اعداد: مركز الفيض العلمي لاستطلاع الرأي والدراسات المجتمعية
يمثل يوم النصر العراقي على تنظيم داعش الإرهابي نقطة تحول مفصلية، نبعت قوتها الأساسية من الاستجابة الوطنية للتضحية، ولم يكن الإنجاز العسكري سوى منعكس فعلي ومنطقي لصحوة قيمية عارمة، قادتها فتوى الجهاد الكفائي وكرّستها رمزية الشهادة والدماء الزاكيات، وهذه الظاهرة تتجاوز منطق التضحية الفردية لتتحول إلى رأس مال قيمي (Value Capital) يُستثمر بعمق في إعادة بناء الوعي الجمعي وإرساء قِيم الإيثار المطلق.
إن استثمار الدم الزكي هنا يُعد دفاعًا استباقيًا ضد منطق الفناء العدمي الذي تتبناه الأفكار المتطرفة، حيث تُصبح التضحية جسرًا بين الوجود المادي والقيمة الخالدة، وهذه المعادلة الوجودية هي ما منحت التعبئة الشعبية شرعيتها المطلقة، ليس فقط كضرورة للدفاع عن الأرض، بل كواجب أخلاقي (Moral Imperative) للحفاظ على النسق القيمي للمجتمع من التحلل والانهيار، بالتالي، أضحت الشهادة آلية لتحييد الأيديولوجيات التي تتخذ من التضحية والانتقام هدفًا لها، من خلال تقديم أنموذج مضاد يُعلي قيمة الحياة والوطن.
نحاول في إطلالتنا المتواضعة هنا تحليل الأبعاد الفلسفية، العقائدية، السيكولوجية، والسوسيولوجية للشهادة، مع التركيز على كيفية تحويلها إلى آلية دفاع مجتمعية ووقائية مُستدامة (Sustainable Defense Mechanism) ضد كل أشكال الاختراق الفكري والتهديدات الوجودية التي تستهدف البناء الاجتماعي العراقي.
إن فاعلية الشهادة كرمز تحصين تبدأ من تأصيل الدافع الذي يرفعها فوق الحسابات المادية والنفعية، وهو ما منح التعبئة الوطنية شرعيتها العميقة وقوتها الوجودية.
الشهادة كتجاوز وجودي (الفلسفة والميتافيزيقا): في الإطار العقدي، يمنح القرآن الكريم الشهيد مكانة تتجاوز منطق الفناء المادي، بتحويل الموت الجسدي إلى وجود أبدي وقيمة خالدة، كما ورد في الآية الكريمة: “بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ” (آل عمران: 169)، وهذا المفهوم يُشكّل تجاوزًا فلسفيًا للموت، ويمنح الفعل دافعًا وجوديًا قويًا (Existential Drive)، وإن الإيمان بهذه المرتبة يُلغي الحافز الفردي للبقاء ويستبدله بالحافز الجمعي للبذل المطلق.
هذا التجاوز الوجودي يمثل إجابة قاطعة للأسئلة الميتافيزيقية عن معنى الحياة والموت في سياق الواجب المقدس، وإن الشهيد، من هذا المنظور، لا يختار الموت، بل يختار النوع الأسمى من الحياة والقيمة، وإنها عملية تحويل الخسارة المادية (الفرد) إلى ربح معنوي مطلق (الوطن والقيمة)، مما يجعله فعلاً ذا طابع “لا مادي” خالص يرفض الخضوع لقوانين النفعية البحتة.
الجهاد الكفائي كآلية تعبئة (عقائدية-اجتماعية) مثّلت فتوى الجهاد الكفائي استثمارًا مباشرًا لهذه الجذور العقدية والفلسفية، حيث رفعت التلبية للواجب الوطني إلى مستوى التكليف المقدس، وهذه الفتوى لم تكن مجرد دعوة عسكرية، بل كانت استجابة مؤسسية (Institutional Response) أعادت صياغة علاقة الفرد بالدولة والمجتمع على أساس التضحية الكفائية.
لقد نجحت هذه الفتوى في سد الفجوة بين الالتزام الديني والضرورة الوطنية، محولةً الواجب الديني من فردي إلى جمعي شامل، وهذا التحول الجذري في التكليف خلق شرعية شعبية وأخلاقية لا تُضاهى للعملية الدفاعية، وتجاوز الانقسامات التقليدية، وهذا التحرك الواسع والسريع من الجمهور العراقي من أبناء الوسط والجنوب وبعض المحافظات المتضررة، خلق شرعية شعبية وأخلاقية للعملية الدفاعية، وهو ما شكّل الأساس الذي بنى عليه المجتمع دفاعه الصلب ضد التهديد الوجودي لداعش.
التضحية كـ “واجب أخلاقي” مطلق: من المنظور الفلسفي الأخلاقي (Deontology)- وتحديدًا فكرة الواجب بحسب بعض الفلسفات- حيث تُعد التضحية بالنفس دفاعًا عن الوطن والقيم الإنسانية أقصى درجات الإيثار (Altruism)، وهذا الفعل يمثل الواجب الأخلاقي المطلق، حيث يُضحّي الفرد بمصلحته العليا لصالح القيمة الكبرى (الوطن والمجتمع).
هذه التضحية تصنع أنموذجًا أخلاقيًا متساميًا يمثل نقيضًا قيميًا للمنطق المادي الأناني الذي تحاول الأفكار المنحرفة استغلاله، وفي مواجهة ثقافة الانفلات الأخلاقي والفردية المفرطة التي يغذيها التطرف أو النفعية، يُعد فعل الشهادة تأسيسًا لـقانون أخلاقي داخلي غير مشروط، يتمحور حول الإيثار المطلق، وهذا الأنموذج هو حجر الزاوية في التحصين الأخلاقي للمجتمع ضد الأنانية والعدمية.
ثانيا: الأثر السيكولوجي والاجتماعي في بناء “المَنَعَة الجماعية”
تنتقل وظيفة الشهادة من التأصيل الفكري إلى التطبيق العملي في بناء الدفاعات المجتمعية الداخلية (Social and Psychological Defense Mechanisms)، وهذه الرمزية لا تعالج تهديدًا خارجيًا فحسب، بل تُعيد تشكيل البنية النفسية والاجتماعية للمجتمع من الداخل.
سيكولوجيا الإيثار وبناء الصلابة الجمعية: من الناحية السيكولوجية، فإن قصص تضحيات الشهداء تُعد نماذج أولية بطولية (Heroic Archetypes) تُشعل الوعي الباطني، ورؤية الآخرين وهم يقدمون أقصى التضحيات في سبيل حماية الوطن تُعزز من الصلابة النفسية الجمعية (Collective Resilience)، وهذه الظاهرة تُلغي مشاعر العجز وتُحوّل الصدمة إلى طاقة جماعية إيجابية موجهة نحو العمل والبناء، كما أنها تُنشئ شعورًا قويًا بالمسؤولية الكفائية المشتركة، حيث يتولد لدى الأفراد إحساس بأنهم جميعًا مدينون بـ حصة من الواجب.
إن تفعيل هذه النماذج البطولية يعمل كمحفز نفسي (Psychological Catalyst)، يكسر حواجز الخوف الفردي ويستبدله بالاندفاع نحو الالتزام الاجتماعي، والأهم من ذلك، أن رمزية الشهيد تُسهم في تحويل الهُوية النفسية الجمعية من حالة المتلقي السلبي للتهديد أو الضحية، إلى حالة الفاعل التاريخي (Historical Agent) وصانع النصر، وهذا التحول يرفع مستوى الكفاءة الذاتية الجماعية (Collective Self-Efficacy) ويُقلل من مستويات القلق الاجتماعي، مما يمثل تحصينًا مباشرًا ضد محاولات العدو لزرع اليأس والإحباط.
الشهيد كـعامل تماسك اجتماعي وتشكيل الهُوية الوطنية: في إطار علم الاجتماع (نظرية الهُوية الاجتماعية)، تُصبح دماء الشهداء الأبرار من مختلف التشكيلات والانتسابات قاسمًا مشتركًا للدم، حيث تذوب الهويات الفرعية تحت الهوية الجامعة، وهذا يعزز الضمير الجمعي (Collective Conscience)- وفقًا لدوركهايم- ويُشكل هُوية وطنية متجددة ترى في الوحدة ضمانتها الوجودية.
ووفقاً لـنظرية الهوية الاجتماعية (Social Identity Theory)، فان التضحية المشتركة تسهم في تعزيز مفهوم “الهوية الوطنية” (In-group Identity) على حساب هوية الآخر (Out-group Identity) الذي يمثله الإرهاب، وإن الشهيد يُصبح الرمز المركزي الذي يوحّد الانتماء، مما يُقلل من التصدعات الداخلية، علاوة على ذلك، فإن هذه التضحية تُنتج رأس مال الثقة الاجتماعية (Social Trust Capital)، حيث يعزز الإيمان المشترك بأن الآخرين مستعدون للتضحية من أجلك، الروابط الأفقيّة بين المواطنين، وهذا التماسك الاجتماعي الناتج عن التضحية هو بحد ذاته آلية وقائية تمنع تفكك المجتمع الذي لطالما كان هدفًا للتهديدات الوجودية.
الذاكرة والتعويض النفسي والسياسي: تؤدي طقوس التكريم والاحتفاء بالشهداء دورًا حيويًا كآلية نفسية- اجتماعية للتعويض عن الفقد، وتساعد في معالجة الصدمة الجمعية، وإن إقامة النصب التذكارية والاحتفال بـ يوم النصر العراقي هي عمليات مستمرة لتأكيد أن “هذا الفقد لم يذهب سدى”، مما يُنشئ ذاكرة وقائية تُحفّز الأجيال للحفاظ على الإنجاز.
وهذه الطقوس لا تقتصر على مجرد التخليد، بل تعمل كمنصة للذاكرة الجمعية (Collective Memory Platform) تضمن عدم نسيان الثمن الباهظ للوحدة والمنعة، ويجب أن تكون هذه الذاكرة ذاكرة مُحايدة وموحدة، تُركّز على الفعل الوطني المشترك، وليس على الانتماءات الضيقة، سياسيًا، تمنح هذه الذاكرة المشتركة شرعية أخلاقية عميقة للعملية السياسية ما بعد التحرير، وتضع معايير عالية للمساءلة والالتزام الوطني للطبقة السياسية، على أساس الدماء التي سُفكت من أجل التحرر، وهذا التذكير المُستدام يُمثّل عقدًا اجتماعيًا جديدًا غير مكتوب بين الدولة والمواطن يقوم على أساس البذل والإيثار.
تشييع مهيب لعدد من شهداء الحشد الشعبي
ثالثا: الشهادة كـمنصة وقائية وتحصين ضد الاختراق الفكري
الشهادة والمناعة القيمية ضد الأيديولوجيات المتطرفة: تُنشئ التضحية الوطنية مناعة قيمية قوية (Moral Immunity)، وإن التباين الصارخ بين قيمة الدم الزكي المضحى به للدفاع عن الحياة والوطن (قيم إنسانية)، وبين أيديولوجيا التطرف (التي تقدس القتل والانتقام)، يخلق حاجزًا معرفيًا وسيكولوجياً (Cognitive-Psychological Barrier).
هذا الحاجز لا يعمل فقط على المستوى العاطفي، بل يرسخ أيضاً التحصين المعرفي (Cognitive Inoculation)، فبمجرد أن يُرسخ المجتمع قناعة بأن التضحية الحقيقية هي دفاع عن الحياة والوحدة، يصبح من الصعب جداً عليه معالجة أو تقبّل الأفكار المنحرفة التي تدعو إلى التكفير والتقسيم وتدمير الذات، وهذه الأفكار المنحرفة هي نقيض لكل ما ضحى لأجله الشهداء، مما يجعل قبولها صعبًا جدًا على المستوى الجماهيري لتعارضه الجذري مع الوعي القيمي المؤسس.
تحويل الولاء وتأمين البناء الاجتماعي: تساعد رمزية الشهيد في إعادة توجيه واجب الولاء وتطهيره من الانتماءات الضيقة (الطائفية أو الإثنية) ليتجه بالكامل نحو الولاء للوطن كـمجال مقدس مشترك.
هذا التحويل يُعد آلية وقائية فاعلة لتفكيك بؤر الانقسام وبؤر الإيواء الفكري التي يمكن أن تستغلها الجماعات المتطرفة، وإن دماء الشهداء تمثل صكًا اجتماعيًا يفرض أن يكون الولاء الأول والأخير للدولة الوطنية، التي ضحى الأبطال من أجل بقائها موحدة، وهذا يُعزز الولاء المؤسسي (Institutional Loyalty) ويدعم بناء المؤسسات العسكرية والأمنية والمدنية الموحدة، وإن توحيد الولاء على أساس التضحية المشتركة هو خط الدفاع الأول ضد محاولات الاختراق الفكري التي تستهدف البناء الاجتماعي وتُضعف الدولة من الداخل.
استثمار الرمز في برامج التحصين والوقاية الفكرية: لضمان استدامة السلم المجتمعي، يجب أن ترتكز البرامج الوقائية وبرامج مكافحة التطرف على رمزية الشهيد، وإن توظيف قصص وتضحيات الشهداء الأبرار في المناهج التعليمية والخطاب الوطني والإعلامي يُرسّخ ثقافة الإيثار، والقبول الاجتماعي، والمسؤولية الوطنية.
هذا الاستثمار الرمزي لا يهدف فقط إلى التكريم، بل إلى بناء النسق القيمي (Value System) للمواطن الجديد، ويجب أن يتم ذلك عبر آليات منهجية ومبرمجة تشمل إعادة صياغة المناهج التعليمية لتجعل من قصة النصر والقيم التي أنتجها مادة أساسية، وإطلاق برامج السفراء القِيميين من عوائل الشهداء لنقل هذه القيم إلى المحيط الاجتماعي، فضلا عن إنشاء مراكز بحثية متخصصة في دراسة الرأس المال القيمي للشهادة وكيفية استثماره في حوكمة الدولة، وهذا يضمن تحصين الأجيال القادمة من الاختراقات الفكرية وقبول الأفكار المنحرفة التي تزعزع البناء الاجتماعي.
تأسيسًا على ما سبق يمكن القول إن التضحية ضمانة لاستدامة المَنَعَة، ونستنتج أن تجربة النصر العراقي أثبتت أن الشهادة ليست مجرد حادثة عسكرية، بل هي رمز البدء المتجدد وعنصر حيوي في استراتيجية التحصين الوطنية الشاملة، وقد أسست الدماء الزاكيات لمناعة قيمية ولوعي جمعي يرفض التقسيم والانقياد للأفكار الهدامة، وإن الشهادة، بوصفها رأس مال قيمي غير قابل للنضوب، تُمثّل الأساس الذي بنيت عليه الصلابة النفسية الجمعية، وعززت رأس مال الثقة الاجتماعية، وقدمت النموذج الأخلاقي المضاد لكل أشكال التطرف والعدمية. لقد نجح هذا الرمز في تحقيق تحويل الولاء من الهويات الضيقة إلى الولاء للوطن كمجال مقدس مشترك.
وسوف تبقى توصيتنا الأكاديمية بضرورة الاستدامة الفاعلة لتوظيف رمزية التضحية في الخطاب الوطني والبرامج الوقائية لضمان سلامة البناء الاجتماعي من أي تهديدات مستقبلية، والحفاظ على مَنَعَة العراق وقوته، وهذا الاستثمار الرمزي هو الضمان الحقيقي بأن كلفة النصر لن تذهب سدى.
سلام على دمائهم الزكية التي روت أرض الوطن لتزهر نصرًا وعزة..
وسلام على تضحياتهم التي أصبحت رمزًا خالدًا للوحدة والفداء..
جعلهم الله في أعلى مراتب الجنان، وجزاهم خير الجزاء عن العراق والعراقيين.