفاعلين المسلحين أنفسهم أو بينهم وبين مؤسسات الدولة، وتحدّ من مخاطر الانزلاق إلى صراعات داخلية كامنة، فوجود السلاح “خارج الدولة”، حتى في غياب نية الصدام، يبقى عامل توتر دائم في بيئة سياسية هشة، كما يسهم حصر السلاح بيد المؤسسات الرسمية في تعزيز شعور المواطنين بالأمان، وترسيخ فكرة أن أمنهم لم يعد مرتبطًا بولاءات فصائلية أو جغرافية، بل بمواطنتهم وانتمائهم للدولة، وهذا التحول في الإحساس بالأمن يعد شرطًا أساسيًا لإعادة بناء الثقة المجتمعية والدورة الطبيعية للحياة الاقتصادية والاجتماعية.

 

  1. إعادة توجيه الطاقات والخبرات نحو مشاريع البناء

تمتلك الفصائل، بحكم تجربتها التنظيمية والميدانية، رصيدًا مهمًا من الخبرات البشرية والتنظيمية يمكن أن يتحول، في سياق ما بعد السلاح، إلى قوة بنّاءة في مجالات العمل السياسي، والخدمة العامة، والتنمية المحلية، وإعادة الإعمار، ويتيح نزع السلاح توجيه هذه الطاقات من منطق التعبئة العسكرية إلى منطق المبادرة المجتمعية والمؤسسية، بما يسهم في معالجة تحديات ما بعد الحرب، من بطالة، وفقر، وتدهور خدمات، ويمنح هذه الفواعل فرصة لإعادة تعريف دورها بوصفها شركاء في البناء لا حراسًا للسلاح فقط.

 

  1. تحسين صورة العراق دوليًا وتعزيز فرص الدعم والاستثمار

يقدّم القبول الطوعي بنزع السلاح العراق بوصفه دولة تسير في مسار التعافي المؤسسي، وتسعى لمعالجة أحد أعقد إرث الصراع المسلح بطريقة سياسية وسلمية، وهذه الصورة الإيجابية تنعكس مباشرة على مستوى الثقة الدولية، وفرص جذب الاستثمار، والحصول على دعم تقني ومالي في مجالات إعادة الإعمار والإصلاح الإداري والأمني، فالدول والمؤسسات الدولية تميل إلى دعم البيئات التي يظهر فيها التزام واضح بسيادة القانون واستقرار القرار الأمني، ما يجعل نزع السلاح عاملًا مساعدًا في إدماج العراق بشكل أعمق في منظومة التعاون الإقليمي والدولي.

 

 

ثالثًا: من القوة المادية إلى النصر المعنوي:  نزع السلاح بوصفه رصيد قوة رمزية

لا يُقاس النصر في التجارب الوطنية المعاصرة بما يُحرَز في الميدان فحسب، بل بما يُنتَج من معنى في الوعي الجمعي، وفي هذا السياق، يمكن النظر إلى نزع السلاح الطوعي لا كتحوّل تقني في أدوات الفعل، بل بوصفه انتقالًا من منطق القوة المادية إلى امتلاك رصيد من القوة الرمزية والأخلاقية، التي تشكّل بدورها مصدرًا جديدًا للشرعية والتأثير، ويكشف هذا التحول عن جملة من نقاط القوة المعنوية القابلة للتسويق الوطني والإعلامي:

 

  1. امتلاك سردية وطنية منتصرة لا دفاعية

تتمثل أولى نقاط القوة في أن نزع السلاح يُقدَّم بوصفه ثمرة طبيعية للنصر لا نتيجة للهزيمة، فالسلاح لم يُوضَع لأن حامليه عجزوا، بل لأنه أدّى وظيفته التاريخية في لحظة الخطر، ولأن الدولة التي دافع عنها استعادت قدرتها على الإمساك بزمام الأمن، وتمنح هذه السردية الفصائل موقع “صانعي التحول” من الحرب إلى الدولة، لا موقع المنسحبين تحت الضغط، ما يحوّل القرار إلى علامة قوة سياسية ورمزية، ويعيد تعريفه كخطوة سيادية نابعة من داخل التجربة لا مفروضة عليها.

 

  1. تحويل التضحيات إلى رأسمال أخلاقي للدولة

يمثل ربط نزع السلاح بدماء الشهداء وتضحيات المقاتلين نقطة قوة معنوية عالية القيمة، إذ يُعاد تأطير الخطوة بوصفها وفاءً لتلك التضحيات لا قطيعة معها، فالدولة التي تُسلَّم لها البنادق هي نفسها التي صانها الدم، ما يجعل نزع السلاح امتدادًا لمسار التضحية لا نفيًا له، وبهذا المعنى، يتحول التاريخ القتالي إلى رأسمال أخلاقي يُستثمر في بناء الدولة، ويُمنع من أن يُستغل ضدها أو يُوظَّف لتغذية صراعات جديدة.

 

  1. تجسيد أخلاقيات القوة وضبط النفس

في الوجدان الديني والثقافي العربي والإسلامي، تُعد القدرة على ضبط القوة ذروة الشجاعة، وأرقى من مجرد امتلاكها، ومن هنا، يشكّل نزع السلاح الطوعي تجسيدًا عمليًا لهذه الأخلاقية، إذ يظهر الفاعلين بوصفهم قادرين على التحكم بأدوات القوة لا الارتهان لها، وتكمن القوة هنا في الرسالة الرمزية:  من يضع السلاح بإرادته يبرهن أنه لم يكن أسيرًا له، وأنه يمتلك من الثقة والطمأنينة ما يجعله ينتقل من الردع بالقوة إلى الحضور بالشرعية، وهذا يمنح الخطوة بعدًا قيميًا يعزّز صورتها في الداخل والخارج.

 

  1. الانتقال من هوية “المقاتل” إلى هوية “الباني”

يمثّل التحول من منطق الدفاع المسلح إلى منطق المبادرة في البناء نقطة قوة رمزية كبرى، لأنه يعيد تعريف الدور التاريخي للفصائل: من حماة الوجود في زمن الخطر إلى شركاء في صناعة المستقبل في زمن الدولة، وهذا الانتقال لا يُقرأ بوصفه خروجًا من الميدان، بل دخولًا إلى ميدان أوسع وأعمق أثرًا: ميدان الإصلاح، والإعمار، والتنمية، وبناء المؤسسات. وبهذا تتشكل صورة جديدة للفاعل، قوامها القدرة على التكيّف مع متطلبات كل مرحلة، بما يعكس مرونة استراتيجية ونضجًا في قراءة التحولات.

 

  1. إنتاج صورة “القوة الواثقة” لا “القوة القلقة”

من أبرز نقاط القوة المعنوية في نزع السلاح أنه يقدّم الفاعلين بوصفهم أصحاب قوة واثقة لا تخشى الدولة، ولا ترى في مؤسساتها تهديدًا لدورها أو تاريخها، فالقوة القلقة تتمسك بالسلاح خوفًا من الغد، أما القوة الواثقة فتضعه لأنها تثق بمكانتها وبما راكمته من شرعية اجتماعية وسياسية، وتتيح هذه الصورة إعادة تموضع الفصائل في المخيال العام بوصفها قوى استقرار لا قوى توتر، وقوى تأسيس لا قوى تعطيل.

 

  1. امتلاك المبادرة الأخلاقية في مواجهة الخصوم

يمنح نزع السلاح الطوعي الفاعلين تفوقًا أخلاقيًا في مواجهة خطاب الشماتة والتشكيك، إذ يصبح بإمكانهم الادعاء– بقدر كبير من المصداقية– أنهم اختاروا مصلحة الدولة على مصلحة السلاح، والاستقرار على الاستقطاب، والوحدة على الانقسام، وهكذا تتحول الخطوة إلى أداة قلب للسجال: فبدل أن يكونوا في موقع الدفاع عن شرعية السلاح، ينتقلون إلى موقع مساءلة الآخرين عن موقفهم من الدولة ومنطقها.

