بغداد تحت سطوة الأسواق المفتوحة والباعة المتجولين

التراجع الحضري والتلوث السمعي

إعداد: مركز الفيض العلمي لاستطلاع الرأي والدراسات المجتمعية

 

لطالما مثّلت بغداد مدينة السلام، رمزاً للتنظيم العمراني والحضارة الإنسانية على مر العصور، ومنذ تأسيسها كمركز خلافة، ارتكزت هويتها على التخطيط الدقيق الذي يفصل بين الأسواق، والمساكن، والمرافق العامة، بيد أن العقود الأخيرة شهدت تحولاً بنيوياً جذرياً، تميز بظهور مظاهر التراجع الحضري التي بدأت تنهش في النسيج العمراني والجمالي للعاصمة، وهذا التراجع، ليس مجرد تدهور مادي للبنى التحتية، بل هو انعكاس لخلل عميق في إدارة الفضاء العام، أنتج ظاهرة الانتشار غير المنظم للأسواق المفتوحة وجموع الباعة المتجولين.

لقد أصبحت ظاهرة احتلال الأرصفة والطرقات هي السمة الغالبة للمشهد البغدادي المعاصر، مما أدى إلى انزلاق المدينة نحو فوضى بصرية وصوتية، تتجاوز حدود العتبات الجمالية لتمسّ جوهر الصحة العامة ونوعية الحياة، وهذه الفوضى تتجسد بوضوح في ارتفاع مستويات التلوث السمعي، الذي يتحول من إزعاج عابر إلى آفة حضرية ممنهجة، ويتطلب تحليل هذه الظاهرة فهماً دقيقاً للمفاهيم التي تشكل أركانها:

 

  1. التراجع الحضري: لا يُعنى التراجع الحضري بتلف الأبنية فقط، بل يوصف في هذا السياق بكونه فقدان المدينة لقدرتها على تنظيم نفسها والتحكم في فضاءاتها العامة، وإنه يشير إلى انهيار التوازن بين الوظائف المخططة للمدينة وبين الاستخدامات العشوائية التي يفرضها الواقع الاجتماعي والاقتصادي، ويُعد غياب الرقابة البلدية واستبدال التنظيم بالفوضى المعيار الأبرز لهذا التراجع.

  2. التلوث السمعي: يشار اليه بأنه أي صوت غير مرغوب فيه أو ضوضاء مزعجة، يؤدي إلى تأثيرات سلبية على صحة الإنسان ورفاهيته، وفي بغداد لا يقتصر التلوث السمعي على ضجيج المرور فحسب، بل يتفاقم بفعل المصادر الصوتية البشرية المباشرة الناتجة عن الأسواق المفتوحة والباع المتجولين، مثل:

  • الاستخدام المفرط لمكبرات الصوت الدعائية للسلع.

  • النداءات الصارخة والمكررة للباعة.

  • ضوضاء العجلات (دراجةالتك تك- دراجة الستوتة- الدراجة الناري) المستخدمة بشكل مفرط.

إن التقييم لهذه الظاهرة يتطلب قياس مستوى الضوضاء، وتحليل تجاوزها للحدود الآمنة التي تؤثر على الجهاز العصبي والسمعي للمواطن.

 

  1. الاقتصاد غير الرسمي: تُعد الأسواق المفتوحة والباعة المتجولون تجسيداً مادياً لجانب واسع من الاقتصاد غير الرسمي، وهو النشاط الاقتصادي الذي لا يخضع للضرائب، ولا يُحسب ضمن الناتج المحلي الإجمالي، ولا يلتزم باللوائح التنظيمية، ورغم دوره الاجتماعي كشبكة أمان للبطالة، إلا أن تفاعله مع الفضاء العام يؤدي إلى تبعات بيئية وحضرية وخيمة، لاسميا عند غياب آليات التنظيم والدمج.

 

تتمركز مشكلة حديثنا حول التناقض الجدلي بين الضرورة الاقتصادية لظاهرة الأسواق المفتوحة في بغداد والارتدادات السلبية غير المقبولة حضرياً وبيئياً وصحياً التي تنتج عنها، وكيف يمكن للمدينة أن تستوعب هذا النشاط الاقتصادي الحيوي دون أن تخسر مظهرها الحضاري وتستسلم لآثار التلوث السمعي والبيئي؟

 

ونستهدف من الحديث هنا جملة أهداف منها:

  1. وصف الظاهرة وتحديد مدى انتشارها وتأثيرها المادي على الفضاء العام.

  2. تحليل الدوافع الاقتصادية والاجتماعية التي تقف وراءها.

  3. تقييم الارتدادات السلبية، مع التركيز على التلوث السمعي وتدهور المظهر الحضري.

  4. اقتراح سياسات تنظيمية متوازنة تدمج الباعة الصغار ضمن إطار حضري يحافظ على الصحة العامة وجمالية المدينة.

 

شهدت بغداد خلال العقدين الماضيين تحولاً نوعياً في استخدامات الأراضي الحضرية، حيث انتقل الاحتلال العشوائي للأرصفة والشوارع من ظاهرة هامشية إلى سمة مركزية للمناطق التجارية والسكنية على حد سواء، ويمكن تتبع الانتشار الجغرافي للأسواق المفتوحة والباعة المتجولين في بغداد عبر نمطين رئيسيين:

 

الاول: المناطق التجارية التقليدية والمراكز القديمة: حيث تتفاقم الظاهرة بالقرب من الأسواق التاريخية المزدحمة أصلاً، مثل أسواق الشورجة، والباب الشرقي، ومناطق الكاظمية والأعظمية المحيطة بالمزارات الدينية، ففي هذه البؤر يتحول الشارع من مسار مروري إلى فضاء تجاري مختلط.

الثاني: المناطق الشعبية ومداخل الأحياء السكنية: حيث يبرز دور الـ “بسطات” ومركبات الـ “ستوتة” و”سيارات الحمل” بجميع انواعها في تشكيل نقاط بيع يومية مؤقتة، مما يعرقل حركة المشاة والمركبات في ساعات الذروة، ويحوّل الأرصفة من ملكية عامة للمشاة إلى ساحات عرض للبضائع.

يُعد الاحتلال المادي للأرصفة القضية الجوهرية هنا، فالرصيف، المصمم تاريخياً لسلامة المشاة وحركتهم، يُحتل بشكل كامل تقريباً، وهذا التحول ليس عشوائياً بالكامل، بل هو نتاج فشل تخطيطي في توفير مساحات بديلة لاستيعاب هذا النشاط التجاري المتزايد، مما يضطر الباعة لاستغلال أي شبر متاح، حتى لو كان على حساب البنية التحتية، كالحفر حول الأشجار أو وصلات الكهرباء العشوائية.

 

يتكون المشهد الحضري لهذه الظاهرة من ثلاثة أطراف رئيسة تتفاعل في فضاءات المدينة:

 

الطرف

الوصف ودوره في الظاهرة

التبعات الحضرية

الباعة المتجولون

غالبية من الشباب والعاطلين الذين يعتمدون على الدخل اليومي، يستخدمون عربات الدفع، البسطات الأرضية، أو المركبات كـ “متاجر  متنقلة”.

زيادة الفوضى، إعاقة حركة  المرور، الإنتاج المباشر للضوضاء والمخلفات.

الزبائن والمستهلكون

عادةً ما تكون الطبقة محدودة الدخل التي تبحث عن أسعار مخفضة أو سهولة الوصول للسلع القريبة.

الإقبال يزيد من شرعية الظاهرة واستمراريتها، ويخلق ازدحاماً بشرياً.

الأجهزة البلدية والرقابية

تعاني من ضعف تطبيق القوانين، وأحياناً تفشي حالات الفساد الإداري (الجباية غير الرسمية) أو العجز عن توفير بدائل تنظيمية.

حالة التراخي تؤدي إلى ترسيخ الظاهرة كـ “أمر واقع” يصعب التعامل معه لاحقاً.

 

تُعد الفوضى البصرية إحدى أبرز مظاهر التراجع الحضري، وهي حالة تشويش بصري ناتجة عن التداخل العشوائي وغير المنسق للأشكال والألوان والعناصر في المشهد الحضري، وفي بغداد تتجلى هذه الفوضى عبر:

 

  1. التهرئة المعمارية: اختفاء الواجهات المعمارية للأبنية الأصلية خلف الستائر البلاستيكية، والملصقات، والبضائع المعروضة بشكل عشوائي، مما يشوه المظهر العام للمباني.

  1. اللافتات العشوائية: انتشار لافتات البيع المكتوبة بخطوط يدوية أو المطبوعة بشكل فج، والتي تفتقر لأي معيار جمالي أو تنظيمي.

  2. استخدام مواد مؤقتة: اعتماد الباعة على مواد بناء مؤقتة وغير مستدامة (الأقمشة المهترئة، الخشب الرخيص، الكراتين) لبناء مظلاتهم وأكشاكهم، مما يعطي انطباعاً دائماً بأن المدينة في حالة “بناء مؤقت” وغير مكتملة.

إن هذا الواقع الحضري يشي بأن المدينة فقدت خاصية الهُوية البصرية الموحدة لصالح فوضى استهلاكية غير خاضعة لأي ذوق عام أو تنظيم مدني، وهو ما يمهد الطريق لارتدادات أعمق سنناقشها لاحقاً، لاسيما التلوث السمعي.

 

الجذور الاقتصادية والدوافع الاجتماعية

إن تحليل ظاهرة الأسواق المفتوحة في بغداد لا يمكن فصله عن السياق الاقتصادي والاجتماعي العراقي الأوسع، وإن هذه الظاهرة ليست مجرد سلوك فردي، بل هي نتاج فشل هيكلي في إدارة الموارد البشرية والاقتصادية.

فالدوافع الاقتصادية هي المحرك الأساسي لانتشار الباعة المتجولين والأسواق العشوائية، ويمكن تلخيصها في النقاط التالية:

 

  1. البطالة الهيكلية والاقتصاد غير الرسمي كـ “صمام أمان”: يواجه الاقتصاد العراقي تحدي البطالة الهيكلية، حيث تفشل القطاعات الرسمية (العام والخاص) في استيعاب الأعداد المتزايدة من الخريجين والباحثين عن عمل، ومنه يبرز الاقتصاد غير الرسمي كآلية تعويض ضرورية، أو ما يُعرف بـ “صمام الأمان الاجتماعي” لمنع الانفجار الاقتصادي-الاجتماعي.

  2. فشل القطاع العام: استنفد القطاع العام قدرته على التوظيف، مما دفع بالعديد من الشباب إلى البحث عن بدائل فورية للدخل.

  3. ضعف القطاع الخاص: رغم الإمكانات، لا يزال القطاع الخاص يعاني من ضعف في البنية التحتية، والبيروقراطية، والمنافسة غير العادلة، مما يحد من قدرته على خلق وظائف منتجة ومنظمة.

إن العمل في البيع المتجول يتطلب رأس مال محدوداً جداً ولا يتطلب مؤهلات رسمية، مما يجعله الخيار الأمثل للبطالة المقنّعة أو الصريحة.

 

وتمثل الأسواق المفتوحة آلية مزدوجة لتلبية الحاجة الاقتصادية:

  1. من جهة البائع: توفير دخل يومي فوري ومباشر يضمن البقاء للأفراد والعائلات التي تعيش تحت خط الفقر، وهذا الدخل غالباً ما يكون متغيراً ولكنه نقدي، وهو مفضّل على انتظار وظيفة رسمية غير مضمونة.

  1. من جهة المستهلك: توفير سلع استهلاكية أساسية بأسعار أقل بكثير من المتاجر الرسمية، وهذا يقلل من العبء المالي على الأسر ذات الدخل المحدود، ويخلق توازناً اقتصادياً هشاً داخل الطبقات الفقيرة.

 

ويرى البعض أن الأسواق المفتوحة تسهم في “عدالة التوزيع غير الرسمي” من خلال توفير منتجات رخيصة، لكن هذه العدالة تتم على حساب العدالة الحضرية والتنظيم البيئي.

 

الدوافع الإدارية والتنظيمية

لا يمكن إرجاع الظاهرة بالكامل إلى الفقر والبطالة، فتلعب البيئة الإدارية والتشريعية دوراً حاسماً في استمرارها وتفاقمها:

  1. ضعف التنظيم البلدي وغياب التخطيط المسبق: تعد ظاهرة الأسواق المفتوحة دليلاً على عجز الحكومات المحلية عن التخطيط للمدن بمرونة كافية، فبدلاً من تخصيص مساحات منظمة أو “أسواق شعبية محددة” لاستيعاب الباعة المتجولين، تركت البلديات الفضاء العام لـ “يُنظّم نفسه بنفسه”، مما أدى إلى الفوضى الحالية.

من أمثلة ضعف التخطيط وتدهوره هو بناء ملعب رياضي جوار واحدة من أكبر المؤسسات الصحية، ذلك الملعب المنشأ حديثًا في بغداد جوار مستشفى الامام علي عليه السلام.

  1. غياب استراتيجيات الاستيعاب: لا توجد خطط واضحة لدمج الباعة الصغار ضمن نسيج المدينة الاقتصادي والبلدي.

  2. المركزية والجمود: التخطيط البلدي يتسم بالمركزية والجمود، ويفتقر إلى المرونة اللازمة للتعامل مع التغيرات الاجتماعية والاقتصادية السريعة.

الفساد الإداري والتراخي في تطبيق القانون: يُعد الفساد الإداري عاملاً حاسماً في استدامة الظاهرة، حيث أن بقاء الباعة في أماكن غير مرخصة يعود في كثير من الأحيان إلى دفع “رسوم” أو “جباية” غير رسمية لجهات متنفذة أو موظفين رقابيين.

  1. شرعنة العشوائية: هذه الممارسات غير القانونية تضفي نوعاً من “الشرعية الفاسدة” على الاحتلال غير القانوني للأرصفة، وتعيق أي محاولات تنظيمية جادة.

  1. التكلفة الاجتماعية: يؤدي التراخي في تطبيق القوانين المتعلقة بإشغال الفضاء العام والتلوث السمعي إلى تقويض مبدأ سيادة القانون وتآكل ثقة المواطن في قدرة الدولة على تنظيم الحياة الحضرية.

القوانين القديمة وعدم مواكبة التحول: تعود كثير من القوانين والأنظمة البلدية العراقية إلى عقود مضت، وهي غير مصممة للتعامل مع حجم الكثافة السكانية والتحولات الاقتصادية الراهنة، وإن الإجراءات المتبعة غالباً ما تكون قسرية (إزالة فورية) وغير مستدامة (تتجاهل الدوافع)، مما يجعل أي حملة تنظيمية مجرد حل مؤقت يعود الباعة للانتشار بعد انتهائه مباشرة.

 

الارتدادات السلبية

تُشكل الارتدادات السلبية لسيطرة الأسواق المفتوحة على الفضاء الحضري في بغداد تهديداً متعدد الأوجه، لا يقتصر على المظهر الجمالي، بل يمتد ليشمل البيئة والصحة العامة، وأبرزها التلوث السمعي والمخلفات البيئية.

 

أولا: الأثر النوعي والوظيفي على المؤسسات الحساسة والفئات الضعيفة

يُعد التلوث السمعي في المناطق المزدحمة بالأسواق المفتوحة هو المؤشر الأشد خطورة للتراجع الحضري، كونه يؤثر بشكل مباشر على جودة الحياة وصحة الإنسان.

وإن التلوث السمعي الناتج عن الأنشطة التجارية العشوائية لاسيما الباعة المتجولين يتعدى كونه إزعاجاً بيئياً، ليصبح معيقاً وظيفياً خطيراً يؤثر بشكل مباشر على قدرة المؤسسات الحساسة على أداء مهامها الحيوية، ويهدد صحة وسلامة الفئات الضعيفة في المجتمع الحضري، كما في الإعاقة الوظيفية للمرافق الحيوية، منها:

  1. فالمستشفيات بيئات تتطلب أقصى درجات الهدوء كجزء لا يتجزأ من العملية العلاجية والاستشفائية، وإن تزايد الضوضاء في محيط المستشفيات أو المراكز الصحية القريبة من الأسواق المفتوحة، وخصوصاً في أقسام الطوارئ والعناية المركزة، يعيق تعافي المرضى ويؤثر سلباً على جودة الرعاية المقدمة، فزيادة مستويات الضوضاء ترفع من مستويات التوتر والقلق لدى المرضى والطاقم الطبي على حد سواء، وتعيق قدرة الموظفين على التواصل الدقيق والحيوي أثناء الحالات الحرجة (يشكو الأطباء والعاملين والراقدين في مستشفيات بغداد لاسيما في اطراف العاصمة المناطق الشعبية من الضجيج الاصوات العالية للباعة المتجولين).

  2. المدارس والمؤسسات التعليمية: يُعد التحصيل الأكاديمي للطلبة مهدداً بشكل مباشر عند اختراق الضجيج الصارخ الناتج عن مكبرات الصوت والباعة لجدران الفصول الدراسية، إذ تشير الأبحاث في علم النفس التربوي إلى أن التعرض المستمر للضوضاء العالية يؤدي إلى تدهور في الأداء المعرفي للطلاب، حيث تقل قدرتهم على التركيز والاستماع للمعلومات المعقدة، ويزداد مستوى إجهادهم السمعي، وهذا التأثير يكون أكثر حدة في المراحل الأساسية للتعليم حيث تتشكل مهارات الاستماع واللغة (تشكو الهيئات التعليمية في مدارس بغداد خصصا في المناطق الشعبية من حالة الضجيج التي تصاحب اقتراب الباعة المتجولين من الأبنية المدرسية).

 

ثانيا: التداعيات الاجتماعية على الفئات الضعيفة

  1. كبار السن: تُعد هذه الفئة من الأكثر حساسية للتلوث السمعي، فبسبب التغيرات الفسيولوجية الطبيعية وانخفاض القدرة على التكيف مع المؤثرات الخارجية، ويحتاج كبار السن إلى بيئة هادئة للراحة والاستجمام، وإن الضوضاء المستمرة تؤدي إلى ارتفاع معدلات العصبية والتوتر، واضطرابات في النوم (الأرق)، وقد تسهم في تفاقم أمراضهم المزمنة المرتبطة بالضغط النفسي والقلب، وتجبرهم الضوضاء على الانعزال داخل منازلهم، مما يقلل من تفاعلهم الاجتماعي الخارجي.

  2. الطلبة في البيئة المنزلية: يواجه الطالب الذي يسكن في محيط سوق مفتوح تحدياً وجودياً في قدرته على المذاكرة بفعالية، وإن الضجيج العالي والمتقطع، لا سيما الأصوات البشرية المرتفعة، تعيق عملية التركيز المعرفي بشكل جذري، وبهذا يضطر العديد من الطلبة إلى تغيير نمط حياتهم، واللجوء إلى السهر لوقت متأخر للمذاكرة في أوقات الهدوء النسبي، مما يؤثر على جودة نومهم وصحتهم النفسية والجسدية ويقلل من فرصهم في النجاح التعليمي.

  3. الأشخاص ذوو الاحتياجات الخاصة: تفرض البيئة السمعية والفوضى الحضرية عبئاً حسياً إضافياً على الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات حسية أو معرفية، مثل اضطرابات طيف التوحد أو المشاكل السمعية، والبيئة الصاخبة تزيد من مستويات القلق وتفاقم الأعراض السلوكية، وتحد من إمكانية دمجهم واندماجهم في بيئة حضرية مستقرة.

ثالثا: المخلّفات البيئية وتدهور البيئة الجمالية: يرتبط التراجع الحضري للأسواق المفتوحة ارتباطاً وثيقاً بسوء إدارة المخلفات، مما يخلق بيئة غير صحية وغير مستدامة.

تشكل البضائع المعروضة، وبقايا الأطعمة، ومواد التغليف (البلاستيك والكرتون) كتلة هائلة من النفايات التي تُترك بعد انتهاء ساعات عمل الباعة، وإن الافتقار إلى حاويات نفايات مخصصة وكافية للباعة المتجولين يؤدي إلى تراكمها على الأرصفة وفي المجاري:

 

  1. المخاطر البيئية: يؤدي هذا التراكم إلى انسداد شبكات الصرف الصحي والمجاري المطرية، مما يزيد من احتمالية الفيضانات في مواسم الأمطار.

  2. مكافحة الحشرات والقوارض: توفير بيئة مثالية لتكاثر الحشرات والقوارض الناقلة للأمراض، مما يعرض سكان المنطقة لمخاطر صحية إضافية.

رابعا: تراجع المظهر الحضري والفوضى البصرية: إن التشويه البصري يتجاوز مجرد انعدام الجماليات ليصبح عائقاً أمام التنمية السياحية والاستثمارية. فـ “التهرئة الحضرية” الناتجة عن التداخل العشوائي للأكشاك والسلع تحجب تاريخ المدينة ومعالمها، وتخلق إحساساً عاماً بالإهمال وعدم الاهتمام:

  1. إلغاء وظيفة الأرصفة: تحويل الأرصفة من مساحات للمشاة إلى مستودعات للبضائع، مما يجبر الناس على السير في الشارع وتعريض أنفسهم لحوادث المرور.

  2. تآكل البنية التحتية: الضغط المستمر على الأرصفة، واستخدامها كمواقف للسيرات العجلات ذات الاحمال الثقيلة، يؤدي إلى تكسرها وتآكلها.

إن هذه الآثار النوعية تؤكد أن التلوث بل اشكاله لاسيما السمعي -محور حديثنا- ليس مجرد مشكلة جمالية أو تنظيمية بسيطة، بل هي قضية حقوق إنسان تتطلب تدخلاً تشريعياً عاجلاً لضمان الحق في بيئة صحية ومستقرة للجميع.

 

الموازنة بين السلب والإيجاب والحلول الممكنة

في ظل التحديات التي يفرضها التراجع الحضري والتلوث السمعي، يصبح من الضروري تحقيق التوازن بين الحاجة الاجتماعية والاقتصادية لدعم الباعة الصغار، والحاجة الحضرية الملحة لتنظيم المدينة والحفاظ على الصحة العامة.

ومن الإنصاف الإقرار بالدور الإيجابي الذي تلعبه الأسواق المفتوحة، والذي يفسر صمودها واستمرارها رغم المحاولات الدورية لإزالتها:

  1. توفير شبكة أمان اجتماعي: تُعد هذه الأسواق بمثابة مولد للوظائف ذاتية التشغيل لأعداد كبيرة من الشباب والعائلات التي لا تملك مصدراً آخر للدخل، مما يقلل من الضغط الاجتماعي على الدولة.

  2. إتاحة السلع والأسعار المنخفضة: توفر هذه الأسواق خيارات تسوق اقتصادية جداً للطبقات محدودة الدخل، وتسهم في كسر احتكار بعض السلع الأساسية.

  3. تسهيل الحصول على السلع: سهولة الوصول للسلع في الأحياء القريبة دون الحاجة للتنقل إلى المراكز التجارية الكبرى.

  4. الحيوية والتفاعل الاجتماعي: توفير مساحة للتفاعل الاجتماعي (وإن كانت فوضوية) في مجتمع يعاني من تراجع في الفضاءات العامة المخططة للتفاعل.

ووفقا لمبدأ التوازن يجب أن تنطلق أي سياسة تنظيمية من هذا الاعتراف، فالحل ليس في الإزالة القسرية التي تدمر مصدر رزق شريحة واسعة، بل في التنظيم المُدمج الذي يستفيد من حيويتهم الاقتصادية ويخفف من ارتداداتهم السلبية.

 

الاستنتاجات

ثبت لدينا أن ظاهرة الأسواق المفتوحة والباعة المتجولين في بغداد، رغم أنها نتاج لدوافع اقتصادية واجتماعية مشروعة، إلا أنها أصبحت السبب الأبرز في تفاقم ظاهرة التراجع الحضري وتدهور جودة الحياة الحضرية، لاسيما عبر توليدها لمستويات غير مقبولة من التلوث السمعي والمخلفات البيئية، ويمكن تلخيص الاستنتاجات كالآتي:

  1. أزمة تنظيم لا أزمة وجود: إن المشكلة الحقيقية ليست في وجود الاقتصاد غير الرسمي، بل في فشل المؤسسات البلدية في استيعابه وتنظيمه ضمن إطار حضري يحترم الفضاء العام وحقوق السكان.

  2. التكلفة الخفية: إن انخفاض أسعار السلع في هذه الأسواق يقابله تكلفة خفية باهظة تدفعها المدينة وسكانها، تتمثل في تدهور الصحة العامة (بفعل الضوضاء)، وتشويه المظهر الجمالي (الفوضى البصرية)، وتآكل البنية التحتية.

  3. التلوث السمعي كخطر مهمل: يُعد التلوث السمعي الناتج عن مكبرات الصوت والضجيج العشوائي أشد مظاهر التراجع إهمالاً، وهو يتطلب تدخلاً تشريعياً ورقابياً عاجلاً للحد من آثاره الفسيولوجية والنفسية على السكان.

 

التوصيات والحلول

تتطلب معالجة هذه الظاهرة استراتيجية شاملة تتبناها الحكومة المركزية والبلديات، قائمة على التنظيم والاستثمار، وليس على الإقصاء والقمع:

 

أولا: التنظيم عبر البدائل الحضرية: بدلاً من مطاردة الباعة، يجب على البلديات تنفيذ خطط لإنشاء أسواق بديلة ومخططة:

  1. تخصيص أسواق شعبية منظمة: تحديد وتجهيز مساحات مركزية بعيدة عن الطرق الرئيسة كـ “ساحات تجارية شعبية” مزودة بالخدمات الأساسية (الماء، الكهرباء، حاويات النفايات، مرافق صحية).

  1. إدارة المساحات المؤقتة: السماح بالتجوال في ساعات محددة أو في أيام معينة (أسواق يوم الجمعة مثلاً) في مساحات محددة مسبقاً، مع تطبيق رسوم رمزية.

  2. دعم الباعة الصغار: تحويل الباعة المتجولين إلى وحدات اقتصادية مصغرة مسجلة لدى البلدية، ومنحهم تراخيص مؤقتة مقابل التزامهم بالضوابط الحضرية والبيئية.

 

ثانيا: فرض الضوابط البيئية والصحية: لمواجهة التلوث السمعي والمخلفات، يجب تفعيل الإطار القانوني والرقابي:

تنفيذ قانون مكافحة الضوضاء: سن قانون محدد يحدد بوضوح مستوى الضجيج المسموح به في الأماكن العامة، ويفرض غرامات مالية صارمة على استخدام مكبرات الصوت المزعجة التي تتجاوز الحد المقرر.

 

  1. إدارة المخلفات في المصدر: إلزام الباعة باستخدام حاويات مخصصة، وتوفير خدمات رفع نفايات مخصصة للأسواق المفتوحة بعد انتهاء ساعات العمل مباشرة، مع فرض عقوبات بيئية على المخالفين.

  2. تشديد الرقابة الصحية: تكثيف حملات التفتيش على الأغذية المكشوفة وضمان شروط التخزين الصحية لمنع انتشار الأمراض.

ثالثا: حملات التوعية وبناء الثقافة المدنية: يجب أن تترافق الإجراءات التنظيمية مع رفع مستوى الوعي لدى جميع الأطراف:

  1. توعية الباعة: إقامة ورش عمل بسيطة للباعة حول أهمية النظافة، وتقليل الضوضاء، وسلامة الأغذية.

  2. التوعية المجتمعية: توعية المواطنين بأهمية الفضاء العام وحق المشاة في استخدام الأرصفة، وتشجيعهم على الإبلاغ عن المخالفات السمعية والبيئية.

 

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى