بقلم: د. مصطفى سوادي جاسم
باحث في مركز الفيض العلمي لاستطلاع الرأي والدراسات المجتمعية
أصبح التعليم الأهلي أحد أهم المتغيرات في المشهد التربوي العراقي خلال العقدين الأخيرين، ليس فقط بسبب اتساع رقعة المدارس الأهلية، بل بسبب التغير العميق في نظرة المجتمع إلى المدرسة الحكومية وكفاءتها، فمع تراجع الأبنية، واكتظاظ الصفوف، وتدهور جودة الخدمات التعليمية، اتجهت نسبة متزايدة من الأسر العراقية إلى التعليم الأهلي بحثاً عن تعليم أفضل، أو بيئة أكثر انضباطاً، أو خدمات لغوية وتكنولوجية لا توفرها المدارس الحكومية، ويكتسب التعليم الأهلي أهمية إضافية كونه رافداً استراتيجياً للتعليم الوطني، فهو يوفّر فرصاً تعليمية موازية، ويخفف الضغط على النظام العام، ويسهم في تنويع الخيارات التربوية بما يتناسب مع قدرات الطلاب المختلفة، كما يعد منصة لتطوير المناهج الحديثة والتقنيات التعليمية التي قد تعجز عنها المدارس الحكومية.
غير أن هذا القطاع، برغم أهميته، يعاني من مشكلات جمة تهدد استدامته وجودته، وتشمل أزمة الملاك التعليمي، تفاوت جودة المدارس، طابع التعليم التجاري، نقص البيانات والإحصاءات، وارتفاع الرسوم، فضلاً عن تأثيره على التعليم الحكومي والاقتصاد الوطني، ويجعل هذا الواقع من دراسة التعليم الأهلي ضرورة علمية لفهم طبيعة القطاع، وأبعاده الاجتماعية والاقتصادية، ودور الدولة في تنظيمه، ومدى اتساقه مع الهدف الوطني في تحقيق تعليم عادل ومتين للجميع.
مشكلة المقال
تتمثل مشكلة المقال في السؤال الرئيس الآتي:
إلى أي مدى أسهم التعليم الأهلي في تحسين منظومة التعليم في العراق، وما هي الإشكاليات البنيوية والتنظيمية التي تحدّ من فاعليته وتجعله مصدراً للتفاوت والعبء الاقتصادي؟
ويتفرع عنه سؤالان فرعيان:
-
كيف تعاملت الدولة العراقية مع هذا القطاع؟
-
وما أثر هذا القطاع على المستوى العلمي والاقتصادي مقارنة بالنماذج الدولية؟
أهمية المقال
-
يكشف مناطق الخلل البنيوي والإداري في تنظيم التعليم الأهلي.
-
يربط بين الآثار التربوية والاقتصادية في تحليل واحد.
-
يقدم مقارنات دولية تتيح استخلاص سياسات واقعية.
-
يسهم في بناء قاعدة معرفية لبحوث الترقية وصنع القرار التربوي.
أولاً: النمو التاريخي للتعليم الأهلي في العراق
يعود التعليم الأهلي في العراق إلى بدايات القرن العشرين، لكنه ظل محدوداً حتى 2003. وبعد ذلك، أصبح القطاع ينمو بنسب مرتفعة لأسباب عدة:
-
انهيار البنى التحتية الحكومية بعد الحروب.
-
زيادة أعداد الطلبة بشكل يفوق قدرة الدولة.
-
انتقال المجتمع إلى نمط تعليمي يعتمد على الخدمات الإضافية (لغات- حاسوب- نشاطات).
-
ضعف الجودة في المدارس الحكومية، ما دفع الأسر نحو البدائل.
يشير هذا النمو إلى أن التعليم الأهلي أصبح ظاهرة اجتماعية قبل أن يكون سياسة تنموية.
ثانياً: الإطار القانوني والتنظيمي– قراءة نقدية
على الرغم من وجود قوانين تنظم افتتاح المدارس، وشروط الأبنية، والمناهج، إلا أن الإطار القانوني يعاني من:
-
غياب معايير جودة أكاديمية واضحة تتعلق بالكادر، المناهج، وسائل الإيضاح، والخدمات.
-
تفاوت كبير في قدرة الإشراف التربوي على الرقابة الميدانية بسبب قلة الملاكات.
-
غياب نظام للتصنيف الوطني للمدارس الأهلية حسب الجودة.
-
ضعف العقوبات على المدارس المخالفة، ما يجعلها تعمل دون ضغط رقابي حقيقي.
-
عدم وجود شفافية مالية حول الرسوم وهيكل التكلفة.
-
إن القوانين الحالية تحكم “الشكل الإداري” لكنها لا تحكم “جوهر الجودة”.
ثالثاً: الإشكاليات البنيوية للتعليم الأهلي في العراق
-
تفاوت الجودة في التعليم الأهلي: يمثل أحد أبرز الإشكالات التي جعلت هذا القطاع غير متجانس وغير قادر على تكوين صورة واضحة لدى المجتمع، إذ يضم من جهة مدارس متميزة ذات مستوى عالمي في البنى التحتية والمناهج والملاكات، ومن جهة أخرى مدارس ضعيفة تُدار بعقلية تجارية، وتقدم الحد الأدنى من المتطلبات دون التزام حقيقي بالمعايير الأكاديمية، هذا التباين الواسع أربك الأسر، وحرَمها من القدرة على التمييز بين المدرسة الجيدة والمدرسة التجارية في ظل غياب نظام وطني شفاف لتصنيف المدارس استناداً إلى معايير موضوعية.
وتُظهر التجارب الدولية أن التعليم الأهلي يتحول إلى قوة إيجابية فقط عندما يخضع لمنظومة معايير وضوابط شاملة تشمل جودة الملاك، والإدارة، والبنى التحتية، والتقييم المستمر، أما في العراق، فإن ضعف الرقابة وغياب هذه المنظومة يجعل القطاع عرضة للتفاوت والفجوات، ويمنع تحوله إلى رافد تربوي متماسك، رغم الإمكانات الكبيرة الكامنة فيه.
-
أزمة الملاك التعليمي في المدارس الأهلية: تمثل إحدى الإشكاليات البنيوية الأكثر تأثيراً في جودة التعليم الأهلي في العراق، إذ تعتمد نسبة واسعة من هذه المدارس على كادر شاب محدود الخبرة أو على معلمين برواتب متدنية لا تتناسب مع حجم المسؤولية التربوية الملقاة على عاتقهم، الأمر الذي ينعكس بصورة مباشرة على استقرار العملية التعليمية، فضعف الرواتب وغياب الضمانات الوظيفية يؤديان إلى اهتزاز الاستقرار الوظيفي، إذ يعجز المعلم عن الاستمرار طويلاً في المؤسسة، ويتطلع دائماً إلى الانتقال نحو فرص أفضل في المدارس الحكومية أو الخارج، مما يجعل الملاك قابلاً للاهتزاز في أي لحظة، ومع نهاية كل عام دراسي، تظهر مشكلة التغيّر السنوي للكوادر التعليمية بوصفها سمة ملازمة لكثير من المدارس الأهلية، فلا يكاد الطالب يستقر على أسلوب معلم أو منهجية صفّية معينة حتى يجد نفسه أمام وجه جديد، وهو ما يسبب خللاً في استمرارية التعلم ويضعف العلاقة التربوية التي تُعد جزءاً جوهرياً من نجاح التعليم.
ولا يقف الأمر عند حدود الحراك الوظيفي، إذ ينعكس ذلك بشكل أعمق على المستوى العلمي والتربوي، فالمعلم قليل الخبرة أو المرهق بحجم الأعباء المعيشية لا يمتلك القدرة على توظيف استراتيجيات تعليمية متقدمة أو بناء بيئة صفّية جاذبة ومحفّزة، كما يفقد القدرة على تطوير مهاراته المهنية لعدم وجود برامج تدريب حقيقية داخل المدارس الأهلية أو دعم حكومي مؤسسي.
-
تجارية التعليم: أصبحت إحدى الظواهر المقلقة في بعض المدارس الأهلية، حيث تحوّل التعليم من رسالة تربوية إلى مشروع ربحي بحت يُدار بعقلية السوق لا بعقلية المدرسة، ففي ظل ضعف الرقابة وغياب معايير الجودة الملزمة، لجأت بعض المؤسسات إلى التركيز على التسويق والمظاهر الخارجية بدل الاستثمار في الكادر والبنية التعليمية، مما أفرغ التجربة التعليمية من مضمونها الحقيقي، ويتجلى ذلك في المبالغة الكبيرة في نسب النجاح بهدف جذب مزيد من الطلبة وإقناع الأسر بجودة غير حقيقية، الأمر الذي خلق مخرجات تعليمية شكلية لا تستند إلى أداء علمي راسخ، كما لجأت بعض المدارس إلى تخفيف القواعد الانضباطية لمجاملة الطلبة وضمان بقائهم، ما أضعف البيئة الصفّية وأفقدها الطابع التربوي المطلوب لبناء شخصية منضبطة ومسؤولة، إلى جانب ذلك، يظهر غياب برامج تدريب حقيقية للمعلمين بوصفه أحد أبرز مظاهر العقلية التجارية، إذ إن الاستثمار في تطوير الملاك يُعد كلفةً إضافية لا ترغب تلك المدارس بتحمّلها، مما ينعكس في النهاية على ضعف جودة التدريس وتراجع مستوى إتقان الطلبة لمهارات القرن الحادي والعشرين.
وبهذا يصبح التعليم التجاري نمطاً يعيد إنتاج الضعف ويرسّخ الفجوات، ما لم يُقابل بسياسات حازمة تعيد التوازن بين الجانب الاستثماري والرسالة التربوية.
-
النقص الحاد في البيانات: يُعدّ من أبرز العوائق التي تحدّ من قدرة الدولة والباحثين على فهم واقع التعليم الأهلي في العراق وتطويره. فغياب قاعدة بيانات وطنية شاملة يجعل القطاع يعمل في مساحة ضبابية لا تسمح بقياس الجودة أو مقارنة الأداء أو وضع سياسات إصلاح مبنية على الأدلة. فلا تتوافر معلومات دقيقة حول نسب النجاح الحقيقية بعيداً عن الترويج أو المبالغات، ولا بيانات موثوقة عن مؤهلات الكوادر التعليمية من حيث الخبرة والتخصص والتدريب، كما تغيب الإحصاءات الدقيقة المتعلقة بنسب التسرب داخل المدارس الأهلية، وهي مؤشر جوهري على فعالية البيئة التعليمية. وإلى جانب ذلك، لا توجد مقارنة منهجية تعكس الفروق الحقيقية بين الأداء في المدارس الأهلية والحكومية، مما يحرم صانع القرار من رؤية واضحة حول مكامن القوة والضعف في كل قطاع. هذا الضعف في منظومة البيانات يمنع الجامعات والباحثين والمؤسسات التربوية من إعداد دراسات علمية رصينة، كما يقيّد قدرة الدولة على تمييز المدارس الأكثر جودة من بين الكمّ الهائل من المدارس القائمة، ويجعل عملية التخطيط أشبه بجهد يعتمد على الانطباعات لا على الأدلة، وهو ما يعرقل بناء سياسة تعليمية وطنية تستند إلى المعلومات وتوجّه القطاع نحو تحسين حقيقي ومستدام.

رابعاً: الآثار العلمية للتعليم الأهلي
-
أثر التعليم الأهلي على التحصيل الدراسي: لا يمكن تفسيره ببساطة من خلال نسب التفوق التي تعلنها المدارس الأهلية، لأن جزءاً كبيراً من هذا التفوق لا يرتبط مباشرة بجودة المدرسة نفسها، بل يرتبط بعوامل اجتماعية واقتصادية وتعليمية موازية تحيط بالطالب، فقد أظهرت العديد من الدراسات أن طلبة المدارس الأهلية يحققون نتائج أفضل غالباً بسبب الخلفية الاجتماعية- الاقتصادية للأسر، إذ تنتمي نسبة كبيرة منهم إلى عائلات قادرة على توفير بيئة داعمة، ووسائل تعليم إضافية، واستقرار أسري ونفسي ينعكس إيجاباً على التحصيل الدراسي، كما يلعب انتشار الدروس الخصوصية دوراً محورياً في تعزيز أداء هؤلاء الطلبة، إذ يلجأ كثير من أولياء الأمور إلى تأمين دروس إضافية لتعويض ضعف المدرسة أو رفع مستوى أبنائهم، مما يجعل نتائج الامتحانات انعكاساً لجهود خارج المدرسة أكثر من كونها مؤشراً لجودة التعليم الأهلي ذاته، وإلى جانب ذلك، تسهم الصفوف الصغيرة- المتاحة عادة في المدارس الأهلية- في زيادة قدرة المعلم على متابعة الطالب، وهو عامل مهم لكنه لا يرتبط بالضرورة بنظام تربوي متماسك أو سياسات جودة داخل المؤسسة.
من هنا، فإن تفوق طلبة المدارس الأهلية لا يُعد دليلاً حاسماً على جودة النظام الأهلي، بل مؤشرًا مختلطاً يتداخل فيه تأثير الأسرة، والدروس الخصوصية، وحجم الصف، مع تأثير المدرسة نفسها.
2. أثر التعليم الأهلي على النتائج النهائية: لا يمكن قراءته بمعزل عن مجموعة من الممارسات التي قد ترفع نسب النجاح شكلياً دون أن تعكس المستوى الحقيقي للطلبة، فالكثير من المدارس الأهلية تميل إلى التساهل في التقويم الداخلي، سواء عبر إعطاء درجات أعلى من المستوى الفعلي أو تخفيف أساليب المحاسبة الأكاديمية، بهدف رفع المعدلات النهائية قبل الوصول إلى الامتحانات النهائية، كما يلعب ضغط أولياء الأمور دوراً مؤثراً في هذه الظاهرة، إذ تطالب بعض الأسر- باعتبارها دافعة للأجور- بنتائج مرتفعة أو بتسهيلات معينة، ما يجعل المدرسة تخشى فقدانهم لصالح مدرسة منافسة. هذا الضغط يخلق بيئة تقييم غير مستقرة ويقود إلى ممارسات تُضعف الضبط التربوي داخل المدرسة. وإلى جانب ذلك، تتصرف بعض المدارس بدافع الحفاظ على سمعتها في السوق، فارتفاع نسب النجاح أصبح أداة تسويقية تُستخدم لجذب المزيد من الطلبة، ما يدفع إدارات بعض المدارس إلى التركيز على النتيجة النهائية بدلاً من جودة التعلم ذاته. ونتيجة لهذه العوامل مجتمعة، تصبح النسب الوزارية المرتفعة في بعض المدارس الأهلية مؤشراً يحتاج إلى تفكيك، لأنها قد تعكس ضغطاً أو تساهلاً أو حسابات تسويقية، أكثر مما تعكس تقدماً علمياً حقيقياً.
-
تأثير التوسع في التعليم الأهلي على التعليم الحكومي: أصبح من القضايا المحورية التي أعادت تشكيل المشهد التربوي في العراق خلال السنوات الأخيرة، إذ ترتبت عليه مجموعة من الآثار العميقة التي طالت بنية المدرسة الحكومية وكفاءتها، أول هذه الآثار هو هجرة الكفاءات؛ فارتفاع الرواتب نسبيًا (لبعض التخصصات ولبعض الأسماء المهمة من المدرسين) أو توافر فرص العمل الأكثر مرونة في المدارس الأهلية دفع كثيراً من المعلمين والمدرسين المتميزين إلى ترك المدارس الحكومية، أو العمل المزدوج، ما أضعف استقرار الملاك في المدرسة الحكومية، وأفقدها جزءاً من خبراتها المتراكمة، وإلى جانب ذلك، أدى توسّع التعليم الأهلي إلى تعميق الفجوة بين الطالب المقتدر وغير المقتدر، فالعائلات ذات الدخل المرتفع أصبحت قادرة على شراء فرص تعليمية أفضل، في حين بقي الطالب من الطبقات الفقيرة محصوراً في مدارس حكومية تعاني من الاكتظاظ وضعف البنى التحتية، وهو ما يهدد مبدأ تكافؤ الفرص ويحوّل التعليم من حقّ اجتماعي إلى طبقية تعليمية، كما أفضى هذا الواقع إلى انخفاض الثقة بالمؤسسة التعليمية الحكومية، إذ أصبح كثير من الأسر ينظر إلى المدرسة الحكومية بوصفها الخيار الأقل جودة، مما قلّل من انخراط المجتمع في دعمها، وأضعف الضغط الشعبي لإصلاحها، وبهذا، فإن التعليم الأهلي- بدلاً من أن يكون رافداً للتعليم الحكومي- أصبح في بعض الحالات منافساً غير متكافئ، ينتج اختلالات تؤثر على العدالة والجودة في النظام التعليمي ككل.
خامساً: الآثار الاقتصادية والاجتماعية
-
العبء الاقتصادي على الأسر: بات أحد أبرز نتائج التوسع غير المنضبط في التعليم الأهلي، إذ ارتفعت الرسوم الدراسية خلال السنوات الأخيرة بشكل جعلها تتجاوز قدرة كثير من العائلات، ولا سيما الطبقة الوسطى التي كانت تُعدّ سابقاً الأكثر اعتماداً على هذا النوع من التعليم. وقد أدّى هذا الارتفاع إلى لجوء بعض الأسر إلى الاستدانة لتغطية الرسوم، أو تأجيل نفقات أساسية مثل العلاج أو تحسين السكن أو دعم الأبناء في مجالات أخرى، في محاولة للحفاظ على مقعد أبنائهم في المدارس الأهلية. كما خلق هذا الوضع حالة من الضغط النفسي على الوالدين والطلبة معاً، فالأسرة تشعر بعبء مالي دائم، والطالب يتعرض لضغط غير مباشر كي يثبت استحقاق هذا الإنفاق العالي. وبهذا تتحول الرسوم المرتفعة من مجرد تكلفة تعليمية إلى عامل يؤثر في الاستقرار الأسري والرفاه الاجتماعي، ما يبرز الحاجة إلى سياسات تنظيمية تضمن عدالة الرسوم وتربطها بمعايير واضحة للجودة.
-
تحوّل التعليم الأهلي إلى قطاع ربحي: أوجد واقعاً جديداً في العراق، حيث دخلت العديد من المدارس إلى السوق بوصفها مشاريع استثمارية هدفها الأول تحقيق عائد مالي سريع، لا بناء منظومة تعليمية مستقرة أو تطوير جودة التعلم. وفي ظل هذا الاتجاه، ظهرت ثلاث مشكلات مركزية: أولها ضعف الرقابة المالية، إذ لا توجد آليات صارمة تُمكّن الدولة من متابعة الإيرادات والمصروفات وضمان أن تُوجَّه نسبة كافية من الدخل نحو تطوير البيئة المدرسية والملاك التعليمي. وثانيها غياب سقوف واضحة للرسوم، ما سمح لبعض المدارس بفرض أجور لا تتناسب مع خدماتها، وبفوارق كبيرة بين مدرسة وأخرى دون أي مبرر تربوي أو تشغيلي. أما ثالثها فهو غياب الشفافية في الإنفاق، فلا يستطيع أولياء الأمور معرفة أين تُصرف الرسوم، وما نسب الاستثمار في البنى التحتية أو التدريب أو الموارد التعليمية مقارنة بالمصاريف الإدارية والربحية. ومع هذا المناخ، يتحوّل التعليم الأهلي إلى نشاط تجاري بحت أكثر منه مؤسسة تربوية، ما يستدعي إصلاحات حوكمة تضمن أن يبقى الربح هدفاً مشروعاً، لكن ضمن إطار تربوي يضمن الجودة والعدالة ويمنع تحويل التعليم إلى سوق مفتوح بلا ضوابط.
-
الآثار الاقتصادية الوطنية للتوسع في التعليم الأهلي: تتجلى في مجموعة من التأثيرات التي تتجاوز المستوى الأسري لتطال البنية الاقتصادية والتربوية للدولة، فمع ارتفاع اعتماد المواطنين على المدارس الأهلية، يقل الضغط على المدارس الحكومية، ما يؤدي إلى انخفاض كفاءة الإنفاق العام على التعليم، إذ تُستثمر موارد الدولة في بنية تحتية ومرتبات، بينما يتجه جزء كبير من الطلبة نحو القطاع الأهلي، فتضيع الفائدة القصوى من هذه الاستثمارات، كما يزيد هذا الاعتماد من عدم المساواة في رأس المال البشري، إذ يحصل الطلاب الذين يستطيعون دفع الرسوم على تعليم أفضل ومهارات إضافية، بينما يبقى الآخرون في بيئة أقل جودة، ما يفاقم الفجوات الاجتماعية والاقتصادية، وكذلك يخلق هذا التوجه فجوة مهارية بين خريجي المدارس الأهلية والحكومية، إذ يتمتع بعض الطلاب بمهارات متقدمة ولغات وبرامج تقنية، بينما يفتقد خريجو المدارس الحكومية هذه الفرص، ما يؤثر في المستقبل على سوق العمل وقدرة الدولة على توفير قوة عاملة متكافئة ومؤهلة، وبهذا، يظهر أن التوسع غير المنظم للتعليم الأهلي يمكن أن يحوّل القطاع من رافد تعليمي إلى عامل يكرّس الفوارق الاجتماعية والاقتصادية، ما يستدعي وضع سياسات تنظيمية متوازنة تدعم التعليم الحكومي وتحقق العدالة في الوصول إلى جودة التعليم.
سادساً: المقارنة الدولية
-
التجربة الأردنية في التعليم الأهلي: تُعد نموذجاً يُظهر كيف يمكن للقطاع الخاص أن يكون داعماً للنظام التعليمي إذا أُحكمت قواعده، فقد اعتمد الأردن على توحيد المناهج بين المدارس الحكومية والخاصة لضمان تكافؤ الفرص وتجانس المحتوى التعليمي، فضلا عن رقابة صارمة من وزارة التربية والتعليم لضمان التزام المدارس الخاصة بالمعايير الأكاديمية والإدارية، كما يلتزم النظام الأردني بتقديم نتائج وطنية موحدة (التوجيهي) لجميع الطلبة، ما يمنع التفاوت غير المبرر بين المدارس، ويخلق معياراً شفافاً للقياس، وإلى جانب ذلك، تتميز التجربة بالشفافية العالية في المعلومات والبيانات المتعلقة بالمدارس، الرسوم، والمخرجات التعليمية، ما يمكّن الأسر من اتخاذ قرارات واعية، ويتيح للباحثين وصناع القرار تقييم جودة القطاع الأهلي بشكل موضوعي، وبهذا، يظهر الأردن كيف يمكن للتنظيم الحكومي الفعّال أن يجعل التعليم الأهلي قوة داعمة للنظام الوطني، بدلاً من أن يكون منافساً غير متوازن.
-
التجربة التركية في التعليم الأهلي: تقدم نموذجاً عملياً لكيفية دمج القطاع الخاص ضمن المنظومة التعليمية الوطنية من خلال نموذج الشراكة بين العام والخاص، حيث تتعاون الدولة مع المدارس الخاصة لتوفير التعليم مع الحفاظ على المعايير الوطنية، ويُشترط في هذا النموذج الدعم الحكومي المشروط بالجودة، أي أن التمويل أو التسهيلات المقدمة للمدارس مرتبطة بالالتزام بمعايير تعليمية وإدارية محددة، مما يضمن عدم التنازل عن الجودة مقابل الربحية، كما يعتمد النظام التركي على ضبط الرسوم لتفادي التفاوت الكبير بين المدارس وحماية الأسر من الأعباء المالية المفرطة، مع الحفاظ على استدامة المدارس الخاصة، هذه المقاربة تظهر كيف يمكن للحكومة أن تستفيد من إمكانات القطاع الأهلي دون المساس بعدالة التعليم أو تزايد الفجوة بين طبقات المجتمع، ما يوفر درساً مباشراً للعراق في ضرورة وضع سياسات تنظيمية متوازنة للقطاع الأهلي.
-
تجربة دول OECD في التعليم الأهلي: تُبرز نموذجاً متقدماً في كيفية دمج المدارس الخاصة ضمن النظام التعليمي الوطني مع الحفاظ على الجودة والعدالة، ويقصد بها منظمة دولية تضم 38 دولة (حتى الآن) تركز على التنمية الاقتصادية والسياسات الاجتماعية والتعليمية المستدامة، وتجمع دولاً ذات اقتصادات متقدمة أو في طور النمو المستقر، في هذه الدول، تُطبّق رقابة مستقلة من هيئة رسمية، مسؤولة عن تقييم المدارس الخاصة بموضوعية وفق معايير تعليمية وإدارية صارمة، ما يضمن أن كل مدرسة تعمل ضمن حدود واضحة وشفافة. كما تُطبّق شفافية كاملة في البيانات المتعلقة بالرسوم، والكادر التعليمي، والمناهج، ونسب النجاح، مما يمكّن الأسر من اتخاذ قرارات واعية، ويسهّل على صانعي السياسات والباحثين متابعة جودة التعليم، فضلا عن ذلك، توفر بعض هذه الدول تمويلاً حكومياً جزئياً للمدارس الخاصة، لكن هذا التمويل مشروط بالالتزام الصارم بمعايير الجودة، ما يحوّل الدعم إلى أداة لتحفيز التحسين المستمر وليس مجرد مساهمة مالية عشوائية، هذه التجربة تُظهر كيف يمكن للقطاع الأهلي أن يكون شريكاً فاعلاً في التعليم، ما يحقق التوازن بين حرية المدارس الخاصة واستدامة التعليم وجودته، ويُعد نموذجاً يمكن الافادة منه في سياق إصلاح التعليم الأهلي في العراق لضمان العدالة والفعالية.
الاستنتاجات
-
التوسع في التعليم الأهلي في العراق جاء استجابة لأزمات التعليم الحكومي وليس نتيجة استراتيجية وطنية.
-
الإطار القانوني الحالي ينظم الإجراءات الإدارية فقط، ولا يضمن جودة التعليم أو عدالته.
-
التفاوت الكبير في جودة المدارس الأهلية يعود إلى غياب معايير وطنية ملزمة للتقييم.
-
ارتفاع الرسوم يخلق فجوة طبقية ويحمّل الأسر فوق طاقتها، ويهدد العدالة التعليمية.
-
التفوق الظاهر لطلبة المدارس الأهلية لا يمثل حقيقة جودة النظام، بل يعكس عناصر اجتماعية واقتصادية.
-
تأثير التعليم الأهلي على المدرسة الحكومية سلبي في الغالب نتيجة هجرة الكفاءات وضعف الثقة.
-
غياب قاعدة بيانات وطنية يجعل من المستحيل تقييم القطاع بموضوعية.
-
التجارب الدولية الناجحة تعتمد على ضبط الجودة لا على فتح السوق بلا قيود.
-
موازنة بالتجارب الدولية العراق يحتاج الى: بيانات- رقابة- تصنيف- سياسة طويلة المدى- ضبط الرسوم- دعم التعليم الحكومي.
التوصيات
-
إنشاء هيئة وطنية مستقلة لاعتماد جودة المدارس على غرار اعتماد الجامعات.
-
إعداد تصنيف سنوي رسمي للمدارس الأهلية ونشره للناس.
-
ضبط الرسوم الدراسية بقانون يحدد الزيادات السنوية.
-
إعادة تأهيل المدارس الحكومية لاستعادة ثقة المجتمع.
-
بناء قاعدة بيانات وطنية تشمل كل المدارس الأهلية.
-
تأهيل وتدريب الكادر التعليمي وإلزام المدارس ببرامج تطوير مهني سنوية.
-
تحسين البيئة القانونية لضمان الشفافية المالية والمحاسبة.
المصادر
-
-
المهداوي، و. ج. (2018). المدارس الأهلية في الميزان الاقتصادي. المجلة العراقية للعلوم الاقتصادية. تم الاسترجاع من https://ecournal.uomustansiriyah.edu.iq/index.php/ecournal/article/view/252
-
l-Aaradi, H. R. (2025). The emergence and development of private schools in Iraq during the period 2003–2025: An analytical study. Journal of Jurisprudence Faculty, 1(51), 317–358. https://doi.org/10.36324/fqhj.v1i51.19417
-
(2024, January). How do public and private schools differ in OECD countries? Education Indicators in Focus, No. 84. OECD Publishing. https://doi.org/10.1787/90348307‑en
-
(2023). Education at a Glance 2023: OECD Indicators. OECD Publishing. https://doi.org/10.1787/e13bef63‑en
-
Al‑Shatti, H. Y. (2017). The explanations for the low quality in MENA public schools in comparison to the private schools. Tarbiyah (Al-Azhar Educational Journal), 36(1), 809–835
Loading...
زر الذهاب إلى الأعلى