 

 

رابعاً: هواجس الفصائل المتحفّظة على نزع السلاح: بين ضرورات الأمن وتجارب الخذلان التاريخي

على الرغم من الزخم الذي يحمله خطاب نزع السلاح الطوعي بوصفه مدخلًا لبناء الدولة وتعزيز السيادة، فإن جزءًا من الفصائل العراقية لا يزال يبدي تحفظًا واضحًا تجاه هذه الخطوة، انطلاقًا من جملة مخاوف أمنية وسياسية واستراتيجية ترى أنها لم تُعالج بعد بصورة كافية، ولا يمكن لأي مقاربة وطنية متوازنة أن تتجاهل هذه الهواجس أو تختزلها في كونها رفضًا للدولة، إذ إن كثيرًا منها يستند إلى تجارب تاريخية قريبة، وقراءات واقعية لبيئة إقليمية مضطربة، ما يجعلها جزءًا من النقاش العقلاني حول مستقبل الأمن العراقي.

 

  1. هاجس التهديد الصهيوني والأميركي واستمرار منطق الاستهداف

تنطلق بعض الفصائل من قناعة راسخة بأن التهديد الخارجي، ولا سيما من “اسرائيل” والولايات المتحدة، لم ينتفِ بعد، وأن العراق، بحكم موقعه ودوره في معادلات الإقليم، يبقى عرضة للاستهداف المباشر أو غير المباشر، ومن هذا المنظور، يُنظر إلى السلاح لا بوصفه أداة صراع داخلي، بل كوسيلة ردع استراتيجي خارج منطق الدولة التقليدي، في ظل شعور بأن منظومة الأمن الإقليمي لا توفّر ضمانات حقيقية لحماية العراق من الاعتداءات أو الضغوط الكبرى، وتخشى هذه الفصائل أن يؤدي نزع السلاح إلى فراغ ردعي يُغري القوى الكبرى بفرض إراداتها بالقوة أو بالتهديد.

 

  1. ذاكرة تجارب سابقة لنزع السلاح أعقبتها انتكاسات

تستحضر الفصائل المتحفظة على نزع السلاح جملة من التجارب الإقليمية والدولية التي شهدت عمليات تفكيك للقوى المسلحة غير النظامية قبل اكتمال بناء الدولة القادرة على الحماية والردع، وانتهت في كثير من الأحيان إلى انتكاسات أمنية أو تهميش سياسي أو حتى استهداف مباشر لتلك القوى، وتُستدعى هذه الذاكرة لا بوصفها سردًا تاريخيًا مجردًا، بل كإطار تفسيري يُغذي الشكوك إزاء أي مسار لا يقترن بضمانات سيادية ملموسة.

فعلى الصعيد الإقليمي، تُعدّ التجربة الليبية بعد  2011 مثالًا صارخًا، حيث جرى تفكيك جزء كبير من البنى المسلحة التي شاركت في إسقاط نظام القذافي دون أن تنجح السلطة الجديدة في بناء مؤسسة عسكرية وأمنية موحّدة وقادرة، ومع غياب الدولة الرادعة، تحولت البلاد إلى ساحة صراع مفتوح بين مليشيات متنافسة، ودخلت في دوامة انقسام سياسي وأمني ما زالت تداعياتها مستمرة، وهو ما يُستحضر بوصفه نموذجًا لتحذير مفاده أن نزع السلاح قبل بناء الدولة قد يقود إلى فوضى بدل الاستقرار.

أما دوليًا، فتبرز التجربة الأفغانية بعد 2001، حيث شجعت الولايات المتحدة وحلفاؤها برامج نزع سلاح وتسريح مقاتلي الفصائل المحلية التي حاربت طالبان، لكن من دون إدماج حقيقي ومستدام في مؤسسات دولة قوية، ومع انسحاب القوات الدولية عام 2021، انهارت الدولة الأفغانية سريعًا، وعادت طالبان إلى السلطة، فيما وجد كثير من أولئك الذين تخلوا عن سلاحهم أنفسهم بلا حماية، وهو ما يُستحضر بوصفه درسًا في هشاشة الضمانات الخارجية وتقلّب الالتزامات الدولية.

وفي أفريقيا، تُستدعى تجربة جنوب السودان، حيث فشلت برامج نزع السلاح بعد الاستقلال في 2011  في خلق منظومة أمنية وطنية جامعة، وأُتبعت باندلاع حرب أهلية عام 2013، ما عزز القناعة بأن تفكيك القوى المحلية في ظل انقسامات سياسية عميقة قد يفتح الباب أمام صراع أعنف بدل أن يغلقه.

أما في الذاكرة العراقية ذاتها، فتستحضر الفصائل المتحفظة محطات شعرت فيها قوى محلية بأنها أُضعفت أو هُمّشت بعد أن أدت أدوارًا حاسمة في مواجهة أخطار كبرى، سواء في مرحلة ما بعد 2003  حين جرى تفكيك الجيش والمؤسسات الأمنية دون بديل وطني متماسك، ما فتح الباب لفوضى أمنية واسعة، أو في مراحل لاحقة شعر فيها بعض الفاعلين بأن تضحياتهم لم تُترجم إلى شراكة مؤسسية مستقرة داخل الدولة. كما يُستدعى مثال الصحوات التي قاتلت تنظيم القاعدة منتصف العقد الأول من الألفية، ثم تعرض كثير من أفرادها لاحقًا للتهميش أو الإقصاء، ما رسّخ في الوعي الجمعي درسًا مفاده أن التخلي عن السلاح دون ضمانات إدماج حقيقية قد ينتهي بخسارة الدور والحماية معًا.

انطلاقًا من هذه الذاكرة التراكمية، يُنظر إلى نزع السلاح، في خطاب الفصائل المتحفظة، لا بوصفه خطوة تقنية، بل كمخاطرة وجودية إذا لم يُقرن بشروط صارمة: بناء دولة قادرة فعليًا على الردع، وضمانات قانونية وسياسية بعدم الاستهداف أو الإقصاء، وإدماج مؤسسي حقيقي يحفظ الدور والكرامة، واستقلال القرار الوطني عن تقلبات الضغوط الخارجية. فالتجارب المستحضرة تُظهر–  في نظرهم–  أن التعهدات السياسية، ولا سيما إذا جاءت في سياق ضغوط دولية، قد تتبدل بتبدل موازين القوى، فيما يبقى فقدان السلاح خسارة لا يمكن تعويضها.

 

  1. تحديات الوجود والاختراق التركي في شمال العراق

يمثل الوجود العسكري التركي في شمال العراق، وما يرتبط به من عمليات وقواعد وتوغلات متكررة، أحد أبرز مصادر القلق لدى الفصائل المتحفظة، إذ يُنظر إليه كخرق مستمر للسيادة العراقية، لم تفلح الدولة حتى الآن في وقفه أو ردعه بصورة حاسمة، ومن هذا المنطلق، ترى هذه الفصائل أن نزع السلاح في ظل استمرار هذا الواقع قد يُفسَّر بوصفه قبولًا ضمنيًا بالأمر الواقع، أو إضعافًا لأدوات الضغط الوطنية التي قد تسهم في ردع أي توسع إضافي.

 

  1. امتداد التهديد الإرهابي من الساحة السورية

على الرغم من تراجع التنظيمات الإرهابية في العراق، فإن البيئة الإقليمية، ولا سيما في سوريا، لا تزال تعج بجيوب وتنظيمات متطرفة قابلة لإعادة التشكل والتمدّد، وتخشى الفصائل أن يؤدي تفكيك قدراتها العسكرية إلى إضعاف الجهوزية الوطنية في مواجهة أي موجة ارتداد إرهابي محتملة، خصوصًا في ظل هشاشة الحدود وتشابك الساحات، ومن هنا، يُطرح السلاح بوصفه عنصر “تأمين استباقي” ضد مفاجآت إقليمية قد تعجز الدولة، بمفردها، عن احتوائها في لحظاتها الأولى.

 

  1. فجوة الثقة بقدرة الدولة على توفير الحماية الشاملة

لا ينبع التحفظ، في كثير من الأحيان، من رفض مبدئي لمفهوم الدولة، بل من فجوة ثقة متراكمة بقدرتها الفعلية على احتكار القوة وحماية من يسلم سلاحه، في ظل تحديات الفساد، وتسييس بعض المؤسسات، وضعف الجهوزية في بعض المفاصل، وتخشى هذه الفصائل أن يتحول نزع السلاح إلى عملية أحادية، تُجرّدها من أدواتها، من دون أن تقابلها دولة قوية قادرة على الردع والحماية، ما يضعها في موقع هش أمام خصوم داخليين أو خارجيين.

 

  1. السلاح بوصفه ضمانة سياسية لا أداة عسكرية فقط

تُظهر قراءة مواقف بعض الفصائل أن السلاح لا يُنظر إليه بوصفه أداة قتال فحسب، بل كضمانة سياسية تمنع تهميشها أو تجاوزها في معادلات السلطة، في بيئة سياسية ما زالت تتسم بعدم الاستقرار وتقلب التحالفات، ومن ثم، فإن التخلي عنه يُنظر إليه كتنازل عن عنصر توازن في لعبة سياسية لم تُحسم قواعدها بعد لصالح دولة مؤسسات مستقرة.

ويمكن القول: إن موقف الفصائل المتحفظة على نزع السلاح لا يقوم بالضرورة على منطق التحدي للدولة، بل على قراءة أمنية– سيادية لبيئة إقليمية مضطربة، وتجارب تاريخية مشحونة بالخذلان، وفجوة ثقة بقدرة الدولة على ملء الفراغ الذي قد يخلّفه السلاح، ومن ثم، فإن أي مشروع وطني لنزع السلاح لا يمكن أن ينجح ما لم يتعامل بجدية مع هذه المخاوف، عبر توفير ضمانات حقيقية، وبناء قدرات ردع وطنية مؤسسية، وصياغة معادلة تطمئن الجميع بأن الدولة المقبلة ستكون أقوى من السلاح الذي يُوضع، لا أضعف منه.

 

خامساً: نحو مقاربة وطنية توفيقية بين منطق الدولة ومنطق الردع

تكشف المحاور السابقة أن الجدل حول نزع السلاح في العراق لا يدور بين خيار “الدولة” وخيار “الفصائل” بوصفهما نقيضين، بل بين رؤيتين لكل منهما منطقه ومبرراته:  رؤية ترى في حصر السلاح بيد الدولة شرطًا لبناء السيادة والاستقرار، وأخرى ترى في السلاح ضمانة ردعية في بيئة إقليمية مضطربة وتجربة داخلية مثقلة بالخذلان، ومن هنا، تبرز الحاجة إلى مقاربة وطنية توفيقية لا تقوم على الإقصاء أو الغلبة، بل على دمج منطق الدولة بمنطق الردع ضمن إطار مؤسسي جامع.

 

  1. الردع من داخل الدولة لا من خارجها

تشكل نقطة الالتقاء الأولى في تحويل مفهوم الردع من كونه وظيفة فصائلية مستقلة إلى وظيفة سيادية تمارسها الدولة عبر مؤسساتها العسكرية والأمنية، فبدل أن يكون السلاح خارج الدولة ضمانة ضد التهديدات، يصبح الردع جزءًا من عقيدة دفاع وطني تُبنى بمشاركة الخبرات المتراكمة لدى الفصائل السابقة، وتُدمج ضمن الجيش والقوات النظامية أو أطر أمنية قانونية واضحة.

وبذلك يُحافَظ على جوهر الردع، مع نقل مرجعيته من الفاعل غير الرسمي إلى المؤسسة الشرعية.

 

  1. نزع سلاح تدريجي مشروط بتعاظم قدرة الدولة

تفترض المقاربة التوفيقية أن نزع السلاح لا يكون فعلًا لحظيًا أو قطيعة مفاجئة، بل مسارًا تدريجيًا متلازمًا مع تصاعد جاهزية الدولة وقدرتها على الحماية، فكل خطوة في حصر السلاح تقابلها خطوة في بناء القوة النظامية، وتعزيز الاستخبارات، وضبط الحدود، بما يطمئن المتحفظين بأن الفراغ لن يُترك دون بديل سيادي قادر.

 

  1. ضمانات سيادية وقانونية للفاعلين المنخرطين في التحول

لكي تنجح عملية الانتقال، لا بد من توفير ضمانات صريحة بعدم الاستهداف أو الإقصاء السياسي والقانوني للفصائل التي تنخرط في المسار الجديد، وباحترام دورها التاريخي ورصيدها الرمزي، فالدولة القوية لا تقوم على الإلغاء، بل على الاستيعاب المؤسسي العادل، ما يحوّل الفاعلين السابقين إلى شركاء في حماية النظام الجديد لا خصومًا له.

 

  1. شراكة في صياغة العقيدة الدفاعية والأمن القومي

تقوم المقاربة التوفيقية على إشراك مختلف القوى الوطنية، بما فيها الفصائل السابقة، في حوار وطني لصياغة عقيدة دفاعية عراقية واضحة تحدد:  طبيعة التهديدات، أولويات الردع، حدود استخدام القوة، وأطر القرار السيادي، ومن شأن هذه الشراكة أن تنقل الإحساس بالمسؤولية من مستوى الفصيل إلى مستوى الدولة، وتحوّل الدفاع عن العراق إلى مشروع وطني جامع لا مهمة فئة بعينها.

 

  1. إدماج الخبرات القتالية في بناء المؤسسات لا تفكيكها

بدل النظر إلى الخبرة القتالية والتنظيمية للفصائل بوصفها عبئًا، تقترح المقاربة التوفيقية تحويلها إلى رصيد مؤسسي عبر برامج دمج احترافية في الجيش والأجهزة الأمنية، أو في مجالات التدريب، وحماية الحدود، ومكافحة الإرهاب، وبذلك يُحافَظ على الجهوزية الوطنية، ويُمنع تسرب الخبرات إلى الهامش أو إلى مسارات غير منضبطة.

 

  1. سردية وطنية جامعة: من “سلاح المقاومـ ة” إلى “دولة الردع”

يُعد البعد الرمزي عنصرًا حاسمًا في إنجاح أي تسوية تاريخية، ومن هنا، تقوم المقاربة التوفيقية على بناء سردية وطنية جديدة تُعيد تأطير التحول بوصفه انتقالًا من مرحلة “سلاح المقاومـ ة” إلى مرحلة “دولة الردع”، حيث تصبح الدولة هي الحاضنة لكل معاني القوة والتضحية والكرامة التي حملها السلاح سابقًا،فلا يُلغى المعنى الرمزي للتجربة، بل يُعاد توطينه داخل إطار الدولة.

 

  1. تحصين القرار السيادي في مواجهة الضغوط الخارجية

تؤكد المقاربة أن أي مسار لنزع السلاح لا بد أن يكون قرارًا عراقيًا خالصًا، نابعًا من حوار وطني، لا استجابة لإملاءات خارجية، فسيادية القرار شرط جوهري لإقناع المتحفظين، وضمان ألا يُنظر إلى التحول بوصفه رضوخًا، بل اختيارًا وطنيًا يعبّر عن ثقة الدولة بنفسها وبقدرتها على حماية شعبها.

 

ويمكن القول… تسعى المقاربة التوفيقية إلى تحويل الجدل من صراع بين خيارين متقابلين إلى مسار تكاملي يجمع بين الردع والسيادة، بحيث يصبح نزع السلاح ليس إلغاءً لمنطق الحماية، بل إعادة تموضع له داخل الدولة، وبهذا، يُفتح أفق وطني جديد تتلاقى فيه شرعية التضحيات مع شرعية المؤسسات، ويُبنى فيه أمن العراق على قاعدة: دولة قوية بردعها، وردع قوي بدولته.

 

خاتمة استراتيجية:  نزع السلاح بوصفه انتقالًا تاريخيًا نحو دولة الردع والسيادة

تُظهر قراءة الإطار النظري والسياق العراقي وتعقيدات الجدل الدائر حول نزع السلاح أن القضية لا تختزل في إجراء أمني أو قرار إداري، بل تمثل لحظة انتقال تاريخي من منطق الدولة الهشّة التي تستعين بقوى موازية لحمايتها، إلى منطق الدولة القادرة التي تحتكر القوة وتستوعبها في آن واحد، وعليه، فإن نزع السلاح لا ينبغي فهمه بوصفه نهاية لدور، بل إعادة تموضع لهذا الدور داخل بنية الدولة ومشروعها السيادي.

تؤكد المحاور السابقة أن القبول الطوعي من قبل فصائل عراقية يمثّل في جوهره نقطة قوة سياسية وأخلاقية، لأنه ينقل الفعل من دائرة الإكراه إلى فضاء الاختيار، ويحوّل السلاح من أداة فرض إلى رمز اكتمال وظيفة تاريخية، فحين تُوضع القوة طوعًا، فإن ذلك لا يُقرأ هزيمة، بل إعلان ثقة بالدولة وبقدرتها على صيانة ما تحقق من منجزات، وفي مقدمتها الانتصار على الإرهاب وحماية وحدة البلاد.

وفي المقابل، تكشف الهواجس التي تبديها الفصائل المتحفظة عن منطق أمني واقعي لا يمكن تجاهله، في ظل استمرار التهديدات الإقليمية، والتجارب المريرة لنزع السلاح في دول أُفرغت بعدها من أدوات الدفاع، فضلًا عن التحديات المباشرة المتمثلة بالاعتداءات “الإسرائيلية”، والوجود العسكري الأميركي، والتوغلات التركية، وبقاء بؤر الإرهاب في الجوار السوري، و إن تجاهل هذه المخاوف أو تبسيطها يفرغ أي مشروع للتحول من شروطه الواقعية، ويحوّله إلى مقامرة غير محسوبة.

ومن هنا، تبرز أهمية المقاربة الوطنية التوفيقية التي لا تضع السيادة في مواجهة الردع، بل تسعى إلى دمجهما ضمن إطار مؤسسي واحد، بحيث يُعاد تعريف القوة بوصفها وظيفة سيادية تمارسها الدولة بمشاركة جميع أبنائها وخبراتهم، لا امتيازًا لفئة ولا عبئًا على النظام. فالدولة القوية لا تُبنى بإلغاء الفاعلين، بل باستيعابهم وتحويل رصيدهم الرمزي والعملي إلى طاقة مؤسسية تحمي النظام الجديد بدل أن تنافسه.

 

وعليه، يمكن استخلاص جملة من الاستنتاجات الاستراتيجية:

  • إن نزع السلاح في العراق ليس قضية أمنية محضة، بل مشروع إعادة تأسيس للعلاقة بين القوة والشرعية والدولة.

  • القبول الطوعي يمثل فرصة تاريخية لتحويل منجز الفصائل من رصيد فئوي إلى رأس مال وطني جامع.

  • الهواجس الأمنية الإقليمية حقيقية، ولا يمكن لأي مسار ناجح أن يتجاهل منطق الردع ومتطلبات الحماية السيادية.

  • المقاربة التوفيقية التي تدمج الردع داخل الدولة تمثل الخيار الأكثر واقعية واستدامة للخروج من الثنائية الصفرية.

  • نجاح التحول مرهون بسردية وطنية جامعة وإطار قانوني ضامن وشراكة سياسية حقيقية لا إقصائية.

  • القرار في جوهره يجب أن يبقى عراقيًا خالصًا، نابعًا من حوار وطني لا من ضغوط خارجية.

 

 

الخاتمة

إن لحظة نزع السلاح، إن أُحسن إدارتها، يمكن أن تتحول من ملف خلافي إلى علامة فارقة في مسار بناء الدولة العراقية الحديثة، لحظة تنتقل فيها البلاد من دولة تحتمي بتعدد القوى، إلى دولة تحتمي بقوة واحدة جامعة هي قوة القانون والمؤسسة والسيادة، وفي هذا الانتقال، لا يُمحى تاريخ التضحيات، بل يُتوَّج بدولة تليق بها.

 

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى